أ.د. رضا عبد السلام
وكيل حقوق المنصورة
ومستشار لدى منظمة الأمم المتحدة
علينا أن نتفق بداية على أن مصر بعد الثورة ينبغي أن تختلف كلية عن مصر فيما قبلها. ومن ثم ينبغي أن يطال التطوير والإصلاح كافة مؤسسات الدولة، بما فيها مؤسسة القضاء وجهاز العدالة. أنا أتحدث هنا بصفتي أستاذاً في كلية الحقوق، وبصفتي أيضاً صاحب تجربة مع سرداب التعيين في الهيئات القضائية.
تشهد الأيام القليلة المقبلة مرحلة مهمة في تاريخ خريجي كليات الحقوق والشريعة والقانون على مستوى جمهورية مصر العربية، حيث يتقدم الآلاف من خريجي تلك الكليات للتعيين في كل من مجلس الدولة، والنيابة العامة، والنيابة الإدارية، وهيئة قضايا الدولة والجهاز المركزي للمحاسبات.
نعلم جميعاً أن عملية التعيين خلال العقود الغابرة، التي سبقت 25 يناير، كانت تعاني من الكثير من جوانب القصور، والفساد في أحيانٍ كثيرة. فقد كانت الكلمة الأولى – على سبيل المثال – لتقرير مباحث أمن الدولة، فضلاً عن الحالة المادية للمتقدمين واعتبارات أخرى مخجلة. فإذا خلُص تقرير مباحث أمن الدولة – مثلاً - إلى أن زوجة الحفيد الأكبر لابن خالة عم المتقدم!!! كانت سيئة السلوك، أو أن والد زوجة ابن عمة المتقدم حُكِم عليه بحكم جنائي!!، فَقَدَ الشاب الطموح فرصته في التعيين، حتى ولو كان من أوائل الدفعة. وإذا خلص التقرير السري إلى أن الشاب المتقدم للتعيين ينتسب إلى أسرة ريفية بسيطة، أو أن والده يعمل في مهنة متواضعة ولكنها شريفة، أو أن دخل الأسرة محدوداً، كان هذا الشاب مصيره قارعة الطريق، ليتحول إلى عدو للمجتمع وناقم عليه.
وفي المقابل، نعلم جميعاً أن هناك المئات - إن لم يكن الآلاف - ممن عُينوا في السابق في الهيئات القضائية لم يكونوا من المتفوقين، بل ربما لم يدخل أحدهم محاضرة أو قضى على الأقل ست أو سبع سنوات على أرصفة شوارع الجامعة، حتى تخرج في كلية الحقوق. ولكن نظراً لواسطته القوية، أو المبلغ الكبير الذي تم دفعه للشخصية المهمة، تمكن من الجلوس على كرسي العدالة، وذلك على حساب مئات المتفوقين، الذين أُلقي بهم إلى قارعة الطريق. وقضية محامي طنطا ليست عنا ببعيد. كما أن الوقفات الاحتجاجية التي نظمها مئات المتقدمين للتعين بالقضاء، خلال الأيام الماضية، تعكس مشكلة حقيقية جديرة بالمواجهة الجادة.
ما عرضت له أعلاه ليس مجرد اتهامات جزافية، ولكني عرضت لهذه المشكلة منذ أكثر من سبع سنوات في كتاب منشور، تحت عنوان "القضاء من أجل التنمية"، وهو متاح على شبكة الإنترنت لمن يريد الاستزادة. والقضاء في هذا الخصوص ليس استثناءً، فشأنه شأن باقي مؤسسات الدولة التي عانت من تغلغل الفساد وتطاول المفسدين. ما أود قوله هو أن مؤسسة القضاء أولى بها من أي مؤسسة أخرى في أن تصلح من شأنها الداخلي، حتى نضمن بحق كفاءة وعدالة ونزاهة واستقلال القضاء. فلا يمكننا أن ننتظر العدالة أو الخلق القويم من قاض أو كيل نيابة دخل هذا جهاز العدالة من بابه الخلفي، كالدفعات الاستثنائية لأبناء المستشارين وأبناء ذوي الحظوة...الخ.
علينا ألا نضع رؤوسنا تحت الرمال، ونغفل هذه الحقائق الدامغة، ومن يريد أن يواجهني عليه أن يتيح لي فرصة الاطلاع على ملفات من عينوا في الهيئات القضائية على مدى العقدين الماضيين فقط!!! فأستطيع أن أجزم بأن مالا يقل عن 50 أو 60% ممن عينوا كان مكانهم الصحيح هو الأرصفة التي اعتادوا على الجلوس عليها خلال سنوات الدراسة. هؤلاء، وفي سبيلهم، تمت التضحية بآمال وطموحات الآلاف من المتفوقين أو الطموحين من خريجي كليات الحقوق والشريعة والقانون، والذين لم يكن لهم من ذنب سوى أنهم ولدوا لأسر بسيطة، أو أن أحد أقاربهم غير المعروفين ارتكب جريمة. إلا أن أصحاب الشأن عكفوا على إبطال مفعول قول الحق تبارك وتعالى "ولا تزر وازرة وزر أخرى".
ولهذا وفي ظل هذه البيئة المؤهلة والمعدة لإفساد القضاء، لم يكن غريباً أن يخرج علينا أحد المستشارين وبجرأة مخجلة، بأن يتجرأ ويعلنها صراحة، وأمام وسائل الإعلام بالقول: "إذا لم نعين أبنائنا في الجهات القضائية فأين نعينهم" وكأنها تركة ورثها عن والديه، فأنى ننتظر العدالة من إنسان غير عادل؟!! تحجج هؤلاء المستشارون بأن أساتذة الجامعات يعينون أبنائهم معيدون...الخ، وكأن الخطأ بات أساساً ليتم القياس عليه، ومن الذي يجري هذا القياس: رجل قضاء؟؟!!
إذاً، طالما أن مصر مقبلة على عهد جديد، فلابد أن يطال التطوير كل شيء، ومؤسسة العدالة أولى بأن تقدم لباقي مؤسسات الدولة المثل والقدوة في الشفافية والنزاهة. فأنا لا أدعي أن كل من في القضاء فاسدون، أو عينوا بطرق غير مشروعة، ولكن الفساد قائم وجلي للعيان، والإقرار بالخطأ هو أول خطوة على طريق الإصلاح.
لقد أثر هذا التوجه المشين، في مسألة التعيينات في الهيئات القضائية بالسلب على العملية التعليمية في كليات الحقوق، وأنا أستاذ وأدرك هذا جيداً. فالطالب يدرك منذ يومه الأول في كلية الحقوق بأن تقديره واجتهاده في الكلية لن يكون المعيار الرئيس للتعين، وبالتالي فلما الاجتهاد ولما العمل والكد. فأولى به أن يفكر في الإعداد لدفع مئات الآلاف من الجنيهات لواسطة ثقيلة ليحجز له مكان في القضاء.
أضف إلى ما سبق هو أننا عكفنا خلال السنوات الماضية على رؤية الكثير من أبناء الحظوة يتفسحون في الهيئات القضائية. فتجد ابن المستشار الفلاني أو المسئول الفلاني، ورغم فشله البيِن في كلية الحقوق، يعين في النيابة العامة، وبعد أيام يطلب من والده الانتقال إلى مجلس الدولة، فإن لم يعجبه الوضع ينتقل إلى النيابة الإدارية...الخ. فهذا الشاب المعجزة، وفي رحلة التنقل تلك، أضاع الفرصة على العشرات من المتفوقين الذين لم يكن لهم من ذنب سوى أنهم ليسوا من ذوي الحظوة!! ولن أن نتخيل تبعات هذا الوضع المشين على من سلبت حقوقهم، هل نلومهم إذا اختطفتهم يد الإرهاب أو الجريمة أو الإدمان...الخ!!!
وبناءً عليه، يفترض أن تشهد الفترة القادمة حركة تصحيح جذري لمسألة التعيين في كافة الهيئات القضائية، بحيث يتم التقيد بالمعايير والضوابط الآتية:
أولاً: أن يكون المعيار الأول والرئيس للتعيين هو التقدير الذي حصل عليه المتقدم في الليسانس. وجداول الخريجين من كليات الحقوق جاهزة وواضحة وضوح الشمس في كبد السماء، بحيث يعتبر الطالب بهذا التقدير مؤهلاً من حيث المبدأ للتعيين.
ثانياً: ألا يكون المتقدم (وليس أي من أفراد أسرته) قد عوقب (وليس مجرد اتهام فالمتهم برئ إلى أن تثبت إدانته) عن جريمة مخلة بالشرف أو الأمانة.
ثالثاً: أن يًكتفى بعد ذلك بمقابلة شخصية، يتم خلالها سؤال المتقدم أسئلة موضوعية، للتعرف على شخصيته وقدرته على المواجهة، ولقياس رد فعله، وغير ذلك من المهارات الموضوعية.
رابعاً: أن يُسمح لمن يتم استبعاده بالتظلم، والخضوع لمقابلة ثانية أمام لجنة أخرى، لضمان الحياد والمزيد من الموضوعية.
خامساً: أن يتم الاكتفاء بتعيين خريجي كليات الحقوق والشريعة والقانون، بمعنى عدم السماح بتعيين ضباط الشرطة. فضابط الشرطة كلف الدولة الكثير، وفي نفس الوقت، وعلى الرغم من دراسته لمواد قانونية، إلا أن تكوينه العلمي لا يمكن أن يلاءم العمل في الهيئات القضائية، وفي نفس الوقت، ليتيح الفرصة لغيره من خريجي كليات الحقوق والشريعة والقانون.
خامساً: أن تتم عملية التعيين والاختيار بشفافية كاملة، بحيث تتاح الفرصة لمؤسسات المجتمع المدني، لمعرفة ومتابعة تلك الإجراءات، وبالتالي ضمان المزيد من الموضوعية في عملية التعيين.
بهذه الطريقة سنضمن إن شاء الله تحقيق الكثير من الإيجابيات، الذي ستدعم مستقبل مصر الثائرة، وعلى رأسها:
إعادة الأمل للمجدين والمتفوقين من خريجي كليات الحقوق والشريعة والقانون.
2. وضع كليات الحقوق في المكانة التي تليق بها، حيث سيدرك الطالب - ومنذ يومه الأول - بأن هناك مستقبل عظيم ينتظره "حال اجتهاده وحصوله على التقدير المتميز"، وبالتالي الارتقاء بالعملية التعليمية في كليات القانون.
3. إعادة ثقة المجتمع في مسألة التعيين في الهيئات القضائية، وبالتالي المزيد من الاحترام والتقدير لجهاز القضاء والعاملين فيها.
4. والأهم من كل ما سبق، ضمان تغذية مؤسسة القضاء بالكفاءات المؤهلة، وبالتالي تمكين هذه المؤسسة العظيمة من القيام بدورها المنشود في تحقيق العدالة الناجزة، التي تدعم عملية التنمية. فلا يمكن أن يُنتظَر ممن دخل المؤسسة القضائية من الباب الخلفي، أن يقدم العدالة ويشيعها بين الناس، ففاقد الشيء لا يعطيه.
اللهم هل بلغت اللهم فاشهد،
ساحة النقاش