الربيع العربي أزهر، ولن تعود الجماهير القهقرى
حوار مع الأستاذ فراس حج محمد
مصباح عماد الناصر، ألفت العملة، فراس العامودي
جامعة النجاح الوطنية/ كلية الآداب- قسم اللغة العربية
بطاقة تعريف:
أ. فراس حج محمد، شاعر وناقد وأكاديمي فلسطيني، يحمل درجة الماجستير في الأدب العربي الحديث، له العديد من المقالات والقصائد المنشورة في الصحف العربية والمجلات، ويعمل الآن مشرفا تربويا للغة العربية في مديرية جنوب نابلس.
أجرينا معه هذا اللقاء، وكان كعادته متجاوبا، واستمر معه اللقاء عبر صفحتنا على الفيس بوك ما يزيد على ساعتين قدم خلالها وجهة نظره في قضايا التعليم والأدب، وبدأ حواره بقوله:
في بداية الحديث أهنئكم على مبادرتكم هذه، وإنشاء صفحة خاصة بطلبة قسم اللغة العربية في جامعة النجاح الوطنية على موقع التواصل الاجتماعي (الفيس بوك)، هذه الجامعة العريقة التي كان لها الفضل الكبير علينا، حيث نهلنا العلم صُراحا من نبع أساتذتها الكرام، ففاض ويفيض وسيظل فياضا ثرا غزيرا، لتظل "النجاح" شاهدة على أن فلسطين وأبناءها هم ذخر لهذا الوطن، ولن ننسى أن هذا الصرح العلمي قد صنع قادة وأدباء ومفكرين في شتى نواحي العلم والمعرفة والسياسة.
أما بالنسبة للأسئلة التي طرحتموها، فأشكركم أولا على الثقة التي أوليتموني إياها لأكون معكم موجها ومشاركا، معلما ومتعلما، وأشكركم على هذه المبادرة في الحوار، وحقيقة تنم تلكم الأسئلة عن وعي لدى طلبتنا، ووعي عميق في مسائل متنوعة.
وهذه هي الأسئلة التي وجهناها للأستاذ فراس:
كيف ترى المستقبل الثقافي في فلسطين؟
لعلّ الحديث عن المستقبل يكتنفه العديد من المصاعب والعقبات الفكرية والواقعية خصوصا في هذه الظروف التي نعيشها، حيث الاحتلال وما يجترحه من عقبات أمامنا ليربك حياتنا، فخرب بوعي وقصد حياتنا الحاضرة وماضينا، ولكنه لن يكون قادرا بإذن الله أن يحد من طاقات الشباب الفلسطيني العامل بجد في مناح كثيرة سياسية واقتصادية وثقافية.
أما فيما يتعلق بالشأن الثقافي ومستقبل الثقافة، فتشهد فلسطين حاليا حركة ثقافية نشطة، سواء في المطبوعات الورقية من صحف وملاحق متعددة في شؤون متعددة، أو مجلات وكتب ودراسات، أو مؤتمرات وندوات وأمسيات شعرية، وتساهم الجامعات الفلسطينية بشكل فاعل في عقد مثل تلك الندوات، وقد كان آخرها الندوة التي عقدتها دائرة اللغة العربية في جامعة القدس المفتوحة حول مستقبل اللغة العربية والتحديات التي تواجهها، وشارك فيها أساتذة كبار من جامعة بير زيت والنجاح والقدس المفتوحة.
وهذه الحركة الثقافية بشكل عام تبشر بإطلالة ثقافية جيدة نحو مشارف مستقبل واعد ثقافيا، إذ تشهد تلك الحركة بزوغ أصوات جديدة لها طعمها الخاص وهمومها الخاصة، تبني على قواعد سليمة أرسها لها الآباء المؤسسون من الأدباء والمثقفين، وتتابع مسيرة أدب وحضارة لن تنقطع، وستظل الجذوة مشتعلة بإذن الله، كما لا يفوتني التذكير بحضور المثقفين الفلسطينيين ومن أجيال مختلفة وأصوات متنوعة في الفضاء الإلكتروني، فأفادوا من الشبكة العنكبوتية، بكل تجلياتها ومساربها المتعددة، وكل ذلك خدم الثقافة، وأعطاها بعدا أرحب في التواصل مع مجتمع يجنح جنوحا كبيرا نحو التكنولوجيا بوسائلها كافة.
وهكذا تبرهن فلسطين الجغرافيا والروح أنها حاضرة رغما عن أنف المحتل وإجراءاته التعسفية القمعية.
وهل نحن أفضل من الماضي ثقافيا؟
لا شك أخي الكريم أننا أفضل ثقافيا، كما ونوعا، فعدد أدبائنا أكثر، وحضورهم الإعلامي أكثر في فلسطين وخارج فلسطين، ويمتلكون تجارب خاصة ومتنوعة لا يكررون غيرهم، ومبادراتهم الثقافية متميزة سواء على صعيد إلكتروني أو واقعي، كما أن فلسطين وخاصة منطقة الضفة الغربية تحديدا يصلها ويخرج منها العديد من الكتب، ويشارك الأدباء والأكاديميون في مؤتمرات متعددة خارج فلسطين، فقد شارك بعض الشعراء في مسابقات شعرية عربية كمسابقة أمير الشعراء في دولة الإمارات المتحدة، وشاركت بعض القاصات الفلسطينيات بمسابقة قصصية وأحرزت بعضهن مراكز متقدمة في عامنا المنصرم 2011، وما لا نعلمه أكثر، فجذوة الإبداع الفلسطيني في توقد.
ما هي نظرتك إلى التعليم في فلسطين في الوقت الراهن ولماذا بدأ الأستاذ والمعلم يفقد الكثير من هيبته وصلاحياته في المدرسة؟
تقف في وجه التعليم في فلسطين حقيقة عقبات كثيرة، فنحن ما زلنا في طور البناء، نعاني من خلل أحيانا في إعداد المعلم الجيد لعدة اعتبارات، فالمعلم في أغلب الأحيان لم يتلق مساقات في أسلوب التدريس، ولم يتدرب في المدارس قبل ولوجه إلى ميدان العمل، لأن أغلب الخريجين هم ممن درس في كليات غير تربوية، فهم خريجو كلية الآداب والعلوم والشريعة الإسلامية، أو ما شاكل ذلك، ولذا فإن عملية التدريس عند هؤلاء في الأعم الأغلب تكون ارتجالية أو تقليدية، يقلد معلما علمه، ولذا تراه نسخة مكرر، ولكن غير واضحة المعالم لذلك المعلم، عدا المناهج الفلسطينية التي تتميز ببعدها المعرفي الثقافي أكثر من كونها تربوية وتعليمية، وتغص بالمعلومات، ناهيكم عن النظام التربوي المعمول فيه في فلسطين، وخاصة نظام التقويم والتركيز على الاختبارات الكتابية كوسيلة واحدة للتقويم، والتي أفرزت متعلمين يلهثون وراء العلامة ولا يعنيهم العلم والمعرفة كثيرا إلا من رحم، وقليل ما هم.
كل ذلك ولد عند الطلبة وبعض المعلمين يأسا من عملية التعليم، فأخذوا يلجأون إلى مسارب أخرى أكثر نفعا من وجهة نظرهم، لاسيما وأن وضع المعلم وما يتقاضاه غير مشجعة للطلبة لأن يرسموا أحلامهم في العلم والمعرفة، وأخذت منزلة المعلم في انحدار بعد أن كان في أعلى درجات السلم غدا غير قادر على أن يكون مقنعا للمجتمع بدوره، فغيره يؤثر أكثر منه، بالإضافة إلى أن من يعمل معلما في أحيانا لا يعد عمله رسالة مجتمعية وثقافية تبني مجتمعا بكامله، فهناك أسباب تتعلق بالمعلم نفسه وأخرى بالمجتمع وأخرى مسؤول عنها النظام التربوي برمته.
لماذا لا تساهم الجهات المعنية بتحسين هذا المستوى - خاصة تعليم الشباب-؟ ومن المسؤول عن ذلك كله؟ وما هو الحل الذي يمكن أن يوجد لهذه المشكلة؟
في الحقيقة تبذل الجهات المعنية ما تستطيع فعله، ولكن التحديات أكبر مننا جميعا، وعلى المجتمع المحلي بكل مؤسساته مهمة المساهمة الفعالة قي بناء المجتمع، وتحسين ظروف التعليم، عبر إستراتيجية المشاركة الفعالة مع وزارة التربية والتعليم والتعليم العالي ومديريات التربية والتعليم، وفي واقع الأمر تعمل وزارة التربية والتعليم حسب ما أعرف على إستراتيجية جديدة لتحسين التعليم ولكن لا بد أن نساهم نحن أيضا، كل في موقعه ومن موقعه بما هو واجب عليه.
هل ما يسمونه الآن بالربيع العربي مع تحفظاتنا على المسمى سيكون له الأثر الواضح في ارتفاع منسوب الثقافة والعلوم وحركة التأليف والنشر في البلدان العربية؟ وان كان الجواب بالإيجاب مشفوعا بتعليلات واضحة ومستنده للواقع.
إن تحفظتم على المصطلح، فأنا أؤيده مائة بالمائة، فقد حركت الثورات العربية الحالية، والتي ما زالت تشع نورا وبركة، فتمدنا بروح ثوري يعطينا أملا في التغيير في كل مجالات الحياة السياسية والثقافية معا، والعلاقة بين الربيع العربي والثقافة علاقة تلازمية؛ فالمنتفضون في 2011 كانوا واعين لما يدور في دوائر صنع القرار، وشاهدوا عمق الخراب الذي أحدثته الدكتاتوريات العربية، فقرروا أن يثوروا على تلكم الأوضاع التي أخذت تزداد سوءا، فالفساد مستشر، ويتضخم يوميا، فالحل بيد تلك الجموع الشابة، وهنا يجب أن يستذكر حديث الرسول الكريم نصرت بالشباب، فهم القوة المؤسسة للتغيير، وإن حاول البعض سرقة تلك الثورات فلن يستطيع، فالناس لم تعد تنطلي عليها الحيل.
من يتابع حركة ما ينشر في الصحف والمجلات يرى أن حركة الربيع العربي ناتجة عن حركة ثقافية نشطة، وها هي تنتج أدبا ثوريا متعدد الأطياف، ففي مصر هناك الكثير من المؤلفات التي أفادت من الثورة، شعرا وقصة وأفلام سينمائية، ولكنها بحاجة إلى وقت حتى تستقر أوضاعها لنرى ماذا سيفر عنه هذا الربيع الذي تفتح زهره، ولن تعود الجماهير القهقرى أبدا.
ما مدى تأثير الصحوة الفكرية والعلمية على الشعب الفلسطيني بشكل خاص؟
يا إخوتي، نحن جزء من أمة عريقة، الروح واحد والفكر واحد، وفعلا نحن كالجسد الواحد، حتما أثرت فينا الثورات العربية، وشارك كتابنا في الجدل الدائر حولها، وإن وجدتهم منقسمين فريقين مؤيد بشدة أو معارض بشدة، ولكن الرهان على المستقبل، فسيبزغ فجر الحرية قريبا إن شاء الله، ونحن مشاركون في الحركة العربية والعالمية للأدب، فنحن حاضرون في اللغات الحية الأخرى عبر الترجمة والتكريم، وحاضرون أكاديميون كذلك ومشاركون فاعلون كبقية المبدعين في الإفادة والانتفاع من الآخر ومشاركته أفكاره وحواره.
نود معرفة رأيك في التعليم الأكاديمي في جامعاتنا الفلسطينية وهل التعليم الأكاديمي يكفي وحده وهل المتابعة في المواضيع أفضل من التعليم الأكاديمي؟
لم يعد أحد يشك بكفاءة القائمين على التعليم الجامعي في فلسطين، وهم من ذوي الخبرة الأكاديمية والعلمية العالية، ولهم إنجازاتهم الواضحة، كلٌّ في مجاله، ولكن مهمة الجامعة وطالب الجامعة لا تنحصر في دراسة مقرر يمتحن فيه الطالب وكفى، وإلا لم تختلف الجامعة عن المدرسة، ولكن بتصوري على الجامعات مهمات أعظم خطرا، وأهم تلك المهمات هو صناعة رجال الفكر والأدب والسياسة وصقل شخصية الطالب الاجتماعية والثقافية ليكون عضوا مؤثرا في مجتمعه، لذلك على الإدارات الجامعية أن تسمح بالعمل الفكري والسياسي المتعدد، وأن لا تحجر على فصيل أو مفكر أو أديب، وليعيشوا مختلفين في الرأي ليتفقوا في العيش الكريم، فالتنوع لا يعني التدابر والاقتتال بل هو سنة الله في خلقه، فعلى الجامعات أن تعي دورها جيدا في هذا الجانب المهم في الحياة الجامعية الحقيقية، وتشجع على البحث، وأن تتخلص من نظام الامتحانات فهو نظام لن ينتج مفكرا، بل ينتج طالبا لاهثا خلف العلامة كطالب المدرسة سواء بسواء، وعليها أن تكشف عن مواهب طلبتها عبر آليات تضعها وتنفذها.
وكذلك يجب على الطالب ألا يركن إلى النظام الحالي بأن يتلقى مقررا محدود الصفحات، بل عليه أن يبني نفسه بنفسه، وأن يفيد من وقته، فليس الملوم الجامعة وحدها، بل الطالب نفسه هو من يبني نفسه معرفيا، فعليه دور ومهمة ضروري أن يعيهما بشكل واع وصحيح.
نود معرفة رأيك في شعر التفعيلة ودوره في الشعر الفلسطيني وما هي المأخذ على هذا الشعر؟
الشعر بكافة أشكاله حاضر في مسيرة الشعر العربي الحديث ومنه الفلسطيني، وقدم شعراؤنا تجارب وإبداعات مميزة في كل فنونه، فليس هناك شعر أفضل من شعر من حيث كونه شعرا خليليا (يسير على أوزان الخليل بن أحمد الفراهيدي)، أو شعر التفعيلة، المهم في المسألة هو التمكن من أدوات الكتابة، فالشعر الحر ليس أقرب مأخذا من الشعر الخليليّ، وبتصوري هو أعقد، ويحتاج إلى أدوات إضافية غير أدوات شاعر قصيدة الشطرين، فأنْ تتحرر من القافية والرتابة الوزنية ليس معناه أنك أصبحت حرا بلا قيود، بل عليك وقد خرجت من نظام معين، ودخلت في فلك نظام أخر أن تلتزم بقوانين جديدة، تماما أشبهها بالانعتاق من الجاذبية الأرضية، لتحلق في الفضاء، فأنت لا تحتاج قوانين الأرض الفيزيائية، ولكنك تحتاج قوانين أخرى لأنك أصبحت في عالم آخر.
هناك كثير من المبدعين الشباب هنا في فلسطين.. لكنهم مغمورون نوعا ما. ونعتقد أنهم مهما بلغوا من الشهرة فإنهم لا يصلون _في نظرنا نحن_لمنزلة الشعراء الكبار أمثال فدوى طوقان ومحمود درويش وغيرهم، مع أنهم قد يكونون في مثل مستواهم من الإبداع.. فلماذا نصدر نحن أحكاما قاسية عليهم تجعلهم يحبطون، وربما لا يستمرون في مشوارهم. فما الحل برأيك؟
قضية الشهرة والمعرفة الإعلامية تساهم فيها عوامل شتى، والأديب عليه أن ينغرس في العمل الأدبي ويتقنه، وهو سيفرض وجوده وحضوره، كان الناس قبل محمود درويش يقولون: إبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود وأبو سلمى، وتساءلوا ربما السؤال نفسه، وعندما جاء درويش وجيله سمعنا عن الثلاثي الفلسطيني درويش والقاسم وزياد، رحل اثنان وبقي واحد، نتمنى له طول العمر بالتأكيد، الغد حافل بمفاجآت سيعطينا من هم على شاكلة هؤلاء، وربما أفضل، كل مرحلة لها قاماتها ورجالاتها، المستقبل يبشر بخير.
كيف يمكن أن يكون الإنسان شاعرا أو أديبا؟
لا بد أن تتوفر في النفس البذرة الصالحة للنماء، وهي التي تحتاج إلى رعاية، وليس كل الناس ميولهم أدبية، ولكن من أحس في نفسه إقبالا على الأدب ورغبة في الكتابة، فليكتب، وليمزق أو يخبئ أوراقه بداية حتى تستقيم موهبته، ومرة على مرة مع المطالعات المستمرة سيجد أن أسلوبه قد تحسن، حتى يستطيع أن يشق له طريقا خاصا وصوتا يميزه عن غيره، وهنا أحب أن أذكر بتجربة الشاعرة فدوى طوقان وكيف تعلمت الشعر، وهي مبسوطة في كتابها رحلة جبلية رحلة صعبة، وكذلك تجربة محمد شكري الإبداعية وكيف بدأت، وعليكم أكثر قراءة السير الذاتية للمبدعين، فستكتشفون أشياء مفيدة، لتفيدوا منها، المهم في المسألة هو استمرار الكتابة، وقد قالت العرب قديما: ثلاثة تسهل بالعادة، الكتابة والخطابة والصلاة.