الرسالة الثالثة والستون
الكتابة صنعة لكنّها صنعة مؤذية بالضرورة
فراس حج محمد/ فلسطين
السبت: 16/10/2021
صباحك الحبّ أيتها الرائعة الشهيّة في كلّ شيء، ها قد أتى المطر ولم تأتي، وتقولين قد بدأ العدّ التنازلي، ولمّا تحضري، ألم تعلمي أنّني منذ وعدك الأوّل باللقاء، وأنا أعدّ تنازليّاً؟ لكن لا شيء بعيد ما دام أنّه لا بدّ قادم. وها أنا أعود إلى مراسلتك بعد انقطاع طويل أملاً فيما تتوق له النفس وترجو.
كان الوقت كلّه حافلاً، ما زلت أكتبُ وبغزارة، أتأمّل كلّ شيء من حولي، وأحاول أن أجعل كلّها قابلة للكتابة، ربّما هذه هي مهمّة الروائيّين، لا مهمّة النقّاد أو الشعراء. على أيّ حال ثمّة أشياء حدثت تهمّ الكتابة، أحببت أن أطلعك عليها، وأوّلها: أنّني بانتظار خروج كتابي الثالث والعشرين من المطبعة "من قتل مدرّس التاريخ؟"، كتاب مختلف في موضوعه؛ إنّه يتناول ظاهرة الصحيفة سيّئة السمعة والصيت "شارل أبدو" واستفزازها المشاعر الدينيّة، فجمعت كلّ ما كتبته في هذه القضية ضمن هذا الكتيّب صغير الحجم، لأثبّت رؤيتي ووجهة نظري تجاه بعض القضايا المبدئيّة في الحياة. وما زلت منتظراً ديوان "وشيء من سرد قليل"، فما زال في المطبعة، ويستعصي على الخروج والانطلاق، لا أدري ما الذي يقيّده هناك!
في زيارتي الأخيرة لمدينة جنين للقاء مجموعة من كتّاب فلسطين المحتلّة عام 1948، ثمّة أمور مزعجة كثيرة، فقد اكتشفت خلال هذه الرحلة مهمّة جديدة للكاتب، أو لي أنا على الأقلّ، إنّ مهمّتي أن أوذي كلّ من عرفت، هكذا تقول لي امرأة غاضبة، لها بي صلة عابرة، أو على الأصحّ هي تقول إنّ صلتي بها صلة عابرة، تبعث لي برسالة "حقودة" بائسة تقطر سُمّاً، تقول في جزء منها: "أنت تلحق الأذى بكلّ من عرفك". يبدو أنّ كلامها صحيح نوعاً ما، فالكتابة تثير المتاعب والمصاعب، صديقة كاتبة أخرى، لها وجهة النظر ذاتها تعبّر عنها وهي تضحك بعد أن قرأت ما كتبته مؤخّراً منتقداً مجلّة ميريت الثقافيّة، وتقول: "يا لك من كاتب، لم توفّر أحداً، خِفّ عنهم يا زلمة". صديقتي هذه لم تصفني بالمؤذي لكنّ اعتراضها يحمل هذه الصفة.
أظنّ أنّكِ أيضاً قد وقعت في هذه الورطة من الكتابة. تذكّري مثلاً كم مرّة جرّتك الكتابة للدفاع عن النفس أو أدخلتك في متاهات لا تدري كيف دخلتِها. ربّما الآخرون أحياناً يدفعونك لتكون مؤذياً.
الغريب أنّني شخص مؤذٍ، هكذا قال لي أصدقاء كثيرون، وهو نفسه السبب الذي جعل امرأة ما منذ سنوات تتركني إلى غير رجعة، بل وتكرهني كأنّني "لا شيء" كما قالت. الكتابة كانت سبباً في انفضاح أمرنا، وقد كان سرّاً، اكتشفَنا الفضوليّون بسرعة كبيرة، وصاروا يتابعون ما أكتب فيلمزونها بالحديث عنّي، فتزداد خجلاً أمامهم، ليتخلّق حقدها عليّ ليصبح هجراناً تامّاً غير جميل. هي الآن تعتبر نفسها ضحيّة من ضحايا كتابة كاتب مؤذٍ جدّاً. لذلك كثيراً ما تمنّت لي الموت في رسائلها العاجلة التي كانت تكتبها بين الحين والآخر.
المرأة الأخيرة التي أوقعتني في شركها سنة كاملة باسمها المستعار وهي تكذب عليّ وتمثّل أنّها تحبّني، أيضاً اتّخذت الموقف ذاته، فأنا مؤذٍ جدّاً بالنسبة لها، هكذا قالت لي في إحدى رسائلها المقتضبة قبل نحو ثلاثة أشهر. لقد غدت الكتابة عنها كتابة تجلب لها التعاسة، بل ربّما ساهمت في تقويض حياتها. تركتني من أجل أن تظلّ بسلام، ليس هذا هو تهديدها الأوّل، بل إنّها منعتني من أن أنشر نصوصاً كثيرة، وهدّدتني قائلة إنّك لن تراني ولن تسمع صوتي بعد ذلك لو نشرت ما كتبته، نشرت تلك النصوص متجاهلاً تلك التهديدات. أعتقد الآن وقد رحلت إلى غير رجعة أنّ معها بعض الحقّ، فقد كانت هي أيضاً امرأة مؤذية، وأنا كنت كاتباً مؤذياً.
هي ذاتها التي تعتقد أنّني "كاتب غير نبيل" لو قمت ونشرت ما بعثَتْه لي من رسائل، ولو حرفاً واحداً منها. سأقوم بنشرها بالتأكيد في الوقت المناسب في كتاب، فكل ما كتب لي فهو لي وهو من حقّي، وأتصرّف فيه كيفما أرغب وأشاء. لقد باتت على قناعة تامّة أنّ كثيرين يعرفون أنّها هي المقصودة في كتاباتي الأخيرة. لا أظنّ أنّ هناك شيئاً أثقل على النفس من امرأة كانت محبّة وتهدّد، لا أتصوّر امرأة شفّافة تحمل شيئاً من نزق البلطجيّة، وهذه خيبة كبرى وليست فقط مجرّد إحساس بالأذى. هذه المرأة أبعدها الخوف، والأولى أبعدها الكره، والنتيجة واحدة، هي الكتابة. كذلك أخاف أن تجبرك الكتابة على أن تبتعدي عنّي كالأخريات، فهل يحدث ألّا أراك نهائيّاً، وأظل منتظراً؟
لا تستغربي منّي هذا التوجّس، النساء اللواتي يتعرفن عليّ يبدين خوفهنّ منّي لأنّني مؤذٍ، سأكتب عنهنّ، وعن قصصهنّ معي أو مواقفهنّ، إحداهنّ لا تخاطبني إلّا بــ "الشرّير". تنبهني كثير من النساء ألّا أفعل وأكتب عنهنّ، إحداهنّ؛ امرأة جميلة ذات حكاية طريفة، تستلّ منّي وعداً مغلّظاً باليمين من أجل ألّا أكتب عنها. وعدتها ألّا أذكرها بخير أو بشرّ في أيّ نوع من أنواع الكتابة، فارتاحت واطمأنّت، وما زالت ترافقني إلى اليوم براحةٍ وهدوء بال. بل لقد صار بيننا أشياء مشتركة كثيرة، ومشروع كبير مفاجئ؛ لعلّه يرى النور قريباً. إنّه ليس مشروعاً كتابيّاً على أيّ حال، فالكتابة لن تأتي بخير أو جمالٍ أبداً.
ليس فقط النساء العاشقات من يشعرن بالأذى، الأصدقاء يرونني مؤذياً أيضاً، صديق آخر تتعرّض سيارته لحادثين وأنا معه برفقته؛ واحد أوّل النهار، والثاني آخر الرحلة. يكلّفه الحادثان بعض المال ويسبّبان له الإرباك في حياته الاجتماعيّة، أنا كنت سبب خسارته وإرباكاته، فلولا أنّه يحبّني ورافقني بناء على دعوتي له لم يكن ليحدث كلّ هذا. صديقي هذا لم يتحدّث معي بعد الحادثين، اكتفى بمراسلتي لأقرأ له ما يكتب. لقد قالها مازحاً وجادّاً: "أرأيت كيف الحبّ يجلب الأذى؟". لعلّه رأى أنّ في امتناعه عن التواصل معي بعض الراحة والبعد عن الأذى. تخيّلي لو أنّ سيارتك المسروقة سرقت وأنا برفقتك هل ستربطين هذا بذاك كما فعل صديقي؟
صديقي المقرّب يحاول أن يقول الشيء نفسه، لكن بطريقة أخرى، فالفولة لا تُبلّ بفمي، بمعنى أنّ كلّ شيء أسمعه أحوله إلى موضوع كتابيّ. الأمر مزعج مؤذٍ، هذا ما يريد أن يقوله لي صديقي، فهو دائماً حذر في الحديث معي، لأنّني سأقول كلّ شيء يوماً ما وأكتبه، ولذلك فأنا مصدر قلق وأذى له ولغيره من الأصدقاء.
على ما يبدو أنّني كاتب سيّئ الحظّ، وليس فقط عاشقاً سيّئ الحظّ، إن أتيتِ فلن أكون عاشقاً سيّئ الحظّ بالتأكيد، على الرغم من أنّني لست حقوداً ولا حسوداً، وأحبّ الخير لكلّ الأصدقاء، ربّما يعود كلّ ذلك إلى مغالطات الربط بين السبب والنتيجة، ولا أريد أن أفلسف الأمور، فقط أردت أن أخبرك كيف يتمّ التعامل مع بعض الأحداث، وكيف يتمّ تفسيرها.
رأي أصدقائي ومعارفي وأحبابي فيّ يثير حزني كثيراً إلى حدّ البكاء الداخليّ. نعم لقد صرت أبكي سرّاً في داخلي، كلّ من حولي من الأصدقاء يذكّرني كم أنا شخص سيّئ، أجلب الأذى، حتّى الزملاء، بعض الزملاء والزميلات يقولون عنّي أنّني شبهة وسُبّة، والبعد عنّي مكسب. فمن أتعامل معهم في العمل في مواقع كثيرة يعتقدون أنّني أيضاً على قدر كبير من الأذى.
في الحقيقة، أيّتها الحبيبة، لا أستطيع احتمال هذا الشعور الضاغط عليّ في أنّني شخص مؤذٍ، هذا شعور قاسٍ بالفعل. فكّرت في الاعتزال التامّ، لكنّني لا أستطيع؛ عملي يجبرني على أن أكسر طوق العزلة يوميّاً عن نفسي، لا أستطيع المكوث في المنزل دون عمل، ثمّة مسؤوليّات يلزمها أن أعمل، صرت أكثر صمتاً في العمل، لا أدخل في أيّ نقاش، لأنّ النقاش سيجعلني شخصاً مؤذياً. احتكاكات العمل جعلت منّي كائناً مزعجاً، مؤذياً. ربّما يلزمني إجازة طويلة؛ لا أرى فيها أحداً، ولا أحد يراني. كيف أوفّر هذه الفرصة؟ لا أدري. فكّرت في الانقطاع عن العالم واقعيّاً وافتراضيّاً، أغيّر أرقام الهاتف، بل لا أريد هاتفاً نهائيّاً، وأرغب في التخلّي عن كلّ ما يوصلني إلى الآخرين أو يوصلهم إليّ، وهذه أمنية قديمة ورغبة تلحّ عليّ منذ سنوات. فكّرت في التوقّف عن النشر، وليس عن الكتابة، لكن ثمّة ما يدفعني لأظلّ موجوداً. عندي هوس لا أعرف كيف أتخلّص منه، الأذى جزء من هذا الهوس. كثير من القرّاء يشتمونني؛ لأنّني أؤذيهم بأفكاري المتحرّشة الصادمة التي تجبرهم على خلع ملابسهم الداخليّة وتحسّس أعضائهم التناسليّة ليطمئنّوا على سلامتها وفاعليّتها، فأكسر حلقة الهدوء حولهم، وأنبش في أشياء يجب ألّا تنبش.
أشيري عليّ، ماذا عليّ أن أفعل لأجنّب الآخرين أذى الكتابة؟ هل كان أصدقائي على باطل ووحدي على حقّ أم على العكس تماماً؟ هل كلّ شيء صالح ليكون موضوعاً للكتابة؟ يريد أصدقائي أن يردّوني إلى المربّع الأوّل، إلى مقولة: "ليس كلّ ما يُعرف يقال"، بل ليس "كلّ ما يقال يفهم كما هو". ما رأيك؟
بالفعل أشعر بالتعب، وصرت أعاني من الصداع كثيراً وهذه هي حالتي وأنا اكتب لك الآن. أخاف أن أصاب بالأمراض المزمنة؛ نتيجة شدّ الأعصاب والتوتُّر الدائم. فهل الكتابة مجرّد صنعة أم أنّها صنعة مؤذية؟ تبدو الكتابة هكذا في حقيقة أمرها. كثير من الكتّاب تعرّضوا للضرب بسبب ما كتبوه، كدت أقع في هذا الفخّ منذ سنوات، فامتنعت عن الكتابة كي لا أضرب على أيدي الزعران والبلطجيّة، كما تعرّض يوماً ما أحد النقّاد إلى البلطجيّة الثقافيّة من أحد الكتّاب، فأرسل له من يؤذيه، لأنّ هذا الناقد كان مؤذياً فيما كتبه عن ذاك الكاتب البلطجي.
سلسلة من الأذى تصنعها الكتابة. فيا لها من صنعة شرّيرة شيطانيّة، تفرّق المحبّين، وتوغر الصدور، وتجلب الأعداء، وتفسّخ عقود الأصدقاء وعهودهم، كثيرون غاضبون منّي بسبب هذه الكتابة، فمن تناولت كتبهم بالنقد ولم يعجبهم ما كتبت تفيض نفوسهم حقدا وغضباً عليّ، بل إنها لتفور في مرجلها، وتتمنّى ليَ العثرة والاندثار، ولا داعيَ لأعدّد لك الأسماء، فهي كثيرة ومزعجة.
هذه المسألة قد تدفع الكاتب ليمسي وحيداً يجترّ حزنه وألمه ووحدته، ويأكل أصابع الندم، فيموت بالسكتة القلبيّة دون أن يجد من يقول: "عليه رحمة الله". بل "الحمد لله لقد ريّحنا من شرّهِ وأذاه".
لقد آن الأوان لأراجع نفسي وأصلح من أمرها، عليّ أن اختار بين الكتابة ومتطلّباتها وبين الراحة والهدوء. ولا أعتقد أنّ هذا القرار سهل، أو أنّني قادر على اتّخاذه- على الأقلّ- في المدى المنظور.
أراك قريباً كما وعدتِني، ولا تنسيْ فالمطر أتى ولم تأتي، وبدأتُ العدّ التنازليّ منذ أمد بعيد، منتظراً لحظة الصفر. أحبّك، فكم أنا مشتاق لاحتضانك، لعلّ المطر الخارجيّ يمطرنا بنشوته ولذّته ونحن معاً. فلا تخلقي عندي عقدة الشاعر نزار قبّاني، فأنا كذلك مثله: "أخاف أن تمطر الدنيا ولستِ معي/ فمنذ رحت وعندي عقدة المطرِ".