لماذا يصرّ الأعداء على أن يكون لديهم أسرى؟
فراس حج محمد/ فلسطين
أظن أنّ هذا السؤال مهمّ، ومن خلال استعراض حركة المعارك والعلاقة بين أطراف النزاع، يتبين أن الأسرى هم دائماً نقطة ضعف الطرف الآخر، فلا يأسر العدو إلا لمصلحة، وفي سبيل هذه المصلحة سيحتمل كل الأعباء الاقتصادية والأمنية والاجتماعية.
كان للأسرى في بعض الدول أهمية، فكانوا يستخدمونهم إما في الزراعة أو في الأعمال الشاقة أو في المصانع كأيدٍ عاملة مجانية، هكذا فعلت ألمانيا النازية مع اليهود، وبعد أن استنفدت طاقاتهم الجسمية كانت تتخلص منهم بالحرق في أفران الغاز. أما بعض الشعوب فقد كانت تستعبد الأسرى، فيباعون ويشترون في سوق النخاسة، رجالا ونساء وأطفالاً، متجنبين أسر كبار السن لأنه لا حاجة لهم، فقد يضطرون لقتلهم حتى لا يشكلوا عبئا عليهم دون أي منفعة أو تحقيق هدف.
ماذا تريد إسرائيل من الأسرى الفلسطينيين والعرب والإكثار منهم في معتقلاتها؟ يلاحظ أن إسرائيل تحافظ دوما على أن يكون عندها عدد كبير من الأسرى، وكلما شعرت أن العدد يتقلص، تقوم بتنفيذ اعتقالات عشوائية من أجل ألا يقل المنسوب البشري في سجونها عن حد هي تتحكم فيه، ولها في ذلك أهداف متعددة؛ فقد تستخدمهم في عمليات تفاوض قادمة، وتدلّس بعدد منهم "غير خطير" لتفرج عنهم كبادرة حسن نية، فستستفيد من ذلك إعلامياً.
لكن قبل أن تستثمر هذا المخزون البشري في أي عملية تفاوض، فإن "إسرائيل" وأجهزتها الأمنية تستغل هؤلاء الأسرى كوسيلة ضغط وتعذيب نفسي بالغة الأهمية، تطال فيه معنويات أهالي الأسرى وأصدقائهم، وكل من يفكّر أن "يرتكب أعمالاً عدائية" ضدها، حسب وصفها، على قاعدة "اضرب المربط ليخاف الفالت"، أو بلغة أخرى "فشرّد بهم من خلفهم". إنها تحاول أن تصدّع الجبهة الداخلية للشعب الفلسطيني ومعنوياته، وتدفعه عبر إشاعة التعذيب والتنكيل والمعاملة السيئة إلى أن "يتوجس" الناس خوفاً ولا يقبلوا على ارتكاب أي أفعال تمس الأمن الإسرائيلي. وبذلك فإن المستهدف الثاني بعد الأسرى هم الآخرون غير المعتقلين، فهي لا تستطيع اعتقال شعب كامل، فتذلهم وتمارس عليهم أنواعا متعددة من الإجراءات، فلا يثورون ولا يعترضون، وبذلك تكون "إسرائيل قد أحكمت سيطرتها على الشعب بطريقة لا تكلف كثيراً.
لقد أدركت المقاومة الفلسطينية أهمية موضوع الأسرى منذ العمليات الفدائية الأولى، فكان من مطالبات المقاومة هو تحرير الأسرى من السجون الإسرائيلية، حدث هذا في عمليات تبادل الأسرى في الثمانينيات وعمليات التبادل مع حزب الله ومع المقاومة في غزة. ولأهمية هذا الموضوع وحساسيته حرصت المقاومة أن يكون لديها أسرى من "جنود الاحتلال" لتستطيع أن تحسّن شروط التفاوض وإحراز إنجازات مهمة، فلا شيء يضغط على إسرائيل كما يضغط عليها موضوع أسر الجنود أكثر من قتلهم، ولذلك صارت تحرص على أن يموت جنودها في المعارك مع الفلسطينيين والعرب على أن يقعوا أسرى بيد المقاومة، وصارت تتجنب المواجهة المباشرة، خوفا من هذا السيناريو الذي يذلها أمام العالم وأمام المقاومة وأمام شعبها.
لقد نجحت المقاومة في غزة في أن يكون لها أسرى، على الرغم من أن المقاومة في الضفة الغربية حاولت ذلك قبل أن تتركز أعمال المقاومة في القطاع المحاصر، فعملت من خلال خلاياها السرية على أسر جنود إسرائيليين أو قتلهم وإخفاء جثثهم، كما فعلت بجثة الجندي نحشون فاكسمان، وكما حاولت خلية أطلقت على نفسها الوحدة (101)، وقد أسسها الأسير محمود عيسى لتكون مهمتها فقط أسر جنود إسرائيليين لتبادل بهم أسرى فلسطينيين.
إنه لحريّ بنا أن ندرك أن إسرائيل تتعمّد إذلال الأسرى، وهم داخل المعتقلات، ولا توفر لهم إلا الحد الأدنى من الخدمات الذي يبقيهم أحياء، وهي عادة متبعة عند الجميع، فالسجن ليس مكانا للترفيه.
لا تريد إسرائيل- باختصار شديد- أن تصبح كيانا محتلا دون أسرى، فهذا يجعلها دولة دون دروع بشرية، فمهمة هذا "الدروع البشرية" في هذا المقام أن يكون حامياً للدولة العبرية عن أن تضطر لتقديم تنازلات مؤلمة لأعدائها، ولذلك دائما تفسر لدينا نحن الفلسطينيين عمليات تبادل الأسرى أنها نصر مؤزر ضد المحتل، وتوظف هذه العمليات لرفع شعبية السياسيين العرب والفلسطينيين، على عكس الإسرائيليين الذين لا يحتفلون بأسراهم المحررين كما نحن نفعل. هل لأنهم اضطروا لفعل ذلك وتقديم ثمن لحرية أسراهم؟ ربما، وربما أيضا يؤلمها أن تنكسر تجاه شعب تحتله، وتفرض عليها مجموعة منه شروطها، فتذلها ذلاً لا تستطيع أن تفسره أنه إحراز إنجاز كبير في تحرير أسراهم. ولأنها بوصفها قوة غاشمة لا تتوقع أن يكون لها أسرى لدى من تحتل أراضيهم، فهل يعقل أن يعتقل المحتل جنود محتليه؟ إنه شيء بالغ الدلالة لدى قادة الاحتلال، يجعلها حريصة على ألا يقع أي من جنودها في هذه المصيدة.
وإمعاناً وإيغالاً في مسألة الأسرى، تطورت النظرة الصهيونية في تعاملها مع الأسرى، وصارت تستمر في احتجاز جثامين الشهداء، إما من يقضي نحبه داخل المعتقلات، وما زال لم يمض محكوميته، وإما من تقتله على الحواجز وعمليات المداهمة والاغتيالات، وكأنها تريد أن تذهب بعيدا إلى آخر الشوط في توظيف فكرة الأسر وما تجرّه من ويلات وانكسار في نفوس أهالي الشهداء، فلا تريد إسرائيل لأحزان الناس أن تندمل، بل تريد أن تخلق لهم مشكلة تنزف كل يوم وجعا مضاعفا، فوجع الشهيد الأسير على نفوس ذويه أصعب آلاف المرات من أسير حيّ أو شهيد دفن خارج السجن وتقبل أهله به التعازي، واقتنعوا بطي الصفحة، متابعين أحلامهم وأيامهم على أمل الخلاص من الاحتلال يوماً.
لقد خلقت "إسرائيل" مشكلة أخرى على هامش المشكلة الأصلية، لتصبح مع مرور الوقت قضية مستقلة، كأنها متن جديد في سفر الاحتلال المليء بالمآسي. فأوجدت عبقريتها الاحتلالية الانتقامية ظاهرة "مقابر الأرقام"، وتجريد المعتقلين من أسمائهم ليتحولوا إلى مجرد رقم في سجلات الأقبية الصهيونية، كظاهرة موازية لظاهرة الاعتقال للأحياء وتعذيبهم أو اضطهاد ذويهم، وهدم بيوتهم، أو إبعاد البعض منهم لو أجبرت على أن تفرج عن بعضهم، ممن تسميهم "معتقلين بالغي الخطورة"، مع أنهم لن يسلموا من شرها، وستقوم بتصفيتهم جسديا أو تعيد اعتقالهم بذريعة أو بغير ذريعة. إن "إسرائيل" في نهاية المطاف "دولة مارقة" و"كيان استعماري" عسكري، لا تعترف بأعراف دولية، أو بقواعد إنسانية، أو بقوانين دولية غير قوانين قادتها المشبّعين حقدا وإصرارا على إفناء الشعب الفلسطيني والتخلص منه بأي وسيلة ممكنة، فقد أثبت هؤلاء أن "الغاية عندهم تبرر الوسيلة"، فما بالكم إذا كانت الغاية قذرة فإن الوسيلة ستكون أكثر قذرارة؟ فليس غريباً إذاً أن نجد قادتهم لا يصبحون قادة سياسيين إلا بقدر ما يَلِغُون في دمائنا ويصادرون حريتنا، بل ويتفنون بتعذيبنا. وتاريخ كل واحد منهم أكبر شاهد عليهم. ولكن عجلة التاريخ تدور ولا بد أن يأتي يوم، ويدفعون تلك الفاتورة من دمائهم وأعمارهم. "ويسألونك متى هو، قل عسى أن يكون قريباً".