القراءة الثالثة للديوان:
على حافّة الشعر ثمّةَ عشقٌ وثمة مَوت [*]
حسن عبادي/ نابلس - حيفا
لغة الديوان جميلة انسيابيّة، وجرأة طرحه، كعادته، يُحسد عليها وصارت ماركة فراسيّة مسجّلة.
تنوعت قصائد الديوان بين الشعر المقفى الموزون وشعر التفعيلة، وقصيدة النثر، وجاء معبرا عن كثير من القضايا المعاصرة، والهمّ الذاتي، ضمن منظومة أكبر هي منظومة العالم بكل ما فيه من أفكار وأشخاص وتشابكات وتعقيدات.
جاءت قصائد الديوان في خمس مجموعات؛ "من غمسة الريشة"، يتحدث فيها الشاعر عن الشعر والإلهام. "مُنَمْنَمات"، تناول فيها قضايا فكرية وجمالية وأسطورية. "إللّات: محاولة في القفز على حواجز اللغة"، يهديها إلى أصدقائه وإلى مجموعة من الكتّاب والشعراء قديما وحديثا وإلى شخصيات عربية وأجنبية، وإلى بعض النساء، فذكر أسماء بعضهنّ، واكتفى أحيانا بالإشارة إلى بعضهنّ بذكر حرف أو حرفين من أسمائهنّ أو بوصف ما يعطيه لإحداهنّ.
كتبت في حينه قراءة حول الديوان وتناولت ثلاثة محاور:
أ. الإهداء.
ب. حضور النبيذ والخمرة في الديوان.
ت. متلازمة حرف الفاء.
وحين التقيت الصديقة صفاء أبو خضرة في إربد، على هامش حفل إطلاق "رنين القيد" للأسير عنان الشلبي، قالت لي مرحّبة: "شو أخبار صاحبنا أبو الحروف؟"، وكتبت لي:
"أبو الحروف":
سعدتُ بدايةً بوصول ديوان "على حافة الشعر ثمة عشق وثمة موت"، ليديّ في الأردن هديةً من الشاعر الصديق فراس حج محمد وقد تآمرتُ مع الصديق حسن عبادي على شاعرنا ونعرفُ مسبقاً سعة صدره وتقبلهِ لدعابتنا بأن أطلقتُ عليه (أبو الحروف)
الشاعر فراس له قدرة عجيبة على تقمّص الحروف... كأنّ كل حرفٍ امرأةٍ بكاملِ غيمها ومطرها وهو بكل تفتّحهُ اللغوي يدهشنا بتنقّله من حرف إلى حرف كأنّهُ تلك النحلة التي تلتفّ على أجمل الزهرات وأكثرها شهداً ليجمع لنا عسل الشعر...
هناك محور آخر لم أتناوله بعد؛ جاء في العنوان: "على حافّة الشعر... ثمّة مَوت"، ويحوي الديوان فصلاً أطلق عليه فراس "في حبسة الكوفيد التاسع عشر"، تحدث فيه حول الهواجس الذاتية والعامة خلال الحجر الصحي في فترة انتشار فايروس كورونا.
صوّر فراس رؤيته ورؤياه لظاهرة الكورونا التي اكتسحت عالمنا بين ليلة وضحاها، ظاهرة كونيّة غيّرت عالمنا وقلبته وقولبته من جديد، كشفت عورات هذا العالم وعرّته، لكنّها ظاهرة عابرة غبيّة لعبت بعقول الجميع، وعبرت كغيرها، ونجده في قصيدته "رسائل الشبح الصغير" يفضح هذه الألعوبة ويتحدّاها:
"الشبح الصغير المتجبّر أفسد وجه العالم
يا له من متمرّد جبار
رغم كلّ شيء يخرج من بين الجدران ويحتل الرئةْ
يمنع الاقتصاد من التنفس
ويشل السوق السوداء
ويحطّم برميل النفط ومسكوكات الذهب الأصفر
ينعش قرصنة الأدوات الطبيّة وأجهزة التنفس والشرائح والكمامات"
وها نحن نشاهد تحقّق نبوءة شاعرنا بتفاصيل التفاصيل.
يصف لنا فراس بعدسته المجهريّة وحروفه التغيّرات الصغيرة الكبيرة التي حدثت لهذا العالم، كلّها مشفّرة ومبرمجة لمصالح من يتحكم في عالمنا، في طريقه لصهر الوعي الجماعي وبناء كائن جديد يسيّره وَفق مصالحه، كما نلمس في قصائده "جنونُ الكائنات العفنة" و"كلّ شيء قد تغيّر". وهنا نلمس رؤية الشاعر وتفاعله مع التغيّرات الكونيّة، بمجسّات عالِم يتفاعل ولا يقف باكياً على الأطلال.
عوّدنا الشاعر على غزله وغزليّاته، ووصفته في حينه بشاعر النهدين، وها هو لا يكذّب خبراً، فمن بين براثين الدمار والموت ينبّهنا للنهود كي لا نتجاهلها ولا ننساها، ففي قصيدته "عن النّهود في حجرها الصّحي" ينبّهنا لوجودها وأهميّتها "لينبت الزرع في أفياء شهوتنا" بعد مرور العاصفة.
رغم الدمار الكوني يستبسل شاعرنا في عشقه السرمديّ ولا يبتعد عن قبّعة المرشد "التربويّ" التي تلاحقه، فنجده يسدي النصائح لمريديه ومتابعيه، ويعطي التعليمات، في قصيدته "ثمّة تدريباتٌ أخرى لكسرِ الملل" ولا ينسى فاء نونه في تلك الأيام العصيبة ولا يتركها تتحمّل وزر حبّه في تلك الأيام التي يحلّق شبح الموت في فضائها فيبرق لها شهيّته وعشقه في قصيدة "طير قلبي الجامح" فيبقيها ونصّه ملازمين له:
"أنت والنصّ صديقاي الوحيدان هنا
تتصارعان عليّ
تأكلان الفكرة النّاضجة
تبتسمان لي حيناً وحيناً تعبسان
تستبدلان شهيّتي للخلود"
وهناك، ورغم الموت المحلّق، يبرق لها ولنا الفينالة/ وصيّته الأخيرة "أصير مثل الآلهة".