الابداع الثقافى

يضم الثقافة فى شتى مجالاتها

ما هي التدابير التي يمكن أن نتخذها حيال العديد من المواقف اليومية ؟ أية نواحي من حياتنا الاجتماعية يتوجب التخلي عنها؟ أين هي “قوانين النظام الاجتماعي” و الإجراءات المؤسسية التي تحكم تفاعلاتنا والتي تقودنا إلى التفاعل سلبياً تجاه بعضنا بعضاً؟ ما هي القوى التي تدفع باتجاه التوافق، والتي يمكن تعبئتها؟ ما هي القوانين والمؤسسات التي يجب علينا الكفاح لأجلها؟

هذه الأسئلة تمثل مجال المبحث الذي نسميه “الاقتصاد الدستوري” والذي يقع في صلب اهتمامه الأنظمة التي تحكم النظام الاقتصادي – السياسي. ومن رواد هذا الحقل من التحليل عالم نوبل للاقتصادجيمس بيوكانن، والزميل الأقدم بمعهد كيتو في واشنطن العاصمة.

هذه الأسئلة المهمة — حتى وإن تمَّ تجاهلها على نطاق واسع في الأبحاث الحديثة— فأنها لاتطرح في فراغ فكري تحليلي تام. لقد أشغلت هذه الاسئلة في الواقع عقول بعض أعظم المفكرين في التراث الغربي.

وبشكل محدد، يقدم الاقتصاد الدستوري تشخيصاً لأنماط مختلفة من التفاعلات، والطرق التي تكون بموجبها القوانين والأنظمة والمؤسسات ذات علاقة بطبيعة التفاعلات التي تسود. وحتى تكون فاعلة، تحتاج الأنظمة إلى الاستقرار. ذلك أنها إذ ما كانت خاضعة لتغييرات مستمرة، فإن المعلومات التي تعطيها تصبح لا قيمة لها.

إلا أن هذه النتيجة تُشير إلى أن هنالك ميل طبيعي نحو المحافظة في المجال الدستوري. مجرد إظهار أن الحالة (أ) ستكون أفضل من الوضع القائم، بمجرد أن تتحقق حالة (أ)، ليس كافياً للدليل على أن الانتقال من الوضع القائم له ما يبرره.

إن الاعتراف بهذه الحقيقة يكشف النقاب عن تمييز بين “التصميم الدستوري” و”الإصلاح الدستوري”. في التصميم الدستوري حيث لا تكون هنالك أنظمة فعالة قائمة مسبقاً، كل ما هو مطلوب هو الاختيار بين مجموعة أنظمة يؤدي كل منها الى مجموعة من النتائج. والنظام الذي يؤدي إلى نتائج أفضل هو النظام المفضل. ولكن عندما يتعلق الأمر بتغيير نظام قائم، كما هي الحالة في الإصلاح الدستوري، فإن النظام الذي يحقق أفضل مجموعة من النتائج، ليس بالضرورة الأفضل.

النقاش هنا يعطي بعض القوة لدعاة التطور التدريجي الاجتماعي الذين يكرهون حماسة من يدعون الى خلق الدساتير. فإنه من الأفضل للمجتمعات عدم محاولة التغيير حتى يتوافر لها أنظمة مستقرة ومقبولة. إلا أن تبني هذه المقولة لايعني بالضرورة القول بأن الإصلاح المتعمد للأنظمة القائمة لن يكون مرغوباً فيه في جميع الأحوال.

إنما تنبهنا هذه المقولة فقط إلى الحاجة للقواعد المتعلقة بالإجراءات التي يمكن بواسطتها تغيير الأنظمة القائمة، وبالأخص للتأكد بأن تغيير الأنظمة لا يجب أن يتم دون الأخذ بالاعتبار بثمن المراحل الانتقالية.

قد تكون الحاجة إلى نظام واضحة بشكل مباشر؛ إذ لا يستطيع المرء أن يتصور سيناريوهات بدون وجود أنظمة. وفيما يتعلق بالتفاعل الاقتصادي بين الأفراد، وهو الأكثر أهمية، فإن الأنظمة التي تحكم سلوك الأفراد كثيراً ما يتم تجاهلها.

حتى علماء الاقتصاد أنفسهم كانوا مهملين بشكل فاضح في هذا المجال. إن دراسات تحليلية معقدة حول أعمال السوق تتم في كثير من المناسبات بدون أدنى إشارة إلى الأنظمة التي يتعامل الأفراد في الأسواق ضمن إطارها. ولكن آدم سميث لم يكن واحداً من أولئك المتجاهلين؛ فقد أكّد على أهمية “القوانين والمؤسسات”، في النظام الاقتصادي.

إن التباعد والتخلي عن تأكيد سميث والعلماء الكلاسيكيين على النظام يظهر أكثر ما يظهر في تحليلات “فشل الأسواق” في اقتصاديات الرفاه، والتي تطورت في العقود الوسيطة من القرن الماضي، حيث تم الادعاء بأن الأسواق سوف تفشل عندما تقارن وتقاس بالأنماط المنمقة المستقاة من تمارين علماء الاقتصاد في المعادلات الرياضية. لقد تمت التحليلات وكأن القيود المؤسسية لا علاقة لها إطلاقاً بالطريقة التي يتفاعل فيها الأفراد ضمن هياكل السوق.

مثل هذا التحيُّز، المتمثل في النظر إلى النتائج بدلاً من الأنظمة التي أوصلت إلى تلك النتائج، كان سبباً في خلق حالة من الارتباك العميق. فإصلاح النتائج يتأتى من خلال إصلاح الأنظمة، وليس من خلال التلاعب بالنتائج مباشرة. كما أن الاندفاع المعتاد لعلماء اقتصاد الرفاه كان يأخذ شكل تأييد الحكومة أو التدخل الجمعي في الأسواق.

هنالك طرق عدة للنظر إلى العمليات السياسية بنفس المعايير التي ننظر بها إلى الأسواق. الأولى والأكثر أهمية هنا هي النظر إلى العملية السياسية كنظام للتفاعل بين الأفراد والذي تنتج عنه النتائج الموازية. وجهة النظر هذه متوافقة مع عدد من الدوافع التي يمكن أن نعزوها إلى الأفراد،. أما الدوافع والمقاييس، فيمكن اختيارها من جعبة أدوات عالم الاقتصاد.

ما هو مهم هنا، مع ذلك، ليس الدافع وراء العوامل، ولا المعايير التقديرية، إنما الاستعداد لفحص العملية السياسية بالمعايير العامة ذاتها التي نقيس بها الأسواق.إن التفاعلات الموضوعية بين الافراد، وفق مجموعة من النظم (المؤسسات السياسية) تؤدي في النهاية إلى فرز نتائج محددة ينتج عنها التوازن. فإذا كانت قدرات وأهداف الأفراد معروفة، فإن الطريقة الوحيدة لتغيير نمط النتائج يكمن في تغير الأنظمة. وتغيير الأنظمة بالمقابل سوف يُغيّر النتائج التي تنبثق عن أي مجتمع من الأفراد.

يجب أن ننبه القارئ هنا إلى الدقة الضرورية في التمييز بين الأنظمة والنتائج في الإطار السياسي. في أحد المستويات، فإن أنظمة اللعبة السياسية واضحة بشكل كافٍ: حكم الأغلبية؛ الانتخابات الدورية؛ القيود المختلفة على مقدرة الحكومة على المبادرة ؛ وجوب تقديم حساب متكامل حول نفقات الأموال العامة؛ التكوين الجغرافي للترتيبات الانتخابية، بما في ذلك إمكانية تقسيم الصلاحيات السياسية نفسها وفق الأنظمة اللامركزية، إلخ. ومع ذلك، فإن كثيراً من تلك المعالم نفسها تتكون من العملية السياسية. على سبيل المثال، التفاهمات فيما يتعلق بالمجال المناسب للنشاط العام، والتي لها قيمة دستورية مهمة، تتم إلى حد كبير بقرارات سياسية متواصلة. ومن هذا المنطلق، فإن التمييز بين الأنظمة والنتائج يميل إلى الغموض في الإطار السياسي.

يضاف إلى ذلك أنه ما دامت الأنظمة والقرارات ضمن النظم نفسها تنبثق عن عمليات سياسية متشابهة، فإن أهمية التمييز بينهما تبدو مبالغاً فيها. إنه ففي الحالات التي لا يكون فيها التمييز واضحاً ، يمكن أن تتعرض الأنظمة الأساسية في اللعبة السياسية إلى الخطر—ولهذا السبب علينا المحافظة على التمييز بين الأنظمة والنتائج ضمن الإطار السياسي.

الحجة الأولى لدراسة الأنظمة في مجال الاقتصاد الدستوري تعتمد على الاعتراف بالدور الذي تقوم به الأنظمة في فرز نتائج متوازية أو نمط من النتائج لمجوعة من المشاركين الاجتماعيين يتمتعون بقدرات وأهداف. وكما ذكرنا أعلاه، فإن التفاعل الذي يجري بين الأفراد أنفسهم ضمن أي مجتمع من المجتمعات قد يُولِّدُ العديد من النتائج الاجتماعية، رهناً بالأحكام التي تكون مرعية ومطبقة. ولكن فقط تلك النتائج الاجتماعية التي تكون مقبولة وذات جدوى هي تلك التي ينتج عنها توازن ضمن ترتيبات مؤسسية، ولهذا السبب، فإن من التضليل بحث جميع النتائج الاجتماعية التي يمكن تصورها واختيار أحدها كمثال لما هو أنسب في تقييم مستقل للمعايير. فالترتيبات المؤسسية تقيّد مجموعة النتائج ذات الجدوى بشكل لا يقل أهمية عن القيود الفيزيائية الأساسية التي تحدد آفاق المنتجات المرغوبة.

بيد أن السؤال الدستوري الطبيعي هو: كيف لنا أن نتأكد بأن الاختيار “الأفضل” سوف يتم عبر العملية السياسية؟ سوف يكون من الأجدى، بكل تأكيد، أن نحدد مجموعات بديلة من الأنظمة السياسية، وأن نتفحص التوزيعات التي تتأتى عنها. فإذا لم يتبين بأن أياً منها تتناسب مع “الأفضل”، عندها يجب أن نصل إلى قناعة بأن “الأفضل” ليس ممكناً.

إن أي مروِّج للدستور يُصر على دراسة الأنظمة لأنه يسعى إلى ضم جميع القيود ذات الصلة ضمن تحليلاته. ولكن، أن تُترَك القيود المؤسسية جانباً ليس أقل خطأً، من الناحية التحليلية، من تجاهل القيود على القدرات الإنتاجية لعناصر الاقتصاد، أو إهمال القيود الناتجة عن شح أساسي في الموارد.

الحجة الثانية لدراسة الأنظمة مستقاة من الطبيعة ولها أبعاد مختلفة. فالاختيار بين الأنظمة، كونها مطبقة على امتداد سلسلة طويلة من الأفعال حيث تكون فيها حظوظ كل لاعب غير مؤكدة، ينطوي على بعض الخصائص الخاصة التي تكون غائبة من إطار الاختيار ضمن الأنظمة التي يكون فيها موقف كل لاعب من اللاعبين محدداً بشكل دقيق. وبشكل محدد، هنالك نزوع طبيعي لتعارض المصالح بين اللاعبين، ولكن ذلك يميل إلى الاعتدال الكبير عند اختيار الأنظمة، وبالتالي توسيع آفاق الاتفاق فيما يتعلق بالأحكام والأنظمة بينهم.

مع ذلك، هناك بُعد آخر للحجة المعيارية والداعية إلى الاهتمام بالأنظمة بدلاً من النتائج. والمتمثل بادعاء أن المرء لا يستطيع أن يُقيِّم النتائج إلا إذا توافرت المعلومات حول كيفية الوصول إليها. مثل هذا الادعاء يمكن تقديمه على أساس أن العملية هي في جذورها ذات علاقة معيارية، أو على أساس أن المعلومات في العملية بدورها تقدم معلومات حول النتائج، والتي بدونها يكون صعباً أو مستحيلاً القيام بأي تقييم.
المصدر: from دار العدالة والقانون العربية > موقع محامو العرب > منظومه قانونية عربية متكامله by نوفورما
  • Currently 20/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
6 تصويتات / 297 مشاهدة
نشرت فى 3 مايو 2011 بواسطة foxrever

ساحة النقاش

عبدالوهاب اسماعيل

foxrever
»

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

783,870

ابحث