منشورات:
الأوزان الخليلية وحضورها في الشعر الحديث
فراس حج محمد| فلسطين
تهدف هذه المقالة إلى تلمس شعر شعراء الحداثة وحضور الأوزان الخليلية في أشعارهم، وأعني هنا بالضبط حضور القصيدة بشكلها القديم (قصيدة الشطرين)، محاولا الرد على تلك المقولات النقدية والفكرية التي تقول: إن الشعر الحر خيار تقدمي اشتراكي أو ديمقراطي حداثي أو ما شابه هذه المصطلحات التي تغص بها مقالات النقاد والشعراء.
تناولت بالحديث وجود هذه الظاهرة عند شعراء فلسطينيين وعرب، لهم باع طويل في كتابة القصيدة الحديثة وتطورها، وعدا كونهم كذلك، فهم شعراء ثوريون يساريون أو تقدميون، لأبين أن الأدب وأشكاله وأجناسه ليست حكرا على طرف دون طرف، وأن الحكم العدل في ذلك ليس الشكل، ولكن الأفكار المطروحة في هذا النص أو ذاك هي التي تحدد انتماء الشاعر أو أيديولوجيته.
وقد اتجهت في تتبع هذه الظاهرة عند الشعراء صوب دواوينهم المطبوعة أو أعمالهم الشعرية الكاملة، ولو أردت تتبع هذه الظاهرة في أشعار كل الشعراء المعاصرين لحصلت شعرا كثيرا وديوانا ضخما، ولكن كما يقولون: "ما لا يدرك كله لا يترك جله".
وقبل أن أجدف في بحر متلاطم الأمواج عميق الغور خطير المسالك، وجدت من الضروري تحديد المقصود ببعض المصطلحات التي تحكم هذه الدراسة وتسير عليها، وخاصة مصطلحي: القصيدة العمودية/ القصيدة التقليدية، والأوزان الخليلية.
أرى أن هناك خلطا في استخدام مصطلح القصيدة العمودية، والحاصل في ذلك هو اعتبار كل قصيدة تنهج نهج النمط التقليدي الشكلي (ذو الشطرين) هي قصيدة عمودية، والحقيقة غير ذلك، إن المقصود بهذا المصطلح هو تلك القصيدة التي التزمت عمود الشعر العربي بقواعده السبعة التي قررها المرزوقي شارح ديوان الحماسة لأبي تمام[1]، ونص عليها في مقدمة هذا الشرح، ولم يشترط المرزوقي في حينه الشكل التقليدي (ذو الشطرين) كأحد مقومات القصيدة القديمة، لأن الشعر العربي وقتها لم يكن يعرف من الشعر أشكالا أخرى، فكان للقصيدة شكل ظاهري واحد؛ قصيدة مكونة من مجموعة أبيات، وكل بيت يتكون من شطرين متساويين، والشطر الثاني ينتهي بقافية واحدة تنتظم كل أبيات القصيدة وتضبط إيقاعها الموسيقي الخارجي، مع أن المرزوقي قد حدد مقومات أخرى غير الشكل على القصيدة لاعتبارها عمودية، وبناء على مقومات المرزوقي أخرج النقاد -على سبيل المثال- الشاعر العباسي أبا نواس من نطاق الشعر العمودي، لأنه لم يلتزم بتلك المحددات.
ويدخل تحت هذا المصطلح مصطلح القصيدة القديمة كمصطلح مرادف للقصيدة العمودية، كذلك فإن في الأمر تخليطا ليس ببسيط، فهل كل قصيدة كتبت بنمط قصيدة الشطرين قصيدة قديمة تقليدية، إذن فكل من كتب مقالا هو مقلد لأول من كتب مقالا، ومن كتب رواية فهو مقلد لأول راو كتب في هذا الفن، والأمر ينسحب على كتاب الشعر الحر أو شعراء القصيدة بالنثر، لذا يبدو لي أن مصطلح (قصيدة قديمة أو تقليدية) مصطلح عقيم وخادع ليس له وجود أو معنى أو ظروف طبيعية ليعيش ضمنها، وعليه فإنني قد اخترت استخدام مصطلح (قصيدة الشطرين) مع المراوحة أحيانا مع مصطلح (الأوزان الخليلية)، على اعتبار أن هذين المصطلحين بسيطان، ولهما ارتباط خارجي شكلي، وليس له أي مضمون فكري أو أيديولوجي.
إن من يتتبع مسيرة الأدب العربي يرى أن الأشكال الشعرية والنثرية تطورت وتوالد بعضها من بعض دون إحداث ضجات فكرية مغمسة بدعوات التجهيل أو التكفير، بل سار الأمر سيرا طبيعيا، معبرا عن حاجة في النفس، تتوسل بأدوات متعددة لإشباع تلك الحاجات، وليس الأمر محكوما بفكر مسبق متبنى يدّعي أصحابه سلفا أنه هو الصواب والتطور وما عداه هو الخطأ والتخلف، ومن هنا جاء التطور في أشكال الشعر العربي قبل ثورة الشعر الحر، ولعل أكبر تطور حدث في بنية القصيدة بشكلها المعهود هو الموشحات، ولكن هذا التطور لم يستفد منه الفائدة المرجوة فمات، ولم يعمر، وقد يكون موته أمرا طبيعيا، لأنه لم يعد يلبي حاجة في نفس قائله، ولم يشعر أحد من الشعراء أنه بحاجة لأن يقول موشحا.
وهذا الأمر ينطبق على مسيرة الشعر الحديثة، فوجود الشعر الحر هو نابع عن حاجة في نقس القائل، وليس مرتبطا بفكرة ما، وللتدليل على ظاهرة حضور هذه الأشكال الشعرية (الشعر الحر، والشعر ذو الشطرين) متجاورة ومتجانسة في شعر الشاعر، تعمدت اختيار شاعرين عربيين هما: الشاعر أمل دنقل والشاعر مظفر النواب[2]، ومن شعراء فلسطين توقفت الدراسة عند نماذج من شعر فدوى طوقان، والشاعر محمد القيسي والشاعر مريد البرغوثي، ويعود السبب في هذا الاختيار لأن هؤلاء الشعراء ثوريون، وهم ينتمون إلى مرحلة ما بعد الريادة الشعرية، ووجدوا في وقت كان الشعر العربي قد استقر بكل أشكاله التعبيرية.
ويغلب على ظني أن هؤلاء الشعراء عندما كتبوا أشعارهم لم يكونوا يعيشون وهم حساسية القديم والحديث وذلك الصراع المفتعل بين أتباع كل منهما، وقد وظفوا الشكلين الشعريين إبداعيا وذاتيا كما تمليه عليهم لحظة الإبداع الشعري، دون فكر مسبق أن هذا الشاعر أو ذاك يعادي نمطا شعريا أو يوالي شكلا مغايرا، لأنه ببساطة مطلقة لا يوجد تضارب أو عداء ما بين أشكال الأدب وأجناسه، وما هذه المعارك التي سمعنا جعجعة أصحابها أو قرأنا وقائعها ما هي إلا غبار قصور في الفهم عند الطرفين، وقد استعنت بشعر هؤلاء الشعراء لأدلل على وجود هذه الظاهرة فقط، وليس لأقوم بمسح شامل في أشعارهم، كما فعلتُ مع أشعار محمود درويش[3]، إذ تحدثت بالتفصيل وتتبعت الظاهرة بكل أشكالها في شعره.
إن من يطالع شعر الشاعر المصري أمل دنقل، تفجأه قصيدة (رسالة من الشمال) المكونة من (38) بيتا ينتظمها البحر المتقارب، وتسير القصيدة كلها على إيقاع موسيقي واحد، يدل على أن القصيدة كتبت كقصيدة تلتزم الشطرين، وأختار من أبيات هذه القصيدة قول الشاعر:
بعمر – من الشوك – مخشوشنِ
بعرق من الصيف لم يسكن
بتجويف حبّ، به كاهن
له زمن .. صامت الأرغن:
أعيش هنا لا هنا، إنّني
جهلت بكينونتي مسكني
غدي: عالم ضلّ عنّي الطريق
مسالكه للسدى تنحني
علاماته .كانثيال الوضوء
على دنس منتن.. منتنِ[4]
وتظل القصيدة تدرج بهذا النفس الخليلي السلس حتى تنتهي، فلن تحس بتخلع موسيقي أو كسر لإيقاع الرتابة الوزنية، بالإضافة إلى أن القصدية متوفرة في هذه القصيدة، فالشاعر كتبها وهو يعلم أنه يكتب قصيدة بنمط الشطرين، وهذا واضح من البيت الأول الذي جاء مصرعا[5] ، ولم يحفل الشاعر بترتيب الأبيات ترتيبا كما هو معهود في قصيدة الشطرين، بل تجد أبياتها منثورة على الصفحات ليوهمنا أنها من الشعر الحر، إلا أن الأمر لن يخيل على القارئ المتفحص، عدا عن أن الشكل الفني للقصيدة لن يخرجها من حداثيتها وثورية أفكارها، فليس الشكل بعائق أمام حمل رسالة الشاعر أيا كانت هذه الرسالة.
أما الشاعر العراقي مظفر النواب، ذلك الشاعر المبعد عن وطنه، كونه شاعرا ثوريا، يتبنى أفكارا تسمى بعرف أصحابها بأنها تقدمية، فإنه لم يتخلَّ عن هذا النمط من الشعر، ذي الحساسية الوزنية الرهيفة، وذي الطاقات الإيقاعية الغنية، وأي شاعر يستطيع التخلي عن هذا الكنز الموسيقي الثرّ؟ غير الشاعر السقيم الغبي الفرح بغبائه يفلسف ما ترسب من أوهام في قعر كأس مثلومة الحوافّ.
وتجلى هذا الشعر في ديوان مظفر النواب بقصيدة عنوانها "باللون الرمادي"، تمتد قامتها لتصل (19) بيتا، تنضح بالمعاني الثورية التي طالما تغنى الشاعر بها، وهذه القصيدة الجميلة التي خصصها الشاعر لدمشق وحنينه لهذه المدينة العريقة، لتقوم دليلا على حسن اختيار الشاعر لأوزانه ورصف بناء أشعاره، بحلة شعرية متماسكة القوام تتوسل بالبحر البسيط لتكتمل موسيقاها وإيقاعاتها الرتيبة، مستفيدا النواب- كما دنقل- من ميزات قصيدة الشطرين، وأعني هنا التصريع في البيت الأول، يقول النواب في بعض أبيات القصيدة:
دمشق عدت بلا حزني ولا فرحي
يقودني شبح مضنى إلى شبح
ضيعت منك طريقا كنت أعرفه
سكران مغمضة عيني من الطفح
أصابح الليل مصلوبا على جسد
لم أدر أي خفايا حسنه قدحي
دفعت روحي على روحي فباعدني
نهدان عن جنة في موسم لقحِ[6]
وتجد هذا الشكل حاضرا وبقوة في أشعار الشعراء الفلسطينيين، ولم يكد شاعر من هؤلاء يتجاوزه أو يستغني عنه، كونه عاملا شعريا مهما، وذا دلالة في الشعر الحديث، عدا إمكانياته الهائلة التي لا بد من توظيفها لتحمل معاني الشاعر وعواطفه.
فقد اعتنت الشاعرة فدوى طوقان بهذا الشكل الفني للشعر العربي أيما عناية، وقد شكل هذا الشعر علامة بارزة في أشعارها، وسأختار لذلك قصيدة من ديوانها "اللحن الأخير"، وجاءت القصيدة بعنوان "صورة ذاتية"، وتهديها الشاعرة إلى الكاتبة الفلسطينية ليانة بدر، تقول الشاعرة فدوى طوقان:
وراءك شوط طويل المدى
سفحت عليه سنين العمرْ
وكم فلسفتك حياة تمرْ
على جانبيها بحلو ومرْ
زوت عنك وجه بشاشتها
وأولتك وجها لها مكفهرْ
خبرتِ تناقض حالاتها
ولم تدركي كنهها المستترْ
وقد حان أن تستريحي وتلقي
عن المنكبين غبار السفرْ
فحسبك أنك لم تهزمي
ولا حطمتك سهام القدرْ[7]
ولم يتخل الشاعر محمد القيسي عن قصيدة الشطرين، بل كان هذا الشكل حاضرا بشكل لافت في مجموعته الشعرية، بقصائد مستوية على سوقها، تعجب القراء لتغيظ بها أدعياء الحداثة الشعرية، فإذا ما طالعت تلك المجموعة فإنك ستقرأ له قصائد خليلية الأوزان لها اعتبارها الفني الأصيل، ومن تلك القصائد أذكر القارئ الكريم بعناوين من تلك القصائد "امرؤ القيس، الأباريق، رومية)[8].
ويراوح الشاعر محمد القيسي بين النمطين في القصيدة الواحدة؛ ففي قصيدته "الوقوف في جرش"[9]، يفتتح القصيدة بمقطع شعري مكون من (12) بيتا يلتزم فيه الشكل الخليلي للقصيدة العربية، وبعد أن يمضي في عباب قصيدته شاعرا حرا، تراه مرة أخرى يعود إلى قصيدة الشطرين، وهكذا مزاوجا بين الشكلين بتناسق تام وجمالية رفيعة المستوى، وقد بلغت تلك المقطوعات الخليلية (5) مقاطع، منوعا الشاعر في أوزانها وإيقاعاتها، مما منح القصيدة تنوعا موسيقيا يعبر عن ذلك الوقوف في جرش حيث المأساة الفلسطينية في سبعينيات القرن الماضي بأيلولها الأسود، ومن هذه المقطوعات أختار هذه المقطوعة التي تفيض حزنا وشجنا طافحين:
دفنا أجمل الفتيان فيكِ
وكنا يا صبية هل نفيكِ
فمن أسقاك هذا الكأس مرا
سقاني من لظاه بختم فيكِ
وقفت على طلولك في جلال
أريك من الهوى ما لا أريكِ
لئن طوفتُ في البلدان عهدا
فقد كانت يداك هما شريكي[10]
وبالتقنية نفسها نجد الشاعر مريد البرغوثي في قصيدته "طال الشتات"[11] يزاوج بين النمطين بانسجام تام دون حدوث نفور موسيقي أو بنائي في جسد القصيدة، ويفتتح البرغوثي كذلك قصيدته المطولة بمقطع شعري مكون من (7) أبيات، يقول البرغوثي فيه:
طال الشتاتُ وعافت خطوَنا المدنُ
وأنت تمعن بعد أيها الوطنُ
كأن حبك ركض نحو تهلكةٍ
ونحْن نركض لا نبطي ولا نَهِنُ
يقول من لم يجرّب ما نكابدهُ
كأنّ أجملَهم بالموتِ قد فُتِنوا
ولو حكى الموت بالفصحى لصاح بنا
كفى ازدحاما على كفيّ واتّزنوا
يهوي الشهيد وفي عينيه حيرتُنا
هل مات بالنار أم أوهى به الشّجنُ
لك اتجهنا وموج الحلم يجمعنا
فبعثرتنا على أمواجها السفنُ
ارجع فديتك إن قبرا وإن سكنا
فدونَك الأرض لا قبر ولا سكنُ[12]
ويكرر الشاعر هذه التقنية في ثنايا القصيدة حتى بلغت المقطوعات الشعرية من نمط شعر الشطرين في القصيدة كلها (6) مقطوعات شعرية بواقع (34) بيتا، محدثة إيقاعا رتيبا، وتجربة إبداعية تنظر إلى الطاقات الكامنة في الشعر فتوظفها مستفيدة منها، بعيدا عن القوالب النقدية الجاهزة التي ليس لها أساس من الصحة.
فهل يعي صغار الشعراء أهمية هذا النبع الإيقاعي الجميل والممتد لأكثر من ألفي عام؟ إن إقبالهم على قصيدة النثر هو إقبال العاجز لا إقبال المبدع؛ اعتقادا منهم أنهم سيخرجون من (ورطة) الوزن والنظام، ولم يعلموا أن قصيدة النثر أصعب، فلا هم أتقنوا هذه ولا هم عارفون بتلك التقنية التي يهاجمونها دون معرفة أو وعي.
الهوامش:
[1] ينظر: شرح ديوان الحماسة، لأبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي، تحقيق، أحمد أمين، وعبد السلام هارون، بيروت، ط1، 1991، المجلد الأول، ص9
[2] لقد أكثر نزار قباني من توظيف هذا الشكل الشعري في أشعاره الغزلية والسياسية، ووظفه كذلك أدونيس في أشعاره الأولى، وسميح القاسم وشعراء المقاومة الفلسطينية.
[3] ينظر: كتاب "في ذكرى محمود درويش" حيث تتبعت هذه الظاهرة في شعر درويش منذ ديوانه الأول "أوراق الزيتون" وحتى آخر دواوينه "لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي". انظر في الكتاب الدراسة بعنوان "الأوزان الخليلية وحضورها في شعر محمود درويش" ص27-99.
[4] الأعمال الكاملة، أمل دنقل، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط2، 2005، ص59-64
[5] التصريع هو: "أن تكون قافية الشطر الثاني هي نفس قافية الشطر الأول"، معجم مصطلحات الأدب، مجدي وهبه، بيروت،1974، ص258.
[6] الأعمال الشعرية الكاملة، مظفر النواب، دار قنبر، لندن، ط1، 1996، ص576.
[7] اللحن الأخير، فدوى طوقان، دار الشروق، ط1، 2000، ص56-57، وهو آخر دواوين الشاعرة.
[8] ينظر: الأعمال الشعرية الكاملة، محمد القيسي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1987، (الصفحات: 627، 628، 639).
[9] ينظر: القصيدة في المجموعة الكاملة، من ص513- ص548.
[10] السابق، ص 517.
[11] ينظر: الأعمال الشعرية، مريد البرغوثي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1997، ص411-430.
[12] السابق، ص 411.