رحيل شاعر وسام على صدر المليشيا:
محنة الشاعر خالد أبو خالد
فراس حج محمد| فلسطين
ولد الشاعر خالد أبو خالد عام 1937، وتوفي في 31 ديسمبر 2021. فقبيل عيد "الثورة" الفلسطينيّة التي قاتل في صفوفها، يرحل أحد شعرائها ومناضليها الكبار، منسياً، غريباً. تتلخص محنة الشاعر خالد أبو خالد كما قال في أحد حواراته المنشورة بقوله: "أنا رتبتي الآن حسب الزملاء لواء، يعني لديّ راتب لواء، ولو تقاعدت يعني يكون لدي تقاعد لواء، وسأروي لكِ بهذا الخصوص هذه الحقيقة: قبل وفاة زوجتي اتصل بي صديق، أخبرني أنه قادمٌ من رام الله إلى عمان، ثم سيزور دمشق ليعزي زوجتي بي، قلت له: ماذا؟ قال لي: في إحدى الدوائر المالية في رام الله أنت مسجلٌ في السجلات الرسمية كمتوفى! يعني متُّ ولم أعُد موجوداً في الحياة! والسبب في إعلان موتي في السجلات الرسمية في رام الله هو أن هناك من سرق راتبي، وحاولت مراراً أن أعرف من فعل ذلك، ليس من أجل الراتبِ أو المال. لكن من أجلِ أن أعرفَ من هم الذين فعلوا ذلك. لم أعرف حتى الآن من قام بهذا الفعل".
نشر هذا الحوار بتاريخ: 29 كانون الأول 2019، يعني قبل وفاة الشاعر بسنتين، ومن المؤكد أنه لم يعرف من فعل به هذه الجريمة، فقد وُئِد الشاعر وهو حيّ من أجل الراتب، وبكل جرأة وصفاقة بل وحماقة ظاهرة، يأتي النعيّ بوفاة الشاعر من رام الله، من الذين سلبوه حق أن يكون حيا. لعله بهذه الكيفية أحد الشعراء الذين اضطهدتهم أحزابهم، وعملت على تغييبهم، وحذفهم من كل السجلات ليست المالية فقط.
لقد رحل هذا الشاعر والمقاتل والمؤمن بفلسطين والعودة الكاملة إليها محررة، فخالد أبو خالد من الذين حملوا السلاح، لكنه لم يعد مع العائدين أيام العودة المنقوصة في 1994 من القرن المنصرم. ولا أدري إن كان عاد إلى فلسطين ثم اختار المنفى الاختياري على العيش في وضع متردٍ سيئ وعقيم؛ تحت الاحتلال.
يمتاز شعر خالد أبو خالد بالقوة والجزالة والعمق، والإطناب في القصيدة، وكثيرا ما يعتمد على التراث الشعبي في قصائده، يقول أبو خالد عن ذلك "أنا أول من عصرن السيرة الشعبية... أنا مأخوذٌ بالفنِّ الشعبي"، ومن يقرأ ديوان الشاعر بأجزائه الثلاثة يجد هذا الارتكاز وبكثافة على الأدب الشعبي ورموزه وقصصه وأمثاله وأغانيه وألحانه.
رحل خالد أبو خالد بعيدا عن فلسطين وترابها الذي ناضل ببندقيته وشعره من أجل حريتها، بعد أن عاش المنفى بكل مرارته وبكل قسوته حيث مستقره الأخير في دمشق، وعانى في أعوامه الأخيرة من سوء الأوضاع الصحية. فكما قال الشاعر: "إن الثمانين- وبُلغتَها-// قد أحوجت سمعي إلى ترجمانْ". فما بالكم والشاعر قد ناف عمره عن الثمانين عاماً.
اشتهر "خالد محمد صالح الحمد" بخالد أبو خالد، وهو اسمه الحركي، أبوه وعمه أبطال التغريبة الفلسطينية كما أخبرني بذلك ابن عمه الدكتور نبهان عثمان، وهما من قادة ثورة القسام 1936، وسبق أن ذكرت ذلك في كتابة سابقة*. لقد أهملته السلطة في رام الله، ولم يبق له من أحد يلتقي معه سوى عدد قليل من أعضاء اتحاد الكتاب الفلسطينيين الذين زاروه في منفاه غير مرة. وشغل- رحمه الله- منصب سكرتير الأمانة العامة لاتحاد الكتاب الفلسطينيين في سوريا.
من حق هذا الشاعر أن تتعرف إليه الأجيال، وأن يكون له قصائد في المقررات الفلسطينية أسوة بغيره من مبدعي هذا الشعب. لا أذكر أن له في المقررات الفلسطينية أي نص للأسف، ألأن شعره لا يتوافق والنفس المسيطر على أجواء القصر الجمهوري في دولة رام الله الزاهية؟ أم ألأنه كان مقاوما عنيدا يرفض أوسلو وزمرة أوسلو؟
إن هذا الإهمال لهو جريمة مضافة لجرائم متعددة يهمل فيها الشعراء والكتاب لأنهم لا يقول "نعم للسلطة"، ولا يمدحونها، ولا يصفقون لصفقاتها التي أودت بالبلاد والعباد ولم تُبق لنا هذه السلطة شيئاً غير أن تحتفل بائسة يائسة بالذكريات في مطلع كل عام، وينطبق على قادتها المثل الشعبي المصري: "أسمع كلامك أصدقك، أشوف أفعالك أستعجب".
لقد صدقت نبوءة الشاعر الذي يرى أبعد مما يرى الساسة الذين أصابهم الواقع بالعمى والبكم والصمم، فمن لم يقاتل دون حقه السليب سيقتل وتدوسه الأقدام. فخالد أبو خالد مؤمن أشد الإيمان بالقوة والسلاح، فلا يفلّ الحديد إلا الحديد. هذه المقولة التي جسدها في هذا المقطع من مسرحيته الشعرية "فتحي":
قاتلْ... قاتلْ
إن لم تَقْتُل تُقتَلْ
إن لم تحم الأرض بصدرك من يحميها؟
إن لم تزرع نفسك في أرضٍ من يزرع من؟ (الأفعال الشعرية، بيت الشعر، رام الله، المجلد 3، ص222)
فلولا أن الفلسطيني الجديد ألقى سلاحه، لم تكن الغربان لتتجرأ عليه وعلى أرضه، وتعمل فيه ذلا وقتلا وسجنا وتدميراً. بالفعل "إن لم تَقْتُل تُقتَلْ". هذا هو ملخص المعادلة التي تعمل سلطة أوسلو على تحطميها وقتل الروح المعنوية النضالية في أبناء الشعب الفلسطيني، ولا يغرنّ أحد الكلام الكبير الإعلامي؛ فهو لا يساوي شيئا والأفعال عكسه تماماً، فأي "أبطال مقاومة شعبية هؤلاء" المجردين من القوة ليجابهوا أعتى عصابة إجرامية مع أفرادها تصريح بالقتل لأي فلسطيني، شك أحدهم أنه ربما شكل هذا الفلسطيني خطرا على الهواء المحاذي لبسطار أحدهم ليولغ رجليه ويديه في تربة أرضنا ودم أبنائنا وبناتنا وشيوخنا؟
تعرفت على شعر الشاعر خالد أبو خالد في فترة متأخرة؛ عندما قرأت الأعمال الشعرية الكاملة (الأفعال الشعرية) في ثلاثة مجلدات كبيرة. صدرت عن بيت الشعر في فلسطين تحت عنوان "العوديسا الفلسطينية" (2008) بمقدمة للشاعر مراد السوداني واصفاً "أبو خالد" بأنه "سادن أُحُد الثقافة الفلسطينية". وقد غنت له فرقة الجذور الكثير من النصوص مثل: "سبل عيونه"، و"زغردي يا ام الجدايل". و"حجر حجر "، و"فلسطين مزيونة"، وغيرها.
رحم الله الشاعر خالد أبو خالد، ابن سيلة الظهر، والعزاء لأهله وذويه، فالشاعر حي ما بقيت كلماته رصاصات تقاوم، فهي وسام على صدرنا، وصدر الثقافة الفلسطينية الممتد في أرجاء الجغرافيا، كما هي "وسام على صدر الميليشيا".
<!--[endif]-->
* يُنظر مقال: "لا تصدّقوا أن الكتب تغني عن الإنسان"، من خلال الرابط الآتي: https://www.amad.ps/ar/post/425406