عرض وتقديم:
الأسرى وأدبهم في كتاب "تصدع الجدران" للكاتب فراس حج محمد
رائد الحواري| فلسطين
موقع أدب الأسرى وأهميته:
من واجب الأسرى علينا الاهتمام بهم وبإنتاجهم الأدبي، من هنا تأتي أهمية الكتب التي تناولت أدب الأسرى، فهي تتناولهم كأدباء/كباحثين، ككتاب مبدعين، وليس كمجرمين أو إرهابيين. في هذا الكتاب "تصدع الجدران- عن دور الأدب في مقاومة العتمة" الصادر في رام الله وعمان عام 2023 عن دار الرعاة للدراسات والنشر وجسور للنشر والتوزيع- يرصد فيه الباحث والناقد فراس حج محمد مجموعة كبيرة من إنتاج الكتّاب والأدباء الأسرى.
وبذلك يعدّ الكتاب من أهم الكتب التي توثق أدب الأسرى وأعمالهم الأدبية والفكرية، فهناك جدول بأسماء الأسرى الأدباء وسنة الأسر وعدد سنوات الحكم، ومكان وسنة الولادة، إضافة إلى أن الناقد تناول أعمالهم الأدبية بقراءات موضوعية، مشيرا إلى أن أدب الأسرى لا يمكن أن نحكم عليه بعين الطريقة التي نحكم بها على إنتاج الآخرين، فهم يعيشون في ظروف استثنائية، ويخرجون أعمالهم بأكثر من طريقة، ما يجعل العمل غير متاح للمراجعة من قبلهم: "لعل عملية الكتابة والقراءة لدى الأسرى تشبه إلى حد بعيد "تهريب النطف" لما فيها من إصرار على الحياة والتواصل والوجود، وعدم الاستسلام للظرف الحالي" ص 53، فهذه الشاهدة كافية للقول إن عملية الكتابة وإخراجها للآخرين ليست عملية عادية، بل تُعد اختراقاً وتجاوزاً للجدران وللرقابة وللسجان، من هنا من المحتمل أن يكون العمل الأدبي فيه شيء من الهفوات إذا لم تتم مراجعته من مختصين.
فالأسرى يعتبرون الأدب بمثابة الحرية، التحرر من الأسر، لما يضعون فيه من ذاتهم، من ألمهم/ وجعهم: "وليست الكتابة- إذا- نوعا من الترف، بل تكتسب الكتابة لديهم أهمية وجودية توازي أهمية الحرية ذاتها أو الحياة نفسها في مقاومة مظاهر الاضطهاد والتعالي". ص 34، هذه الرؤية لم تأتِ من فراغ، بل من خلال مراقبة ومتابعة الناقد لما سمعه من الأسرى أنفسهم، فبعضهم قالوا عندما صدرت كتبهم: "نحن الآن أحرار" هذا عدا النشوة التي تصيبهم عندما يعلمون أن هناك من توقّف عند أدبهم بالبحث والقراءة والمناقشة، وهنا يستشهد فراس حج محمد في الندوات الشهرية التي تقيمها رابطة الكتاب الأردنيين كل شهر لمناقشة أحد الأعمال الأدبية للأسرى، ويشرف عليها المحامي "حسن عبادي" صاحب مبادرة لكل أسير كتاب الذي كان حضوره لافتا في كتاب "تصدع الجدران" فكان هذا التصدع للجدران بفضل ومساهمة "حسن عبادي" الذي لم يكتف بإيصال كتاب لكل أسيرٍ، بل ساهم في جعل كل أسير يكتب كتابا وأكثر.
ولكن هذا لا يعني أنه يهمل الناحية الإبداعية في أدب الأسرى، أو أنه لا يتعامل معه متجاوزا الفنيات والمقاييس الأدبية، لهذا يعتبر أدب الأسرى جزءاً أصيلاً من تركيبة وتكوّن الأدب الفلسطيني: "إن الأدب الفلسطيني لا يفهم حق الفهم- من وجهة نظري- دون أن يكون الأدب الاعتقالي في بؤرة النقاش الأدبي الفلسطيني" ص 36، بهذا الشكل يكون الباحث قد وضع/ أعطى الكتّاب الأسرى مكانة/ مساحة ليكونوا جزءا أصيلا من التركيبة الأدبية الفلسطينية التي ما زالت تناضل وتكتب وهي تحت نير الاحتلال الصهيوني.
وهنا نتوقف قليلا عند نظرة الباحث لدولة الاحتلال وكيف يصنفها: "بل نركز في الخطاب على أنه كيان لا شرعي، وأن نكفّ عن مخاطبة قادته السياسيين باعتبارهم "وزراء أو رؤساء" بل صهيونيون، زعماء عصابات إجرامية، أيديهم ملطخة بالدماء منذ أكثر من قرن، ينتمون إلى فكر لا يمكن أن يكون بأي حال من الأحوال فكرا إنسانيا مقبولا للتصالح معه أو حتى الاختلاف معه على قاعدة حرية الرأي والتعبير، فهم قتلة ومحتلون" ص 45، هذه الرؤية لم تأت من فراغ، بل من خلال ممارسة الاحتلال وما يفعله يوميا بنا، فهناك قتل يومي، قتل بسفك الدماء، وقتل من خلال الحواجز، وقتل من خلال الاعتقال والأسر، وقتل من خلال المستوطنات، وقتل من خلال الاستيلاء على الأرض الفلسطينية، وقتل من خلال استبدال اسم فلسطين بـ (إسرائيل).
حضور الأم:
العديد من الأدباء والأسرى تناولوا في أعمالهم الأم، حتى أننا نجدها حاضرة في كل ما صدر من أدب، وهذا يعود لمكانتها ودورها، يقدم الباحث مشهداً عن "أم يوسف" التي توفيت قبل أن ترى أبنها الأسير حيث كانت تستعد لزيارة ابنها، لكن زوجها "أبا يوسف يتفاجأ بعدم حركتها فكان هذا المشهد: "يصرخ بأعلى صوته يبكي، ينادي، يترك نفسه لتقول: "ابننا في انتظارك ليراك، قومي يا أم يوسف، لا تخيبي رجاء من يتشوق لرؤيتك" ص 77، الموقف إنساني بامتياز ويشير إلى المعاناة التي يتعرض لها الأسرى وأهاليهم على يد السجان.
وهذا المشهد لم يكن الوحيد؛ فهناك العديد ممن فقدوا أمهاتهم دون أن يستطيعوا مشاهدتها أو رؤيتها، وهذا يعكس صورة الاحتلال العنصري وطريقته في التعامل مع الفلسطينيين.
القراءات النقدية:
الناقد فراس حج محمد يتناول أكثر من كاتب وكتاب في "تصدع الجدران" واللافت في قراءاته هذه، الموضوعية التي اتسمت بها، فهو يدخل إلى النص بحرَفية عالية مبينا جوانب القوة والضعف فيه، فعلى سبيل المثال عندما يتحدث عن التجربة الشعرية لـ "أحمد التلفيتي" في "ألفية حماس المسيرة والمصير" يقول: لم يسبق لأسير- حسب علمي- أن وثق لحركته شعريا بهذا التفصيل البلاغي القائم على الارتباط والتمجيد وإعلاء الشأن... جاءت ألفية أحمد الحمساوية في ألفين وأربعمائة وخمسة وأربعين بيتا من الشعر الموزون والمقفى، وينظم هذه الأبيات قافية النون المكسورة ويركب فيها الشاعر بحر الكامل التام (أخو الرجز)" ص 85 و87، هذا التقييم الموضوعي يبين أن الأسرى الأدباء متألقون في كتاباتهم، كما أنهم منتمون لمبادئهم، وهذا العرض لديوان "ألفية حماس المسيرة والمصير" يحفز القارئ للتعرف مباشرة على العمل، فقد نوّه الناقد إلى ما في الديوان من ميزات تجعل القارئ يتقدم ليتعرف أكثر على هذا العمل الفريد في شكله ومضمونه.
وعندما يتناول ديوان "أنانهم" لـ "أحمد العارضة" يغوص في الديوان مبينا أن هناك علاقة بين العنوان والمتن: "فقد نحت الاسم- أي صاغه- من ثلاث كلمات، وقد وزع تلك العناوين على ثلاثة أقسام في الديوان، فضم القسم الأول "أنا" تسع قصائد، واحدة منها بعنوان "أ ن ا" في حين جاء القسم الثاني "ن" مكونا من سبع قصائد، أما القسم الثالث "هم" فضم ستة قصائد، وبذلك يتكون الديوان من اثنتين وعشرين قصيدة التزم فيها الشاعر التفعيلة، وجاءت متنوعة على خمسة بحور شعرية" ص 92، نلاحظ أن الشاعر يركز على ما في الديوان من بعد لغوي من خلال العنوان وما فيه من معاني: "أنانهم" وعلاقة ذلك بأقسام الديوان وما فيه من قصائد وطريقة كتابته للعناوين، بحيث يحثّ القارئ على التقدم من هذا الديوان والتعرف عليه مباشرة، وبهذا يكون فراس حج محمد قد قام بدوره كناقد في تعريف القارئ بجمالية الديوان محفزا إياه على التقدم منه؛ ليتعرف أكثر ليلمس جمالية الديوان وما فيه من تميز.
ولا يكتفي الناقد بتناول ما يكتبه الأسرى، بل يدخل إلى نفسية الأسرى أنفسهم، ويحللها تحليلا نفسيا، يتحدث عن الشاعر والقاص والروائي هيثم جابر متناولا أعماله الشعرية "الحب والحرب" التي جاءت بثلاثة دواوين بقوله: "فهل للحرمان من المرأة أثر في مثل هذه الصورة وفي مثل هذه القصائد؟ فالشاعر وقد تخطى حاجز الخمسة والأربعين عاما لم يتزوج بعد، بمعنى أنه يشتاق ويتوق إلى النساء، فهل كان الشعر متنفسا غريزيا ليأتي بهذا العنفوان؟ أم جاء هذا الشعر نوعا من التحرر من أيديولوجيا الفصيل العقدية؟" ص 130، بهذا الشكل يتجاوز الناقد مسألة الأدب المجرد ليدخلنا إلى عالم الأسير وما يعانيه من فقدان/ حرمان للحياة العادية، السوية، وهو بهذا يجعلنا نشعر/ نحس/ نعلم أن هناك أدباء يقبعون في سجون الاحتلال وهم أدباء، متميزون ويحتاجوننا لنعمل على تحررهم من الأسر.
يتناول "فراس حج محمد" الشاعر والروائي الأسير باسم خندقجي من خلال رواية "أنفاس امرأة مخذولة" حيث يحللها بطريقة موضوعية بعيدا عن المجاملة، مشيرا إلى وجود خلل فني روائي يتمثل في: "بقدر ما هذه اللغة خادمة للقص في إطارها العام إلا أنها أحيانا كانت تنساق نحو "اللغة الشعرية المجانية" الخالية من الهدف، بل تخللها عبارات مصوغة بتهويم كبير، لا يكاد القارئ يظفر منها بمعنى سوى أنها تراكيب استعارية لوصف حالة، وقع فيها كثير من الروائيين الذين جنحوا للغة الشعرية... ثمة فيض إنشائي ولغة بلا هدف في رواية باسم أيضاً" ص 156، ما جاء في قراءة "فراس حج محمد" يعبر عن روح النقد الحقيقية، فـ "باسم خندقجي" كتب أكثر من رواية، وكان عليه أن يقدم ما يتفوق على كتاباته السابقة، لا أن يتراجع إلى الخلف، من هنا نوّه الناقد إلى وجود اللغة الشعرية التي لا تخدم النص الروائي وتهدم بنيته.
وينتقد قول "باسم عن هيمنة "محمود درويش" على الشعر: "إن هذه السيطرة لدرويش على الشعر هي التي قضت قضاء لعله نهائي على الشاعر فيه، وتريد من الشعراء الآخرين، أن يكفوا عن الشعر، فدرويش "يكفينا كشاعر لمائة عام قادم" وإنه حكم متطرف، مع أن ملاحظة باسم صحيحة من باب آخر، في أن درويش كان السبب في إماتة كثير من الأصوات الشعرية المهمة التي لم يلتفت إليها.
فهل لو كان هناك روائي بتأثير درويش على الجيل الحالي، وربما اللاحق، سنقول: إن ذلك الروائي سيكفينا لمائة عام قادمة؟ لو سلم الأدباء والنقاد بهذا الحكم لما وجد درويش نفسه شاعرا بعد المتنبي ولا وجد سارد بعد ماركيز أو نجيب محفوظ ولا وجد باسم نفسه روائيا له حضوره بعد العلامات الثلاث للرواية الفلسطينية، غسان كنفاني وإميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا، فأي سذاجة في هذا الرأي؟" ص 159.
اللافت في هذا المقطع أن الناقد يفند بصورة عقلية ومنطقية أقوالاً يعتبرها بعضهم مسلمات لا جدال فيها، وهذا يشير إلى تحرر الناقد من (التعاطف) مع النص وتناوله بشكل موضوعي ومحايد، وإلا لما استطاع تبيان الخلل في اعتماد أقوال في جنس أدبي معين ونفيها/ عزلها عن أجناس أخرى.
ويتناول سرية "حمزة يونس" "الهروب من سجن الرملة" بحيث يتجاوز الأدب إلى ما هو وطني، فيستنتج أن الهدف والغاية من هذه السيرة يكمن في: "قدرة الفلسطيني على النضال حتى في أسوأ الظروف، ويبتكر الفلسطيني من لحظته خططه وتظهر عبقريته" ص 180، فما كتبه "حمزة يونس" لم يكن لتمجيد الذات بقدر إعطاء/ تقديم تجربته للآخرين لتكون لهم دافعا ومحفزا ليفعلوا ويقوموا بدورهم الوطني، من هنا نجد الناقد يركز على حجم معاناة الفلسطيني من خلال اقتباس ما جاء في "الهروب من سجن الرملة": "عار أن لا يتسع صدر الوطن العربي بمن فر إليه ليقاتل من أجله" ص 181، بهذا يكون الناقد قد أشار إلى تخاذل الأنظمة الرسمية العربية في مساندة الفلسطيني، وكيف أنها عملت على محاصرته والتضييق عليه، كما يفعل الأعداء.
ويتناول الكتاب الشاعر والناقد والروائي كميل أبو حنيش في أكثر من موضع، فهناك وقفة مفصلة مع روايتيه "مريم/ مريام"، و"الجهة السابعة" وكتابه النقدي "وقفات مع الشعر الفلسطيني الحديث،" وهذا يعود إلى تعدد مواهب "كميل أبو حنيش" الإبداعية.
بعد هذه الوقفات النقدية يعرفنا الباحث على إصدارات الأسرى من أعمال أدبية، من خلال الندوات التي عقدت لمناقشة أو إشهار أعمالهم، وهي تعد تعريفا مختصرا ومختزلا لهذه الأعمال الأدبية، وجاءت كتقارير صحفية لتلك الندوات والفعاليات الأدبية.