كتابة على الكتابة:
في ممرّات السؤال النبوي
تعقيب على مقال الأستاذ فراس حج محمد "هواجس من ميدان الترجمة " حول قصيدته "متى سيتجلى الله يا جبريل ؟ "
فاطمة نزال/ فلسطين
تعقيبا على المقال المذكور آنفا أجدني أقف أمام نصٍّ شعري لا يكتفي بالبوح، بل يفتح فم اللغة على صرخة وجودية في وجه الصمت الكوني والخراب المطلق.
لقد التقطتُ هذا ببعد نقدي وألمٍ صادق حين وصفته بأنه "نزيف وجودي في وجه الخراب الجماعي"، وهذا هو جوهر القصيدة في زمن المجازر والانهيار: لغة ترتفع دون ادّعاء، وصرخة تُطلّ من فم الشعر، لا لتقدّم أجوبة، بل لتفضح الفراغ المطبق على الوعي والروح.
هذا التعليق لم يكن مجرد انفعال شعري عاطفي، بل موقف إنساني ونقدي متكامل، يصوغ من الحزن رؤية، ومن الألم قراءة، ومن الغضب شهادة. وهو بذلك لا ينفصل عن لحظات السؤال النبوي التي عرفها الإنسان في أوقات المحن القصوى.
وهنا، يتقاطع السؤال في القصيدة مع تساؤلات نبي الله موسى عليه السلام حين ضاقت به السبل، خاصة في اللحظات التي يعجز فيها العقل عن الفهم، وتضيق الأرض بما رحبت، ويصبح التوجّه إلى الله، بالسؤال، هو وحده الملجأ.
فموسى، في لحظة مواجهة الطغيان وعند شفير البحر، حين قال قومه: "إنا لمدركون"، أجابهم: "كلا إن معي ربي سيهدين". ومع ذلك، لم يتردد، في مواطن أخرى، أن يسأل الله بأسئلة تنبع من عمق التيه الإنساني، كما في قوله: "رب أرني أنظر إليك"، أو "رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير".
تلك الأسئلة لم تكن كفرًا، بل شوقًا إلى يقينٍ يتجلّى، وإلحاحًا على حضورٍ إلهيّ يعيد للعالم المختل توازنه.
ومثل هذه الأسئلة، تنبع القصيدة من قلب الانكسار، لا لتجادل، بل لتتوسل الضوء.
إنها، كما قلتُ في تعقيبي، "لا تبحث عن أجوبة، بل عن معنى للبقاء"، تمامًا كرحلة موسى مع الخَضِر، حين اصطدم العقل بالسرّ، وطلب التفسير حيث لا تفسير، وسار في طريق لا يُفهم إلّا في نهايته، إن فُهِم.
في سورة الكهف، خرق السفينة، وقتل الغلام، وبناء الجدار، كلها بدت أفعالًا ظالمة في عين موسى، لكنه لم يصبر على ما لم يُحط به خبرًا. وفي القصيدة، كما في هذه القصة، نجد ذات البُعد: صرخة لا لتشرح، بل لتكشف هول الصمت، وانتقال من الحسيّ إلى الميتافيزيقي، من اللحظة إلى الأبدية، من الفقد إلى السؤال، من الغياب إلى نداء الظهور.
اللغة في القصيدة، تمامًا كما في التجربة النبوية، لا تُستخدم للإجابة بل للصراخ.
صرخة موسى "رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي" تتقاطع مع صرخة الشاعر: لا نملك إلا هذا الشعر في وجه هذا الجحيم.
إن القصيدة، وتعقيبي عليها، تسير على خطى ذلك الإرث النبوي في مساءلة الغياب، لا كفرًا، بل شوقًا إلى عدلٍ إلهي، في عالم تُزهق فيه الأرواح بلا حساب، وتُمحى فيه المدن كما تُمحى الكلمات من ذاكرة الماء.
وهكذا، نعود إلى السؤال الأول:
"متى سيتجلّى الله يا جبريل؟ "
لا بحثًا عن نهاية، بل كي لا نموت ونحن بلا معنى، كي لا نصمت كأننا لم نُخلَق، كي لا تمرّ المجازر كأنها أخبار طقس.
شكرًا أ. فراس، لأنك استفززت الصرخة، وشرّعت السؤال، ووسّعت مساحة هذا الحزن النبيل، ليصير رؤيا.