في تأمل تجـربة الكتابة:
زيارة يوم السبت
فراس حج محمد| فلسطين
يخبرني الصديق الحيفاوي حسن عبادي نيّته عمل جولة طويلة ممتدة؛ يوم السبت، 4/5/2024 تشمل زيارته لمدرسة في سخنين والحديث مع الطلاب أو الطالبات، في محاضرة حول القراءة والمستجدات الواقعية. ثم التوجه إلى مدينة جنين لبعض شأنه، ثم إلى نابلس، وإلى قرية بيت دجن، ثم أخيرا يحط الرحال في قريتنا تلفيت.
عملياً، وواقعياً، ضمن مفردات الحياة اليومية على الأرض الفلسطينية، عموم الأرض الفلسطينية، المسألة أكبر من هذا المخطط اللغوي التي احتوته بسهولة الفقرة السابقة، ثمة ما هو عميق، وصعب خلال هذه الرحلة. بدأت عند وصول حسن عبادي وصديقه، رفيق الرحلة، الرفيق مصطفى نفاع (أبو فراس) إلى سخنين، ليكون اللقاء الساعة الثامنة والربع صباحاً، لقاءات المدارس، ليست ميسورة بهذه السهولة اللغوية التي قد يراها القارئ، ثمة برامج، ثمة تدريس، ثمة إجراءات، ثم لقاء مع الطلاب والطالبات والحديث والحوار، والبروتوكولات اللازمة، والتصوير الفوتوغرافي لتوثيق اللقاء من إدارة المدرسة والطلاب، والأحاديث الجانبية، والتي عادة لا تجعل اللقاء يمرّ سريعاً، كما قد يمر في ذاكرة اللغة. هذا كان احتمالا كبيرا، لما سيأتي بعد ذلك.
من المتوقع أن يكون حسن ورفيقه في جنين حوالي الساعة الثانية عشرة على أبعد تقدير، ثم قضاء الأمر الذي لا يتجاوز خمس دقائق، ثم التوجه إلى نابلس. المسألة بهذه الكيفية تشعرك أن مشوارهم لن يمتد لأكثر من ساعتين على الأكثر، بمعنى أنهم سوف يكونون في بيتي حوالي الساعة الثانية ظهراً، ومن فرط تفاؤلي، سارعت بتبديل ملابسي، وأنا أظن أنهم سيفاجئونني بأية لحظة، وأخبرت زوجتي أن حسن لم يتبق له سوى ساعتين إلى ساعة ونصف ويصل، لتدبر أمرها فيما كنّا أعددناه من وجبة طعام خاصة، "طبخة ورقة عنب" من إنتاج السنة، من شجرتي العنب اللتين تتمددان أمام بيتي بكل أريحية مزهوتين بورقهما الأخضر النادي النديّ.
أبقى على تواصل مع حسن عبر الواتسآب، فيخفت التفاؤل شيئا فشيئا، فحسن إلى الآن لم يصل إلى نابلس، كانت الساعة الواحدة والربع ولم يصل بعدُ إلى مدينة جنين، إذاً ما زال أمامه محطتان، نابلس وبيت دجن، أخفف من حدة التفاؤل، وأظل في توتر، بعد ساعتين يخبرني حسن أنه وصل بيت دجن، ويطلب مني إرسال الموقع عبر الواتسآب. بعد ساعتين يصلون البيت، كان الوقت قد شارف على السادسة.
في هذه الأثناء، يهاتفني الدكتور نبهان عثمان، هو الآن في تلك اللحظة في بيته في سيلة الظهر، يخبرني أنه سيمر عليّ غدا وهو متوجه إلى رام الله، أشجعه على المجيء اليوم، يتخذ قرارا سريعا، ويستعد ويصل إلى البيت قبل أن يصل الصديقان عبادي ونفاع على الرغم من زحمة الطريق على حاجز المربعة. ما شجع الدكتور نبهان على الحضور هو قدوم حسن عبادي، فقد سبق لهما أن تعارفا في حفل إطلاق ومناقشة كتب الصديق سعادة السفير منجد صالح في نابلس، يومئذٍ حضر الثلاثة، ومعهم صديقنا الرابع عليان الهندي.
يأخذنا الحديث ويمتد مع الدكتور نبهان، ويعبّر عن انفعاله من سوء تصرف بعض السائقين على الحواجز من الذين يعرقلون السير بتصرفاتهم وعدم احترام الغير، وبعد أن تهدأ نفسه ويرتاح نأخذ بمناقشة مسائل متعددة، وخاصة الوضع السياسي، وكتابه الجديد، الذي عملت على تحريره.
أنا ونبهان وحسن نتفق في قضايا كثيرة، وتكاد دائرتنا الكهربائية تكون مغلقة مشتعلة، فليس بيننا وجهات نظر متعارضة، على الرغم من أن كل واحد منا ذو أصول فكرية مختلفة ما بين إسلامية راديكالية ويسارية علمية ووطنية تحررية. ثمة منطقة ما تجعلنا ننتمي إليها نحن الثلاثة، أرسم في ذهني ما كنت تعلمته في المدرسة حول عناصر المجموعات المشتركة، هذه المجموعة كبيرة بيننا نحن الثلاثة، وما بيننا من اختلافات لا تظهر ونحن نناقش هذه المسائل، بل أغلب الظن أننا قد تواطأنا على أن نظل في الدائرة المشتركة الصالحة للمناقشة، وبعد ذلك، فكل واحد منا له حرية ما يعتقد ويرى من أفكار خاصة فيه.
هذا التوافق في الأفكار، جعلنا أصدقاء نناقش بحرية، وبأريحية كبيرة، مع اختلاف بسيط في زاوية الرؤية، هذا الاختلاف الذي يضيء بعض المسارب المعتمة في التفكير لديّ على الأقلّ، لأنني اكتشفت أنني أقلهم تجربة وخبرة، سياسية وفكرية وفي الحياة، بحكم العمل، والعمر، والسكن، والسفر، فأنا شخص لم أذهب إلى أبعد من عمّان، كما قلت لحسن، أما هو ونبهان فقد زارا كثيرا من الدول، وتعرفا على كثير من الأشخاص والأماكن، ولهما صداقات عميقة مع رؤساء دول وسياسيين، ومفكرين كبار وفلاسفة وكتاب مشاهير في العالم، وليس فقط في العالم العربي.
أعيد اكتشاف هذه الفكرة للمرة الثانية، وكنت قد اكتشفتها في واحدة من رسائل كتاب "الثرثرة المحببة" في رسالة يوم الاثنين: 2/7/2018 التي كتبتها والمرأة صاحبة الرسالة تحب السفر وتتمتع به، وأنا وحيد قابع في غرفتي غارق في عالمين افتراضيين، القراءة من الكتب، وعالم مواقع التواصل الاجتماعي. اليوم أيضا يتأكد لي كم أنني شخص افتراضيّ، وهما شخصان ممتدان، متسعان، وعارفان بكثير من القضايا والتفاصيل.
المهم عندما يصل حسن ورفيقه أبو فراس، ونصبح أربعة في غرفة الضيوف، ونجري بالحديث، يطلب د. نبهان من حسن عبادي كتابة تجربته حول المجتمع (الإسرائيلي) بحكم علاقاته المتشعبة مع كثيرين من الوسطين اليهودي ورجالات الدولة، والوسط العربي الذي ينتمي له حسن عبادي، أضم صوتي إلى صوت الدكتور نبهان، فثمة قضايا ستظل مخفية إذا لم يتحدث عنها حسن عبادي وغيره ممن لهم خبرة جيدة في هذا المجتمع والفاعلين فيه، وحسن كعادته يبعد دفة الحديث، ولا يتعاطى مع الموضوع، ومن الطرف المقابل فإن الدكتور نبهان ذو تجربة واسعة وغنية؛ خاصة خلال عمله في منظمة التحرير الفلسطينية في الخارج وفي مواقع متعددة، ودراسته وحصوله على شهادتي دكتوراه في تشكوسلوفاكيا، وهي بلد اشتراكي في فترة حساسة من تاريخها، وتحولها إلى النظام الرأسمالي، وكذلك عمله في السلطة الفلسطينية واطلاعه على كثير من الخفايا، ما يجعله بالفعل "شاهدا على العصر"، كما يرى الشاهدَ الإعلاميُّ أحمد منصور صاحب فكرة البرنامج ومقدمه، فنبهان كان شاهدا من قلب الحدث ومن قلب المؤسسة، ويمتلك الكثير من المعلومات، وقد ضمنها كتابه الجديد الذي آمل أن يصدر قريباً.
لم يمكث الصديقان حسن عبادي ومصطفى نفاع كثيراً للأسف، فهما على عجلة من أمرهما، والوقت دخل ما بعد السابعة مساء، وهما يهمّان بالخروج قبل أن يستعدا له، أهدي الصديق مصطفى نفاع كتابي "الرسائل- الثرثرات المحببة" وكتاب "مساحة شخصية- يوميات الحروب على فلسطين"، واعدا أن يزور بهما شاطئ بحر المتوسط، ليتنزها سوية على الشاطئ، وهذا ما كان، إذ ينشر الرفيق أبو فراس صورا متعددة للكتابين على شاطئ البحر- منطقة مقام الخضر. وما زاد من سروري أن أبا فراس قد قرأ في الكتابين، وأشار إلى رسالة المرأة العراقية في كتاب الرسائل، ليأخذ الحديث بعيدا عن بحر المتوسط إلى أشياء أخرى.
كانت زيارة سارة بلا شك، ومفيدة، وجعلتني أكرر ما قلته سابقا أن مجالسة الأصدقاء خير من مجالسة الكتب، ويا للصدف فإنني كتبت هذا الأمر أيضا أو شبيها به عندما قفلت عائدا من زيارتي الأولى للدكتور نبهان، فقلت "لا تصدقوا أن الكتب تغني عن الإنسان"، بالفعل فإن أصدقائي ليسوا كتبا فقط، بل حياة مكتنزة بالمعرفة وموسوعات تسير على الأرض، ناطقة، زاخرة بالمعلومات التي تذهل كل من اطلع عليها.
في هذه الزيارة أهداني صديقي حسن أكثر من أربعين كتابا متنوعاً، عدا قهوة حيفا- وادي النسناس، وأهمها أربعة كتب للكاتب اللبناني سلام الراسي، هذا الكاتب الشعبي الذي كما يقول عنه ناشره أنه يعمل على "قطف الحكايات والخبريات والأمثال والأقوال المأثورة من شفاه الناس". حسن معجب بأسلوب هذا الكاتب، وليس مستغربا أن تجد صدى سلام الراسي في مجموعة حسن القصصية "على شرفة حيفا" حيث "الحكايات والخبريات والأمثال والأقوال المأثورة" المقتطفة "من شفاه الناس" في هذه المجموعة، بل إن حسن عبادي عندما أخبرته عن أسلوب مجموعته القصصية، أشار إلى الراسي، ولم أكن أعرفه من قبل، فوعدني بأن يحضر لي شيئا من كتبه التي أفاض بحماسة بادية في الحديث عن أسلوبه، وأنني لم أقرأ شيئا إذ لم أقرأ لهذا الكاتب.
ونحن في ساحة البيت قبل أن يركب كل واحد منهما سيارته، ليتابع د. نبهان سيره نحو بيته في رام الله، حيث تنتظره ابنتاه، وحسن ورفيقه يعود إلى حيفاه، أذكّر د. نبهان بعرضه علينا أن نزوره في بيته لنمكث عنده بضعة أيام، أنا وحسن. حصلت الموافقة المبدئية على ذلك، ولكن يجب أن تكون بعد انتهاء العام الدراسي، فثمة أشغال لا يحسن بي أن أتركها وأن أجلها بإجازة طويلة إلا بعد الانتهاء من مهام إقفال العام الدراسي، فهي ملحّة، وخاصة في ظل هذه الظروف القاهرة.