أن كل من يمارس العمل الفني، يدرك أن عمله هذا مشابه تماما ً لما يعمله الفلاح ، حين يبذر حبوبه. وما عليه إلا الصبر والانتظار طويلا ً كي تتحول الحبة الصلبة الصغيرة إلي شجرة مفعمة بالحياة … شجرة ذات عطاء من ورود وأثمار … وكلما أراد الفلاح بذر الحبوب في الموسم القادم، تكرر كل شيء من جديد..
إن الابتكار الفني هو عبارة عن رغبة تكون في بداياتها كالبذرة نابعة من داخل الفنان، وهي في ظهورها تشبه عملية إيقاظ أشكال وألوان مضى عليها زمن طويل وهي راقدة في مخيلته.
في بعض الأحيان تكون الرغبة للابتكار متوفرة، إضافة إلى كل ما يتطلبه العمل الفني من ألوان وأوراق، لكن الأشكال قد تكون لازالت في حالة نعاس أو حتى في سبات عميق، فتولد هشة ضعيفة .
ففي هذا الصباح مثلا، أردت عمل خطوط حمراء، على مساحات كبيرة بيضاء. وكنت أرى في مخيلتي أشكال هذه الخطوط وما يحيط بها من فضاء واسع. لكن كل ما كنت أخطه على الورق كان يبدو صغيرا ومحصوراً ضمن مساحة ضيقة .
أردت من يدي تنفيذ ما أتخيله من فضاء لانهائي، ولكنها لم تطاوع رغبتي.
لابد من أن أوضح أولا ً لماذا أريد أن تعكس خطوطي الفضاء الواسع. لأن الفضاء الواسع يعني لي مجال النور و الحرية، أو هكذا أتصوره. فبالنسبة لي أن القضية هي التعبير عن موقفي من خلال العمل الفني.. لذا فأني أريد أن يعيش المشاهد لحظات الحرية من خلال رؤيته للخط الذي اعمله ...
أريد أن أخط كلمات تهِبُ الأمل، مجابهة العنف البشري والحزن الذي يخلفه فينا..
لذلك أريد لعملي الفني أن يكون مشحونا ً بطاقات مقنعة، تعين على مواجهة صعوبات الحياة. أريد أن احوّل الألم الذي احسه إلى مادة للخلق المتسم بالتفاؤل، ماذا ينفع العويل والبكاء في بيت يحترق..؟ وأثناء عاصفة هوجاء ومدمرة هل سينفع وصف هذه العاصفة لمن يعيشها ؟
يمكن للخط كعمل فني أن يتحول إلى موقف أخلاقي، عبر التقبل أو الرفض، في تعبير حركات الحروف وعبر المعنى للكلمات ... للخط أيضا ً قيمة جمالية من خلال البناء الهندسي والنور الذي يخترق المادة اللونية.
في الفضاء تهيم الغيوم وتطير العصافير … وفي الفضاء تتجدد الحركات بدون توقف … الفضاء ليس فارغاً. جميع الفنانين يختبرون الفضاء في عملهم الفني، وحتى الأدب الشعبي كان يعوم في الفضاء عبر بساط الريح ... في الفضاء تعوم هذه الكرة الحجرية الكبيرة التي نعيش عليها: الأرض. ومن بعيد نرى الكواكب والنجوم بحركاتها البطيئة.
يقول الحكيم الصيني لاو تسو: " تُصنع الأوعية من الطين ولكن الفراغ هو الذي يعطي الإناء منفعته" . فالفضاء إذن هو الذي يمهد الطريق للشكل للبحث عن الكمال .
إذن، كل شيء ممكن في الفضاء... وكل الحلول يمكنها أن تتحقق ... الفضاء هو الجديد غير المعروف. وهذا ما أبحث عنه في عملي الفني، وهو الذي يضفي التناغم في الخط كما الصمت في الموسيقى ...
الفضاء في المعمار هو الجانب المفيد للسكن ... وهكذا سيكون الفضاء خلف الخطوط ... مجال الحلم لي وللمشاهد فيما بعد .
أريد بجانب خطوطي فضاءً ممتلئاً ، كامتلاء الفضاء المحيط بنا بموجات غير مرئية للبث المتعدد : راديو وتلفزيون وتلفون ... نعم فضاء ممتلئ ... لا يمكن إضافة أي شيء إليه . ولكنه يبقى فضاءً رحباً يمكن للخيول أن تعدو فيه .
كل ما عملته هذا الصباح من خطوط بدت لي صغيرة ومغلقة داخل مساحات ضيقة كما قلت، فتوقفت عن الخط متسائلا ً متى سأستطيع خط ما أراه في ذهني ؟… متى سأرى على الورق الخطوط التي أراها بوضوح في مخيلتي ؟ متى سأرسم الحرية من خلال حروفي وكلماتي الطائرة داخل فضاء مطلق ؟
بقيت في حوار داخلي انتظر تحقيق هذه الرؤى … يقول السرياليون: إن التمدد والتخيل هو عمل أيضا، فقلت في نفسي لأترك الألوان والأوراق جانبا ً . وأبقى في التأمل … في حلم يقظة …التأملات تترك الذهن عائماً على الدوام ... فيكون رحباً لاستقبال مختلف الأحاسيس.
ألم يبتكر الخطاط الإيراني القديم أسلوب التعليق، بعد حلم رأى فيه أشكال الحروف مرسومة على جسم بط طائر في الفضاء؟ ومنذ القرن الرابع عشر تتطاير حروف التعليق في الفضاء غير آبهة بالسطر الذي تحتها. ومنذ ذلك الزمن يغذي حلم هذا الخطاط الملايين من الناس جماليا ً .
عدت بأفكاري بعيدا ً ... بعيدا ً … إلى الأزمنة القديمة، عندما كان الخطاط ينهض في الصباح الباكر. يأخذ قلمه ومحبرته وأوراقه . وبعد ساعات طويلة من التمرين على الحروف وقواعدها يتوقف فجأة ليقول انه لم يصل إلى ذروة القوة المطلوبة لحرف الهاء أو حرف الحاء مثلا ً . ويقرر العودة في اليوم التالي للخط من جديد ...
فهنالك طاقات ضرورية ولابد منها للخط ، تشبه طاقة التيار الكهربائي، التي تولّد النور في المصباح ... طاقات تشحن الحروف فيبدو الخط جميلا . وعندما يتلذذ المشاهد بهذه الرؤية فأنه سوف يتسلم هذه الطاقات التي ستشحن بدورها قدراته وتعينه على العيش .
وقد لخص الخطاط ابن البواب قبل ألف سنة معضلة الخلق الفني بهذا النص :
"إن من تعاطى هذه الصناعة ـ يحتاج ـ إلى فرط التوفر عليها، والانصراف بجملة العناية بها والكلف الشديد بها ، ولوع الدائم بمزاولتها .
فأنها شديدة النفار بطيئة الاستقرار ، مُطمعة الخداع ، وشيكة النزاع ، عزيزة الوفاء ، سريعة الغدر والجفاء .
نوار قيدها الأعمال ، شموس قهرها الوصال ، لا تسمح ببعضها إلا لمن آثرها بجملته ُ ، وأقبل عليها بكليته ، ووقف على تآلفها سائر زمنه واعتاضها عن خله وسكنه .
لا يؤسيه حيادها ولا يغمره انقيادها ، يقارعها بالشهوة والنشاط ، ويوادعها عند الكلال والملال حتى يبلغ منها الغاية القصية ، ويدرك المنزلة العلية .
وتنقاد الأنامل لتفتيح أزهارها ، وجلاء أنوارها ، وتظهر الحروف موصولة ومفصولة ، ومعماة ومفتحة في احسن صيغها وأبهج خلقتها .
منخرطة المحاسن في سلك نظامها ، متساوية الأجزاء في تجاورها والتآمها ، لينة المعاطف والأرداف ، متناسبة الأوساط والأطراف .
ظاهرها وقور ساكن ومفتشها بهج فاتن ، كأنما كاتبها ـ وقد أرسل يده وحث بها قلبه ـ رجع فيها فكره ورويته … "
إن ابن البواب يقول في هذا النص كل شيء . إذ لابد من الولوج في عالم الخط بتهيؤ كامل من الجسم والإحساس ... من القلب ... فإن كان القلب مثقلا ً ستكون الخطوط ثقيلة ويتضاءل الفضاء من حولها. وإن كان القلب خفيفا ً ستطير الخطوط في الفضاء الرحب … ففي لحظة الخط أكون والخط واحد، أي يصبح الخط أنا، وأصبح أنا الخط.
ولكن هل أن ما أعمله يشابه مما يعمله ابن البواب في القرن الحادي عشر ، وهل يمكنني المقارنة في هذا المجال ؟ كان الخطاط القديم يريد التوصل إلى خط يقترب مما تعلمه من أستاذه وأستاذ أستاذه … بينما إنني اليوم أتتمسك بتركة الماضي بما هو الأكثر نبلا ً والأكثر جمالا ً فقط . ولم يعد الخط عندي وسيلة للكتابة فقط ، بل عمل فني بحت …
الخط لدي شيء آخر ... إنني أخط للرؤية أكثر من القراءة، لذا تأخذ حروفي التعبير عبر اشكالها وهندستها المبسطة … تبدو مرة في الراحة والثبات ، وأخرى في الحركة والمثابرة ... تطير في الذهاب والإياب …في تردد أو إقدام ... في غضب أو فرح .
وكل التقاء بين حرفين أو ثلاثة سيولد شكلاً جديداً لم اكن اعرفه مسبقا ً. كما أنني لا انظر للشكل فقط كما قلت، بل للفراغ أيضا الذي يكون خلفية للخطوط.
الفراغ موضوع هذه السطور ...
أبذل نفس الجهد في خط الكلمة والبياض خلفها على حدٍ سواء... نحو جسم الحرف واللاجسم المحيط به... وأهمية الفضاء هنا تعادل اهمية الكلمات المخطوطة ... فيتحول الفضاء إلى عنصر مادي أيضاً، يمكن فتحه وسحبه وتوسيعه .
أريد أن تتحول الكلمة عندي إلى ما يشبه تمثالاً كبيراً على ارض شاسعة، وهكذا أكون اقرب للفنانين التشكيليين ... فيتحول الخط لدي إلى لوحة تجريدية، لأنني اعمل شكلا ً يشغل مساحة نسميها بالسطح التشكيلي .
ولكني أتساءل مع نفسي وأقول: إنني اقرب للفنانين التشكيليين. وأظل أعيد السؤال: هل أنني فعلا ً اقرب للتشكيليين أم اقرب لخيال للشعراء ؟
إذا كان مظهر عملي يتطلب تقنيات الفن التشكيلي، فأن جوهر عملي على أية حال يقترب كثيرا ً من الشعراء. فكلانا يلعب بالكلمات … نحذف من العبارة ما نريد ... نقرب ونفرق الكلمات ، بهدف ولادة شرارة نور جديدة …
ألم يقل الجاحظ " … والشعر صياغة وضرب من التصوير . " وأنا اكرر معه: الخط أيضا ً هو صياغة وضرب من التصوير ...
الحرف ليس مجرد خط هندسي بسيط ، إنما هو عدة حركات مستقلة في ذاتها ولها حياتها الخاصة بها … كل حرف له بداية وتطور ونهاية. وعلى الرغم من كونه محدداً، فأنه لابد من أن يعطي تأثيرات وجدانية وعاطفية لا حدود لها، تكمن في إثارته إلى اللامحدود داخل شكله المحدد والمتواضع .
ثم أن معنى الكلمة قد يحاول الحضور في بعض الأحيان ويزج نفسه من خلال الشكل . فعندما اخط كلمة هواء أرى الهواء في الحروف. وعندما اخط النار فستكون الحروف كاللهب ترتفع إلى الأعلى. وخلف هذه العناصر سيكون الفضاء المرئي على الورقة خلف الخطوط، وهو النتيجة الحاصلة من علاقات الحروف فيما بينها. لذا فان الفضاء هو جديد في كل خط جديد .
نعم أجد نفسي اقرب للشعراء لان مادتنا الكلمات، ودائما ً ما يفرض الشعر نفسه عليّ… كهذا البيت للشاعر الأندلسي أبو المخشى عاصم بن زيد :
فبتنا والقلوبُ معلقاتٌ وأجنحة ُالرياحُ بنا تطيرُ
سبع كلمات تربط الإحساس الإنساني بالطبيعة … سبع كلمات ترسم لوحة أرى فيها الفضاء الواسع وهذا ما يهمني في كلمات أبو المخشى . وكل من يسمع هذا البيت الشعري، يخلق في ذهنه الصورة التي يريدها . ولا تتشابه هذه الصورة عند شخص وآخر وكذلك مدي اتساع المنظر. إن الشعراء يجعلون السامع ذكياً، يجعلونه يخلق الصور هو نفسه …
سبع كلمات لامعقولة … فلا يمكن للقلوب أن تعلق … و ليس للرياح أجنحة .
ألا يمكننا نحن الفنانين إعطاء صور بهذه القوة والبساطة ؟
ويحضرني الآن قولا ً للشاعر" كثيـّر" يجيب على حالتي في هذا اليوم بعدم الالتقاء مع الإيحاءات ، فقد قيل له : " يا أبا صخر كيف تصنعُ إذا عسر عليك قول الشعر ؟
فقال كثيّر : أطوف في الرباع المُخلية والرياض المُعشبة ، فيسهلُ عليّ أرصنهُ ، ويسرع اليّ أحسنهُ . "
إذن سأفعل ككثـيّر سأتجول في الرباع المُخلية كالصحراء … والرياض المُعشبة. فنحن محاطون بالحدائق …
لا..لا فأنني الآن اجلس لأغور في تخيلات هادئة … استعيد الذكريات عن كل ما يقترب من مناظر الفضاء الواسع ... وأنظر بوضوح في داخلي، فأرى عالما ً واسعا ً، وها هي الآن الخطوط الحمراء التي أود رؤيتها. وبالضبط كما أتخيلها داخل هذا العالم الرحب. لأن ليس كل ما هو كامن في داخلي صغير و مظلم. إن صور الرؤى الداخلية قادرة على أن تكون اكبر بكثير مما تراه العيون …
التأمل يقودني دائما ً إلى تكثيف طاقاتي الداخلية، لرؤية هذه الصور الكبيرة. وأحيانا ً يفجرها عندي بيت شعر، كما نسمع ونرى هنا صور الشاعر جميل بن معمر :
أقلب طرفي في السماء لعله يوافق طرفها حين تنظر
إن المثلث العالي الذي يرسمه الشاعر في الفضاء ، مذهل من حيث الاتساع . فنظرته تصعد للسماء . ومن مكان آخر فأن نظرة عينها تعلو للسماء أيضا، ولعل اللقاء بين نظرتيهما قد يتحقق هناك في الفضاء ... ليس المهم هنا واقعية رغبة الشاعر جميل فأنه يعرف جيدا ً أن ما يبغيه لن يتحقق قط . ولكن ما يهمني هنا هو الصورة المتخيلة المرسومة داخل الفضاء. إن هذا النوع من الصور هو ما أبحث عنه ، وهذا الفضاء الذي أريده ...هو فضاء كبير أرسمه بتسع كلمات فقط .
أما الشاعر ابن زيدون فيتكلم مع المطر طالباً منه أن يذهب إلى قصر حبيبته ولادة قائلاً:
يا ساري البرق غاد القصر وأسق به من كان صرف الهوى والود يسقينا
التأمل في الفضاء يقود ابن زيدون إلي ابتكار هذه الصورة الفضائية الهندسية ... نظرة عمودية إلى الأعلى لرؤية الغيوم ... آمراً إياها بالتوجه أفقيا ً لضواحي قرطبة ... وأخيرا ً الهطول على قصر الأميرة .
عند التأمل يكون الإنسان معلم نفسه . وها أنا أقول لنفسي: إن الشكل في الفن هو قبل كل شيء " فكرة " ولابد من رؤية هذه الفكرة بوضوح في ذهني قبل الانطلاق للبدء بالخط … وعندما لا توجد علاقة وصل بين اليد وهذه الفكرة ، فسيحكم على عملية الخط بالفشل مقدما.ً
وعندما وجدت هذه النظرية جاءتني عقبها وبسرعة نظرية متناقضة معها :
" الفكرة " تبقى عقلانية وفي العمل الفني لابد من مجال واسع للحدس، وعلى الجسد أن يعبر عن ذلك. لذلك اجدني مجبرا ً على تجاوز هذه الفكرة بسرعة وتخطيها إن أردت الابتكار .
ففي العمل الفني وفي لحظة الخط علينا أن ننسى كل ما فكرنا به مسبقا ً ونترك الجسم يعبر حسيا ً وحدسيا ًلحظة الإبداع .
****************
أعود للمتنبي في هذا البيت الشعري وأتساءل هل كان عقلانيا ً ؟ أم انه ترك لخياله حرية التعبير … التعبير عن الحالة الوجدانية والصورة الطبيعية في آن واحد :
كريشة ٌفي مهبِ الريح ساقطة لا تستقر على حالٍ من القلق
إن هذا البيت في حد ذاته لوحة خطية . أرى فيه فضاءً واسعاً وحروفاً ترقص في مهب الريح. الحروف كما الريشة تتحدى قانون الجاذبية الأرضية. تسلّم نفسها للرياح وتستسلم لها. أردت لخطوطي دوماً أن تكون كتلك الريشة، وأن تلمس الأرض بأقل ما يمكن ، أن توحي بالطيران ، تماما ً كالحمامة التي تركل الأرض برجل واحدة ، فاردةً جناحيها للطيران . في كل شكل أردت أن أرى نقطة ثبات ونقطة هروب ، في آن واحد .
يرسم البحتري صورة مشابهة لصورة المتنبي من الناحية الوجدانية ، ولكن بكلمات يختلط فيها البعد الجغرافي والفضاء :
وأستبطي إلى بغداد سيري ولو أنى رحلتُ على البراق ِ"
ونجد نفس المشاعر عند ابن المعتز، هذا الشاعر الذي عاش في بغداد يوم كانت " دار السلام " تعيش ظروف لا تختلف عما نعيشه اليوم من آلام ومآسي . إذ قتل ابن المعتز بعد توليه الخلافة ليوم واحد فقط . وفي هذا البيت الشعري يلخص الفضاء الواسع للعراق ، والأسى في قلبه :
الدار أعرفها رُبى ً وربوعا حتى أساء بها الزمان صنيعا .
ولو نهبط لجنوب العراق ، في صورة أخرى يائسة للفضاء الصحراوي . تركها لنا شاعر مجهول ، في لوحة تنم عن قدرة واسعة في رسم التخيلات :
سرى طيف ليلي عندما غلب الكرى سحيرا ًوصحبي في الفلاة رقود
فلما انتهينا للخيال الذي سرى أرى الجو قــــفرا ً والمزاد بعيد
أكاد أرى صورة هذا الشاعر في الصحراء متكورا ً على نفسه يزوره الحلم بعد أن غالبه النعاس ، يتدفأ بجنب بعير نائم في ليل شتوي بارد . يحيط به بعض رفاق الرحلة وحولهم الفضاء بلا حدود ... فضاء موحش وممتد حتى اللانهاية .
***************
لوحة أخرى للشاعر أبو الطيب المتنبي عن الفضاء في الصحراء . فأني أرى في مخيلتي الفضاء الذي يتكلم عنه في البيت الشعري التالي. ( فـقد ولد في الكوفة بمكان لا يبعد كثيرا عن المكان الذي ولِدتُ فـيه . )
وبعيدا عن جماليات الصحراء ، يرسم لنا أبو الطيّب الفضاء الصحراوي بشكل تراجيدي :
ذراني والفلاة ُ بلا دليلٍ ووجهي والهجيرُ بلا لثام ِ
كم من مرة تذكرت هذا البيت للمتنبي. أولا ً في النجف وصحاريها بجنوب العراق ، والرياح السريعة المحملة بالرمال والتي كنا نسميها " السموم " . وبعد ذلك في صحاري دول المغرب وموريتانيا ... عندما تداهم عواصف مدمرة تسدّ الفضاء وتحجب الرؤية . ولكني كنت دائما ً اشعر بفرح غامض يشوبه القلق عند مجيء الرياح ... فأن الرياح في الصحراء كطيور عملاقة غير مرئية في الفضاء الواسع . تـُغير على الكثبان المحدبة فتأخذ من رمالها الناعمة كالدقيق، وتصعد بها للسماء، فتصبح الرمال أمام الشمس وكأنها ستائر نسجت من نور ذهبي .
يأخذ الفضاء اللانهائي أشكالا ً محددة معلقة في السماء، الستائر الرملية البعيدة تكتسي باللون الذهبي، أما القريبة فتميل إلى اللون البرتقالي القاتم ... عند ذاك تتحول الصحراء إلى مدينة ذات معالم ذهبية من النور تقف على الكثبان التي تشبه حروف انسيابية من الخط الديواني أو خط التعليق .. النور هنا يقاوم الظلام ويتحداه ...
إن هذه الصور الكبيرة للفضاء لا يمكن رؤيتها بمكان آخر غير الصحراء . ولكن على أية حال لا يمكن تصويرها أبدا ً لأن كل هذا المنظر يرتسم في دائرة كبرى مركزها الإنسان . فيكون الأفق في نفس البعد لعين الإنسان من كل الجهات .
فراغ وفضاء الصحراء دائري ... ولاشيء يوقفه عند صعوده نحو الأعلى ... سوى بعض الغيوم البيضاء في عز الشتاء .
هنالك نقطة واحدة منيرة في هذا المنظر الكبير تحت السماء المعتمة . ألا وهي الشمس ، مصدر النور الذي يعطي لكل لون قيمته. وبذلك يخلق نور الشمس بدرجات لونية متناغمة توحي بعمق الفضاء ... قرص اصفر كبير من الذهب معلق في الأعلى بين الستائر الرملية التي يلاعبها الهواء .
وتنتهي مشاهد لعبة الرياح والرمال عند غياب الشمس ليلا ً وهبوط الألوان القاتمة . وعندما يأتي القمر نكون" نحن الثلاثة : القمر وظلي وأنا " كما يقول الشاعر الصيني لي تاي به. وهذا الشاعر هو الآخر يرسم لنا لوحة كبيرة في الفضاء ولكن بأقل كمية ممكنة من الحروف. بساطة مذهلة أليس كذلك ؟
وهكذا أن فضاء الصحراء الدائري والحرية المطلقة التي يوفرها ، يجعلنا نفهم ما يقوله الشاعرشنفرة :
لعمرك ، ما بالأرض ضيق ٌ على امرئ سرى راغبا ً أو راهبا ً ، وهو يعقل ُ
فكر شنفرة وإبداعه الفني ملخص هنا بكلمات بسيطة ... أهداف أخلاقية تزيد من وعي الإنسان وتساهم في تكوين مبادئه ... فأن فضاء شنفرة هو الحرية، وهو يرى أن الإنسان يمكنه أن يكون حرا ً إن أراد ولا ضيق عليه في الأرض، لأن الحرية الحقيقية والفضاء الواسع موجودان في ذهنه. ويوضح فكرة شنفرة الزنجي الأمريكي مارتن لوتر كنج في العبارة التالية : " لا يستطيع استعبادي أحدا ً إذا لا أفكر كعبد " ... فضاء شنفرة إذن هو حرية الإنسان وكل هذه الحرية تكمن في ذهنه قبل كل شيء . وهذا هو الفضاء الذي ابحث عنه وأريد أن أضعه في خطوطي .
هنالك نص للشاعر جلال الدين رومي يروي فيها قصة نهر يريد عبور الصحراء فتمتصه الرمال كلما توغل في الفضاء الصحراوي. فيصيح متعجبا ً ومحتجا ً بأنه عبَََرَ الجبال والوديان فكيف لا تسمح له الصحراء بالعبور ؟
فيأتيه صوت من الرمل يقول له : انك تستطيع عبور الصحراء ولكن على شرط أن تتغير و تتحول إلى بخار، وتصعد في الفضاء فيحملك الهواء على شكل غيوم ، وفي نهاية الصحراء سوف تصطدم بالجبل وتسقط كمطر وتسيل كنهر من جديد ...
وهكذا علينا نحن الفنانين قبل البدء بعمل فني مبتكر، أن نعيش مخاضا ً جديدا ً مثل ذلك النهر، وأن نتغير في كل يوم جديد عن الأمس القديم ...
وإلا سوف تمتصنا الرمال ...
لو أردت عمل خطوطي الحمراء داخل فضاء واسع، فلابد من أن اخلق هذا الفضاء في داخلي قبل بدء الخط ... وهذا هو الشرط الأول ... أي أن العمل الفني هو انعكاس لصورتي الداخلية. إذا كان الفضاء ضيقا ً، فذلك يعني أنني أعيش حالة انكماش وتقوقع . وان أردت للفضاء أن يكون متسعا ً فيجب أن اعمل على الوصول إلى هذا الاتساع قبل كل شيء . ولو أردت الحرية في مظهر خطوطي علي ّ أن أعيش هذه الحرية كما يقول المتنبي :
وكم من جبال جبت تشهد أنني الجبال وبحر شاهد أنني البحر
العلو في ارتفاع الجبال يوحي بأشكال عمودية. ومنظر البحر اللانهائي يوحي بامتداد أفقي ...
وفي هذه الأماكن تكون السماء عريضة والفضاء على اتساع كبير ...
وهكذا نرى في هذا البيت الشعري فضاء آخر رسمه لنا الشاعر المتنبي ، يختلف عما رسمه في البيت الشعري السابق للفضاء الصحراوي .
بعد هذه الجولة في عالم الشعراء ورؤية الفضاء الذي يرسمونه . أرى الصور الخطية في مخيلتي أكثر وضوحا ً، وما علي ّ الآن ألا أعود للألوان الحمراء والورق ...لقد تحررت تخيلاتي من التردد. استيقظت الرؤى، وأشكال الخطوط اقتربت .
سأحاول دائما ً الولوج والتغلغل في مخيلة الشعراء وسأخط كلماتهم :
سأخاطب بغداد مع الجواهري : حييت سفحك عن بُعد فحييني يادجلة الخير يا أم البساتين .
وأحيي مع ابن الدمينة : أيا ساكنين شط دجلة : كلكم إلى القلب من اجل الحبيب ، حبيب .
ساحة النقاش