فراس حج محمد

موقع يختص بمنشورات صاحبه: مقالات، قصائد، أخبار

معنى أن تكون مُعلّماً

فراس حج محمد| فلسطين

كل عام تحلّ ذكرى يوم المعلم العالمي في الخامس من أكتوبر، ولا بد من أن يستذكر المرء معلميه، ولا أجمل أن يكتب الكاتب عمن أنشأوه خلقا آخر بعد الإيجاد من عدم، أنشأوه وأنقذوه من ظلام الجهل الدامس إلى نور الحقيقة الشاسع، فالمعلم هو الثالث الذي له الفضل كله في تكوين الإنسان، بعد الخالق والأبوين.

بالمفهوم العام للمعلم كل شيء يغدو معلما للمرء، إذا اعتبرنا أن الشخص أو الشيء مصدر المعلومات هو المعلم، فيدخل كل شيء في هذا المفهوم في معنى المعلم من الأم والأب وكل فرد في الأسرة صغيرا وكبيرا، إلى الأصدقاء والمعارف والزملاء، إلى المجاهدين والمقاومين والقادة الحقيقيين والقدوات الملهِمين والمصلحين الاجتماعيين والسياسيين، إلى الطبيعة وحيواناتها وأشيائها، وإلى الحاسوب والإنترنت، والكِتاب والجريدة والمجلة والتلفاز. كل هؤلاء معلمون.

في ظني لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالمعلم أبعد من ذلك، فليس كل من علمني حرفا هو معلمي، كما هو في الحكمة الشائعة، ثمة معنى للمعلم أعمق من ذلك، لذلك فالله هو المعلم الأول: "سبحانك اللهم خير معلم، علمت بالقلم القرون الأولى". فماذا يعني أن يكون الله هو المعلم الأول؟ ألم يقل سبحانه "والله أخرجكم من بطون أمهاتكم، لا تعلمون شيئاً، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، لعلكم تشكرون"؟

الله- جلت قدرته- العقل الكليّ للكون، خالق وراع ومربّ وحافظ، عدا أنه "علّم آدم الأسماء كلها"، وتعليم آدم الأسماء كلها يعني فيما يعني التهيِئة لاستقبال المعلومات وتجهيزه بكل ما يساعده على استقبال المعلومات والمعارف من الآخرين، وإنتاجها وتطويرها. هذا معنى تأسيسي للمعلم، لكن ثمة معنى آخر، فالله لم يتركنا ولن يتركنا وحدنا في هذا الكون، ولم يخلقنا عبثا قطعا، ولن يترك حياتنا تذهب هدرا، حتى لو رأيناها كذلك، وعشناها تافهة جدا بلا هدف أو غاية على ما يظهر. الله- تقدّست أسماؤه- كونه معلما أزليا أبديا يعطيها معنى ما. هذا هو دور مهمّ لكونك معلما، أن تعطي أعمال المتعلمين معنى وأهمية حتى لو رآها هو نفسه غير ذات قيمة، لذلك ورد تعظيم لأصغر الأفعال الصادرة عن البشر؛ قال تعالى "وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم". وورد عن النبيّ عليه الصلاة والسلام: "لا تحقرنَّ من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلِق".

إضافة إلى أن الله برعايته للبشر أرسل إليهم رسلا، اتخذوا الدور المحسوس الملموس المباشر لمهمة الله في رعاية البشر وتعليمهم. هكذا كان موسى- عليه السلام- مع بني إسرائيل، وهكذا كان عيسى- عليه السلام- ومن بعده الحواريون، وهكذا كان محمد، صلى الله عليه وسلم، ومن بعده صحابته الكرام- رضوان الله عليهم- "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"، فالرسل والمتبّعون لهم، لم يكونوا قضاة إلا بصفات أخرى غير تعليمية، أو ربما هي تعليمية تقويمية لإصلاح السيرة والسلوك. والتقويم بأدواته المختلفة جزء من عملية التعليم كما يؤكد ذلك التربويون، ولذلك يحمل القضاء وأحكامه معنى تقويميا ما، لأن الهدف ليس إنزال العقوبة على الجناة، إنما إصلاح السلوك الفردي والجماعي عن طريق الردع بالأحكام القضائية.

فالمعلم حتى يكون معلما حقيقيا يجب أن يحلّ محل الرسل في التهذيب والتربية والتعليم والمتابعة والتقويم والمصاحبة والصداقة والمحبة، وليس فقط إلقاء المعارف والتدريب على المهارات، لتنتقل الشخصية بطول الصحبة والألفة إلى استلهام الروح والسلوك والتعليم العميق لتمثل الرؤى والسير على المنهج المعين. بهذا المفهوم للمعلم غير مرتبط بساعات مضبوطة في دوام منضبط يبدأ وينتهي بساعة ما، يتلقى فيها المتعلم كمّاً من المعارف والعلوم. المعلم ذو مهمة مفتوحة تشمل كل ما يصدر عنه من سلوكيات، إلى طريقة عيش، لتصل إلى الاقتداء والتصور وطريقة التفكير.

من نجح أن يكون معلما فعلاً ضمن هذا التصور للمعلم؟ في كل حقل من الحقول من يتمثل الصفة المعينة نادرون، الله معلم، والأنبياء معلمون، وبعض الحكماء معلمون؛ فكونفوشيوس وبوذا كانا معلمين كذلك، وبعض مشايخ الطرق الصوفية معلمون، والفلاسفة والمفكرون والكتّاب معلمون، وخطباء المساجد ووعاظ الكنائس معلمون، والأساتذة في المدارس والمديرون والمشرفون التربويون معلمون، وأصحاب الخبرة والتجربة معلمون، وأصحاب المهن والصناعات معلمون. على كل حال، إنهم نوادر في كل عصر وفي كل مجال، لكنهم موجودون ولا بد من أن يكونوا موجودين يمارسون هذا الدور العظيم الحقيقي في التعليم بمعناه الشامل العميق.

أن تنذر نفسك لتكون معلما ليس أمرا سهلا أبدا، فأن تكون معلما يعني أن تكون حياتك كلها مكرسة لمن تعلمهم، ومن يرضى بذلك ليكون هو ذلك المعلم الذي يتابع مهمة الله والرسل، ليكون من أولى العزم حقيقة وليس مجازا، كالرسل سواء بسواء؟ إن هؤلاء بهذه الصفة وهذه الكيفية، بلا شك نادرون، وليس كما يتوهم الكثير من الناس، لعلّ هذا هو المعنى الذي كان يدور في ذهن أمير الشعراء أحمد شوقي عندما قال "كاد المعلم أن يكون رسولا". أظن أنه كان يدرك ذلك فعلاً. فتحية إجلال وحبّ لكل معلم ومعلمة في هذا العالم، "معلمو الناس الخير".

المصدر: فراس حج محمد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 241 مشاهدة
نشرت فى 5 أكتوبر 2024 بواسطة ferasomar

فراس عمر حج محمد

ferasomar
الموقع الخاص بــ "فراس حج محمد" »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

736,973

فراس حج محمد

نتيجة بحث الصور عن فراس حج محمد كنانة أون لاين

من مواليد مدينة نابلس في فــلسطين عــام 1973م، حاصل على درجة الماجستير في الأدب الفلسطيني الحديث من جامعة النجاح الوطنية. عمل معلما ومشرفا تربويا ومحاضرا غير متفرغ في جامعة القدس المفتوحة. 

عمل محررا لغويا في مجلتي الزيزفونة للأطفال/ رام الله، وشارك في إعداد مواد تدريبية في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وكان عضوا في هيئة تحرير مجلة القانون الدولي الإنساني/ الإصدار الثاني الصادرة عن وزارة التربية والتعليم في فلسطين.

نشر العديد من المـقالات والقـصائد في مـجالات النشر المختلفة الإلـكترونية والصحف والمجلات في فلسطين والوطن العربي وبريطانيا وأمريكا وكندا والمكسيك. وشارك في ندوات وأمسيات شعرية ومؤتمرات في فلسطين.

الكتب المطبوعة: 

رسائــل إلى شهرزاد، ومــن طقوس القهوة المرة، صادران عن دار غُراب للنشر والتوزيع في القاهرة/ 2013، ومجموعة أناشيد وقصائد/ 2013، وكتاب ديوان أميرة الوجد/ 2014، الصادران عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل/ رام الله، وكتاب "دوائر العطش" عن دار غراب للنشر والتوزيع. وديوان "مزاج غزة العاصف، 2014، وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في القصة القصيرة جدا- دار موزييك/ الأردن وديوان "وأنت وحدك أغنية" عن دار ليبرتي/ القدس وبالتعاون مع بيت الشعر في فلسطين، وكتاب "يوميات كاتب يدعى X"، وكتاب "كأنها نصف الحقيقية" /الرقمية/ فلسطين، وكتاب "في ذكرى محمود درويش"، الزيزفونة 2016، وكتاب "شهرزاد ما زالت تروي- مقالات في المرأة والإبداع النسائي"، الرقمية، 2017، وديوان "الحب أن"، دار الأمل، الأردن، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"، مكتبة كل شي، حيفا، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد"، مؤسسة أنصار الضاد، أم الفحم، 2018، وديوان "ما يشبه الرثاء"، دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، 2019، وكتاب "بلاغة الصنعة الشعرية"، دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020. وكتاب "نِسوة في المدينة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2020. وكتاب "الإصحاح الأوّل لحرف الفاء- أسعدتِ صباحاً يا سيدتي"، دار الفاروق للنشر والتوزيع، نابلس، 2021. وكتاب "استعادة غسان كنفاني"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2021، وكتيّب "من قتل مدرّس التاريخ؟"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2021. وديوان "وشيء من سردٍ قليل"، وزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله، 2021. وديوان "على حافّة الشعر: ثمّة عشق وثمّة موت"، دار البدوي، ألمانيا، 2022. وكتاب "الكتابة في الوجه والمواجهة"، الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمان، 2023. وكتاب "متلازمة ديسمبر"، دار بدوي، ألمانيا، 2023. وكتاب "في رحاب اللغة العربية"، دار بدوي، ألمانيا، 2023، وكتاب "سرّ الجملة الاسميّة"، دار الرقمية، فلسطين، 2023. وكتاب "تصدّع الجدران- عن دور الأدب في مقاومة العتمة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمّان، 2023، وديوان "في أعالي المعركة"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2023، وكتاب "مساحة شخصية- من يوميات الحروب على فلسطين"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "الثرثرات المحببة- الرسائل"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "فتنة الحاسة السادسة- تأملات حول الصور"، دار الفاروق للثقافة، نابلس، 2025. 

حررت العديد من الكتب، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب والدواوين المخطوطة. 

كتب عن هذه التجربة الإبداعية العديد من الكتاب الفلسطينيين والعرب، وأجريت معي عدة حوارات ولقاءات تلفزيونية.