فراس حج محمد

موقع يختص بمنشورات صاحبه: مقالات، قصائد، أخبار

في تأمّل تجـربة الكتابة:

أسئلة من بريد القرّاء حول كتاب "في رحاب اللغة العربية" لمؤلفه فراس حج محمد

توطئة:

تجاوزت في الإجابة عن الأسئلة كتاب "في رحاب اللغة العربية" لأتحدث عن كتاب "سرّ الجملة الاسميّة"، لأن كل كتاب منهما يعكس صورة من صور اشتغالي الخاص باللغة العربية. سيصدر الكتاب في طبعة منقحة مطلع عام 2025 عن دار الرقمية للنشر في القدس، ويناقش مسألة الكتابة بالاسم فقط، يتحدث قسمه الأول نظرياً عن "شعرية الجملة الاسمية"، بينما ضمّ القسم الثاني ديواناً كاملا؛ تطبيقاً لغوياً ممكناً لكتابة الشعر دون الحاجة إلى استخدام الأفعال أو أسماء الأفعال.

في حين صدر كتاب "في رحاب اللغة العربية" عن دار  بدوي للنشر والتوزيع في ألمانيا، عام 2023، ويقع الكتاب في أكثر من (240) صفحة من القطع الكبير، موزعة على خمسة فصول. (يُنظر: صحيفة العرب، لندن، 12/10/2023، "في رحاب اللغة العربية" يقدم صورة شاملة للغة العرب: https://linksshortcut.com/EakQd). وجاء الكتابان بالتزامن مع الاحتفاء باليوم العالمي للغة العربية الموافق للثامن عشر من شهر ديسمبر.

1. يلاحظ في إهداء الكتاب حضور المرأة بشكل لافت. ما سرّ هذا الحضور في كتابك للمرأة؟

• أعتقد أن المرأة بشكل عام هي من اخترع اللغة. بعض نظريات خلق اللغة- غير الدينية- تقول إن للمرأة فضلا في اختراع اللغة، لضرورة التواصل مع أبنائها في المرحلة البدائية من عمر الحياة البشرية. عدا أنّ الطفل- أي طفل- لأمه دور كبير في تعلمه اللغة، شهدتُ ذلك مع أطفالي على سبيل المثال، الأم تقضي وقتا طويلا مع وليدها، تهدهده، تناغيه، تطعمه، تسقيه، تعتني بنظافته الشخصية، وهي تعمل كل ذلك لا تكون صامتة، بل إنها مرة تغني، ومرة تداعب، ومرة تتحدث، فهي في كل مرة تعلّم الطفل مع الأشياء الأخرى، تعلّمه اللغة وتلقنه إياها رويدا رويداً، فهي- إذاً- تنظم وترتب عقله وحياته وتمده بالمفردات الأولية اللازمة اجتماعيا ليصبح فردا مندمجا مع الجماعة اللغوية التي تحيط به. أسرته أولا ثم المجتمع من حوله.

بشكل عام أنا أمي هي من علمتني الكلام، والشعر، والأغاني، كنت أقضي معها وقتا طويلا. أبي- رحمه الله- دائما كان يقضي نهاره كاملا، وشطرا من الليل في العمل، طفولتي الأولى قضيتها مع أمي، وقد توسع قاموسي اللغوي نتيجة هذه الصحبة، وعززت فيما بعد جدتي- من طرف أبي-  رحمها الله، علاقتي باللغة، ومنحتني ثراء لغويا عجيبا قبل الذهاب إلى الجامعة، وفي فترة الجامعة الأولى.

الأمر الثالث هو أنني تلقيت التعليم المدرسي في السنوات الثلاث الأولى على يد معلمات فاضلات، رعينني جيداً، لقد علمتني هذه التجربة الشخصية أنه لا يجوز الحكم على المعلمين والمعلمات ظاهريّا، فثمة من ينتظر من الطلاب ليكون المعلم أو المعلمة لهؤلاء الطلاب أكثر من مجرد معلم أو معلمة، منهم من يريدهما أبا أو أمّاً.

ما زالت قصة تيدي وقد علمتها في أحد مقررات التعليم الفلسطينية تثير إعجابي، أتذكر أنني عندما قرأتها لأول مرة، فوجئت بها مفاجأة ليست بسيطة، حتى أنني كلما قرأتها بكيت، وتذكرت معلمتي عندما كنت في الصف الثالث الأساسي، إذ كنتُ أشبه تيدي في الانطوائية، فلاحظتني واهتمت بي، وبعد أن كنت في ذيل ترتيب الصف أخذت بالتدريج أحصل على ترتيب من بين العشرة الأولين في الصف، فحصلت على المرتبة السادسة ثم الرابعة، حتى أصبحت أنافس على الترتيب الأول في الصف السادس، ولم أحصل عليه، حتى حصلت على الترتيب الأول في الصفين الثاني عشر والثالث عشر. إن هذا كله بفضل معلمتي، فلن أنسى فضلها ما حييت، عليها من قلبي سلاماتي التي لا تنضب.

لقد استمرّ فضل معلماتي في الصفوف العليا، ففي الصفوف الأخيرة في المدرسة أيضاً، قُيّض لنا أن تعلمنا اللغة الإنجليزية على يد معلمة ممتازة، فكان لها أثر كبير في شخصياتنا وفي تعلمنا لهذه اللغة التي كانت عقبة حقيقية تواجهنا في المدارس قبل أن تفعل ذلك هذه المعلمة فعلها فينا، وتحقق معنا إنجازا مهما، فنجحنا في الثانوية العامة في مبحث اللغة الإنجليزية، بل وصار طموحي أن أدرس "الإنجليزية" في الجامعة، فحال بيني وبين هذا الطموح كسل وخوف منيت بهما، فاتخذت مسربا آخر قريبا لأدرس اللغة العربية.

بكل هذه الخلفية الوجدانية كنت أكتب للمرأة المعلمة إهدائي في هذا الكتاب.

2. لفتي في إهداء الكتاب أنك أهديته أيضاً لأصغر بناتك "سنا". كم عمرها؟ وما الذي يمكن أن تعلمه ابنة لأبيها؟ وأين بقية أبنائك، وخاصة الذكور منهم؟

• سنا، ابنتي الصغيرة، لم تكمل عامها الثالث بعدُ- أسأل الله أن يكرمها بحياة كريمة وممتدّة- لكَ أن تتخيل رجلا ينجب وهو على أبواب الخمسين من عمره، بعد أن كبر أبناؤه الآخرون، وبعضهم تخرّج من الجامعة وتزوج، وبعضهم أصبح رجلا ومنتجاً، ويتحمل المسؤولية.

طفلة صغيرة بهذه الظروف لا شك في أنها جعلتني أنتبه لكثير من التفاصيل التي كانت غائبة عني عندما أنجبت وربيت الأبناء الأكبر سِنّاً الآن، وكنت شاباً بعقلية ونفسية مغايرتين. لا أبالغ إن قررت أنها علمتني أن أكون "طائشاً" و"حكيماً" في الوقت ذاته. جاءتني بعد انقطاع عن عالم الطفولة أكثر من عشر سنوات، دغدغت فيّ مشاعر الأبوّة الأصلية، وأخذنا سويا أنا وهي نبني لغة مشتركة. ما زلت أتذكر أن أول كلمة قالتها هي "ألو" لم تقل "بابا" أو "ماما". أو "امبو". قالت "ألو". أخذني ذلك إلى التفكير باللغة من جديد، لأكتشف أن كلمة ألو أسهل عليها من أي كلمة أخرى. عدا أنها جاءت في ظرف تكنولوجي عائلي؛ الكل فينا يستخدم الهاتف النقال، ويقول هذه الكلمة. لقد سمعتها منا قبل أن تنطق بها بلا شك آلاف المرات.

كما أن لاسمها حكاية خاصة، كنت أرغب في تسميتها "فاطمة"، لأنها آخر أبنائي، ولأجلها كتبت بحثا موسعا حول هذا الاسم، نشرته في كتابي "سر الجملة الاسمية". أمي- رضي الله عنها وأرضاها- اقترحت عليّ أن أسميها "مريم". وما بين الاسمين وشائج كبيرة، فكلاهما مرتبطان بامرأتين عظيمتين في التاريخ الإسلامي، فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، ومريم ابنة عمران، اسمان جليلان، خطر لي في لحظة صفاء ذهني أن أستلّ اسمها من القرآن الكريم، فكان "سنا"، هذا الاسم القرآني الوارد في سورة البقرة، "يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار". أعجبت به جدا، وصار اسما لهذه البنت التي علمتني كيف أنتبه لفلسفة الاسم في اللغة العربية والفكر الإنساني عامة. هذه "الأسمائية" أخذتني لفكرة أعمّ وأشمل فألفت كتابي "سر الجملة الاسمية" الذي يقوم على فكرة الكتابة بتقنية الاسم، دون استخدام الأفعال، فأنجبت الفكرة ديوان شعر بعنوان "هي جملة اسمية" كذلك، فصدر الكتابان في كتاب واحد.

أضف إلى كل هذا، أن هذه البنت الوحيدة من كل أبنائي لم أكتب فيها شعراً، كتبت لها قصيدة، شعرت أن القصيدة، لا تليق بفخامة حضورها، فلم أنشرها، وبقيت محفوظة في الملفات الإلكترونية. قررت أن أعوضها بشيء أكثر ثباتا بإهدائها كتاباً من كتبي. وإهداء الكتب لا يقل أهمية عن إنشاء قصيدة، ولعله أهمّ بكثير؛ نظرا أنه قد يقرأ هذا الكتاب آلاف القراء حول العالم. عدا أهمية الإهداء نفسه في حركة التأليف، كونه عتبة من العتبات اللافتة في أي كتاب.

أما أبنائي الذكور الآخرون، وبناتي الأخريات، فلهم سياق آخر حياتيّ واجتماعي، فليس مطلوبا منك ككاتب أن تحشرهم جميعا في سياق واحد، فكلّ ميسّر لما خلق له، ولكل واحد منهم أو واحدة منهنّ حضورها في حياتي وفي كتاباتي وكتبي.

3. لماذا جعلت الملهمة آخر من كتبت له إهداءً في الكتاب؟ هل كان على قاعدة "حُصّة الغالي للتالي" كما يقول مثلنا الشعبي الفلسطيني؟

• أولاً، أودّ أن أشير إلى أن أطول إهداء أكتبه في كل كتبي، كان هذا الإهداء، وهو أول كتاب أبدأ بالعمل عليه بعد وفاة الوالد- رحمه الله- لذلك جعلته في رأس قائمة المهدى إليهم هذا الكتاب، كونه معلما، بالمفهوم العام لعمل المعلم ورسالته التربوية في الحياة.

ثانياً، الأشخاص المعتبرون الاعتباريون كانوا كثرا في هذه المرة أيضاً، وخاصة المعلمين الذين علموني والمعلمات اللواتي علمنني، وخصصت "الملهمة" بفقرة خاصة.

ثالثاً، عندما كتبت تلك الفقرة من الإهداء كان في ذهني أمر ما، وليس امرأة ما، شيء غامض ألهمني أن أكتب ذلك. بعيدا عن التفلسف غير ذي معنى هنا، لا أقطع بدلالة هذه "الملهمة"، في لحظة ما اعتقدت أن "اللغة العربية" نفسها هي ملهمتي، أو أن العزلة التي أقضي معظم وقتي بصحبتها هي ملهمتي. هكذا فسّرت زوجتي على سبيل المثال معنى هذه "الملهمة" وإن حاولت أن تستدرجني لتوقعني في ذكرى امرأة قديمة كتبت لها يوما ما ديوان شعر غزلي (أميرة الوجد)، فكانت أول امرأة حقيقية أكتب لها. نفيت ذلك نفيا قاطعا وصارما، فصارت تعدد أسماء النساء التي تعرفهن ودخلن معي في علاقة ما. لم أجد أن واحدة منهنّ وحدها تصلح أن تكون ملهمتي في هذا الكتاب تحديدا. زوجتي كانت تريد مني اعترافاً أن تكون هي الملهمة المقصودة. صمتُّ وابتسمت لكنها لم تكن لتأخذ هذا الصمت وهذه الضحكة على محمل الجدّ.

4. عملتَ معلماً، وتعمل مشرفا تربويا. كيف وثق هذين العملين علاقتك باللغة العربية؟ وهل يمكن أن يكون للإشراف التربوي هذا الأثر في اللغة العربية؟

• عملي معلماً من أهمّ مجالات اختبار اللغة العربية من ناحية عملية، فقد كنت على امتداد أكثر من (29) عاماً على تماسّ مع اللغة ما لا يقل عن ست ساعات يومياً، قراءة وكتابة وتعليماً، أنتبه لكثير من قضايا اللغة، وأعلمها بطريقة مؤثّرة، وأعتني بأناقتها التركيبية والبلاغية، وكيف يمكن أن تتلاعب باللغة لتشكل منها نصوصا جمالية. لقد شبهت عملي بالخزّاف الذي يستخدم الطين لعمل التحف الرائقة. هكذا كنت أعمل مع الطلاب عندما أدرسهم اللغة، وأشرح القاعدة، كنت أبحث عن سر التركيب المراد شرحه، وأقدمه للطلاب لنختبره سويا بجمل راقية في مضمونها، عالية في مستواها، كنت أحاول أن أفلسف لهم القصيدة ومفرداتها وصورها الجمالية، منطلقا من المفردة أو التركيب اللغوي. كنت مهتما أيضا بإيقاع الجمل الموسيقي، لا أحب النشاز في الجملة حتى وهي صحيحة نحويا، هذا انعكس على تعليم العروض، وكيفية بناء البيت الشعري من مقاطع قصيرة وطويلة لتؤلف وحدة موسيقية يطلق عليها تفعيلة. كنت أفكك التفعيلة المجردة لأعيد بناءها في الكلمات الحية ذات المعنى الجيد والمستوى العالي من التركيب.

استمررت على هذه الحال ثلاثة عشر عاما من التعليم، ثم انتقلت إلى الإشراف التربوي لأكون مشرفا على تعليم اللغة العربية في المدارس الحكومية، كنت محملا بهذه الفلسفة وبهذه الرؤيا، وأسأل الله أن أكون قد نجحت في نقل هذه الخبرة إلى المعلمين، ليعلموا اللغة وقد امتلأت بالحيوية والحياة والنشاط، وزادت من حب الطلاب للغة العربية، وبقيت "مشرفاً" منتبها لكل التفاصيل الصغيرة لكنها المهمة في تدريس هذه المادة، لا سيما فهم النصوص وفلسفتها وإعادة تشكليها على نحو خاص؛ يؤثر في الوعي النقدي والجمالي للطلاب وهم يحاولون صياغة الجمل وبناء النصوص في التعبير المدرسي. كنت أرى- وما زلت- أن اللغة العربية في التدريس يجب أن تعامل كلا واحدا بغير تجزيء، وتجزئتها في المنهاج الفلسطيني يجب أن يفهم على أساس حسن تعليمها، لإتقان أجزائها وفروعها، لكن لا بد من أن تعود وتنضم تلك الأجزاء وتلك الفروع في منهجية واحدة، لذلك أؤكد دائما أنه لا بد من تعليم اللغة العربية بفروعها جميعا عن طريق النصوص، وليس بالجمل أو الكلمات المفردة.

وأريد أن ألفت النظر إلى أمر مهم في العمل الإشرافي وهو أنه من مهمات المشرف التربوي أيضا تحكيم المسابقات الطلابية الكتابية الإبداعية، الشعر والقصة والمقالة والخاطرة، والمشهد المسرحي، والمسابقات الأدائية اللغوية كما هو في مسابقات إلقاء الشعر والخطب والمناظرات، وتحكيم مسابقة تحدي القراءة العربي، كل هذه المسابقات تجعل المشرف التربوي عاملا مؤثرا في إنتاج النص أولا ثم في وضع معايير تحكيمه ليكون جيدا ومنافسا. أعتقد أن مهمة مشرف اللغة العربية تتمثل في جعل اللغة العربية أكثر حضورا في السياق الاجتماعي العام والثقافي الشامل على الأقل في حياة اللغة العربية في المدرسة.

5. لم تهمل اللغة العامية في الكتاب.كيف تنظر إلى هذا الموضوع في سياق الكتاب وفي سياق اللغة ذاتها؟

• العلاقة بين العامي والفصيح علاقة معقدة، وتفهم أحيانا فهما خاطئاً. في الفصل الأول من الكتاب قادني البحث إلى أن كثيراً من كلامنا العامي ذو أصول فصيحة، وما حدث هو نقل في الدلالة أو تسهيل في النطق في كلمات كثيرة، ولعل رحلتها في النقل أيضا فصيحة، وهذا يحتاج إلى بحث أعمق، يبحث في تاريخية الألفاظ ودلالتها.

العامية ثرية في مفاهيمها ومدلولات ألفاظها وخاصة الدلالة الاجتماعية والنفسية، وقادني البحث إلى أن "العامية" ليست خطرا على الفصيحة كما كنت أظنّ، إنما هي لهجة لها مجالها الاجتماعي العام، والفصيحة المقننة بالقواعد والضبط الصرفي والنحوي والدلالة المعجمية لها أفقها الخاص، ولا مانع من أن تستفيد الفصيحة من هذا التطور اللغوي، لأن العامية في كثير من الأحيان بنت للفصيحة، وقد تتحول في مرات وفي مفردات أخرى لتكون أمّا أو أبا لكثير من ألفاظ المعجم العربي المعاصر.

لم أشعر في هذا الكتاب بالتوجس من العامية، كما حدث معي في الكتاب السابق "بلاغة الصنعة الشعرية"؛ كنت أرى رأيا آخر، تحكمه النظرة العدائية تجاه العامية، الآن أنا أكثر تصالحا مع "العامية" على أن تظل تحيا ضمن أفقها الخاص بها، فلا تزحف على التركيب الفصيح لتفسد قوانينه، لأنه لو فسدت قوانين الفصيح لن نعود قادرين على استيعاب النصوص المكتوبة باللغة الفصيحة. تعايش اللغتين مهم، ويثري اللغة والحياة اللغوية، هذا أهم ما خرجت به من هذا البحث، تعميقا وإيضاحا لرؤيتي السابقة التي أودعتها في كتاب "بلاغة الصنعة الشعرية".

"في رحاب اللغة العربية" ثمة ما هو أكثر انفتاحا على اللغة وطبيعة حياتها بين أهلها. ولا يعني هذا بحال من الأحوال الانفصام اللغوي كما يدعي بعض المفكرين، إنما يعني ببساطة أن اللغة العربية، كأي لغة في العالم، لها قانونان، قانون صارم في الصياغة هو الفصيح، وقانون التسهيل وهو اللغة العامية أو اللهجة العامية المحلية، ولأجل هذا لقد استفدت من العامية والشعر العامي في كتابي "سر الجملة الاسمية"، فوجدت ما ينطبق على الفصيح ينطبق على العامي في الشعر، فأوردت أمثلة من الشعر العاميّ أيضاً خالية من الفعل. كما أنني أخذت أفهم اللغة العامية، العامية الفلسطينية تحديدا، في كتابات الكتّاب، وأهمية توظيفها في النصوص الأدبية، لأن اللغة في هذه الحالة تأخذ بعدا مقاوما ضد إجراءات محو الفلسطيني وإلغاء وجوده من خلال محاربة لغته الخاصة به، لهجته العامية، وصرت أدافع عن ذلك وأراه جانبا من جوانب الأمن اللغوي للفلسطيني نفسه المتجذر في هذه الأرض.

6. لماذا هذا الكتاب الآن؟ وما الهدف من ورائه؟ وما هي رسائله المعلنة أو  المتوقعة؟ ومن هو المستهدف فيه؟

• الفرع الأول من السؤال يعيدني إلى حركة التأليف العربية التراثية وحتى المعاصرة. من حقي أولا كمتخصص في اللغة العربية وأعايشها منذ كنت طفلا وصبيا ويافعا ثم كهلاً، وتعلمتها في الجامعة وأعمل بها منذ أكثر من ثلاثة عقود، وأقرأ بها منذ تعلمت القراءة، أن أكتب كتابا أبين فيه تجربتي الشخصية مع اللغة العربية. فهذا الكتاب جماع أفكاري حول اللغة العربية. وأفكّر بجديّة بالتقاعد إن أتيحت لي الفرصة، ولا بد من أن أوثق تجربتي بحكم أنني كاتب، فلا يعقل أن يدفعني للكتابة حادث عرَضي لأكتب ديوان شعر مثلا، ولا تدفعني سنوات الوظيفة الثلاثين لأكتب كتاباً عن هذا العمل.

العلماء والفقهاء والأطباء والرواة والعاملين في أي مجال كانوا يكتبون كتبا فيما يعملون من مهن، فألف الأطباء في الطب، حتى المشعوذون ألفوا كتبا في الشعوذة، إذاً، عدا حقي الطبيعي في الكتابة عن تخصصي وعملي من وجهة نظر شخصية، من واجبي أيضا أن أكتب عن هذه التجربة. أعتقد أن أكثر من ثلاثة عقود في المعايشة اللغوية ظرف طبيعي لكتابة كتاب مثل هذا. عدا أنني أعد كتاباً آخر حول التعليم نفسه، أجمع فيه آرائي حول التعليم بشكل عام.

في الحقيقة أنا أنصح كل من يعمل في مجال أن يؤلف كتاباً عن عمله، لي زميل، يعمل "مأذوناً شرعيّاً" نصحته وأنا في معمعة تأليف هذا الكتاب أن يؤلف كتاباً في تلك المواقف الساخرة أو الطريفة التي حدثت معه أو ستحدث معه خلال عمله. أحثه على أن يبدأ بكتابتها يوميا في أجندة سنوية. لا شك في أنه سيجمع مادة وفيرة، مهمة، لا تتكرر، لأنها مواقف إنسانية حدثت معه، وغيره يحدث معه أمور أخرى، إذاً في كتابتها توثيق وتعليم واستفادة بما هو دائم، وذو نفع للأجيال القادمة. كثير من علمائنا الأفاضل صدرت أماليهم على طلابهم في كتب، فليكتب كل صاحب مهنة كتابا إذاً يبين فيه جانب أو أكثر من مهنته. ولعلّني أجبت أيضا في ما سبق عن الهدف من وراء تأليف هذا الكتاب.

رسائلي في هذا الكتاب كثيرة معلنة ومتوقعة، لكنّ رسالتي الأولى الواضحة هي رسالة تخص اللغة ذاتها، كونها عنصرا مهما من عناصر الشخصية العربية أو الهوية العربية، وفهم اللغة بهذه الطريقة التي قدمتها في المجال الثقافي والتعليمي يجعل من الكتاب رسالة حب وتقدير لكل من يعمل بهذه اللغة، ثقافيا، وتعليمياً. هذه رسالتي المتوخاة لكن قد يجد القارئ في الكتاب رسائل أخرى قد يراها مهمة، وللقارئ المتخصص باللغة، أو العادي، والكاتب الذي يكتب بالعربية رؤيتهم ورؤاهم فهم كاملو الأهلية في الحكم والاستنباط.

أما بالنسبة للفرع الأخير من السؤال، فأنا أكتب للقارئ العربي أيا كانَ موقعه وعمله. لكنني أرجو أن يطلع المعلمون على الكتاب وما في مباحثه من أفكار، فهو مبني على الخبرة التعليمية التي اكتسبتها في الميدان التربوي، والخبرة الثقافية المكتسبة من ميدان العمل الثقافي العام.

 

المصدر: فراس حج محمد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 58 مشاهدة
نشرت فى 27 ديسمبر 2024 بواسطة ferasomar

فراس عمر حج محمد

ferasomar
الموقع الخاص بــ "فراس حج محمد" »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

748,787

فراس حج محمد

نتيجة بحث الصور عن فراس حج محمد كنانة أون لاين

من مواليد مدينة نابلس في فــلسطين عــام 1973م، حاصل على درجة الماجستير في الأدب الفلسطيني الحديث من جامعة النجاح الوطنية. عمل معلما ومشرفا تربويا ومحاضرا غير متفرغ في جامعة القدس المفتوحة. 

عمل محررا لغويا في مجلتي الزيزفونة للأطفال/ رام الله، وشارك في إعداد مواد تدريبية في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وكان عضوا في هيئة تحرير مجلة القانون الدولي الإنساني/ الإصدار الثاني الصادرة عن وزارة التربية والتعليم في فلسطين.

نشر العديد من المـقالات والقـصائد في مـجالات النشر المختلفة الإلـكترونية والصحف والمجلات في فلسطين والوطن العربي وبريطانيا وأمريكا وكندا والمكسيك. وشارك في ندوات وأمسيات شعرية ومؤتمرات في فلسطين.

الكتب المطبوعة: 

رسائــل إلى شهرزاد، ومــن طقوس القهوة المرة، صادران عن دار غُراب للنشر والتوزيع في القاهرة/ 2013، ومجموعة أناشيد وقصائد/ 2013، وكتاب ديوان أميرة الوجد/ 2014، الصادران عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل/ رام الله، وكتاب "دوائر العطش" عن دار غراب للنشر والتوزيع. وديوان "مزاج غزة العاصف، 2014، وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في القصة القصيرة جدا- دار موزييك/ الأردن وديوان "وأنت وحدك أغنية" عن دار ليبرتي/ القدس وبالتعاون مع بيت الشعر في فلسطين، وكتاب "يوميات كاتب يدعى X"، وكتاب "كأنها نصف الحقيقية" /الرقمية/ فلسطين، وكتاب "في ذكرى محمود درويش"، الزيزفونة 2016، وكتاب "شهرزاد ما زالت تروي- مقالات في المرأة والإبداع النسائي"، الرقمية، 2017، وديوان "الحب أن"، دار الأمل، الأردن، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"، مكتبة كل شي، حيفا، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد"، مؤسسة أنصار الضاد، أم الفحم، 2018، وديوان "ما يشبه الرثاء"، دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، 2019، وكتاب "بلاغة الصنعة الشعرية"، دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020. وكتاب "نِسوة في المدينة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2020. وكتاب "الإصحاح الأوّل لحرف الفاء- أسعدتِ صباحاً يا سيدتي"، دار الفاروق للنشر والتوزيع، نابلس، 2021. وكتاب "استعادة غسان كنفاني"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2021، وكتيّب "من قتل مدرّس التاريخ؟"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2021. وديوان "وشيء من سردٍ قليل"، وزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله، 2021. وديوان "على حافّة الشعر: ثمّة عشق وثمّة موت"، دار البدوي، ألمانيا، 2022. وكتاب "الكتابة في الوجه والمواجهة"، الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمان، 2023. وكتاب "متلازمة ديسمبر"، دار بدوي، ألمانيا، 2023. وكتاب "في رحاب اللغة العربية"، دار بدوي، ألمانيا، 2023، وكتاب "سرّ الجملة الاسميّة"، دار الرقمية، فلسطين، 2023. وكتاب "تصدّع الجدران- عن دور الأدب في مقاومة العتمة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمّان، 2023، وديوان "في أعالي المعركة"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2023، وكتاب "مساحة شخصية- من يوميات الحروب على فلسطين"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "الثرثرات المحببة- الرسائل"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "فتنة الحاسة السادسة- تأملات حول الصور"، دار الفاروق للثقافة، نابلس، 2025. 

حررت العديد من الكتب، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب والدواوين المخطوطة. 

كتب عن هذه التجربة الإبداعية العديد من الكتاب الفلسطينيين والعرب، وأجريت معي عدة حوارات ولقاءات تلفزيونية.