فراس حج محمد

موقع يختص بمنشورات صاحبه: مقالات، قصائد، أخبار

في تأمّل تجربة الكتابة

لمن أكتب؟

فراس حج محمد/ فلسطين

لعلّ الأسئلة التي تتعلق بالكتابة، من أصعب الأسئلة، لأن في الإجابة عليها الكثير من الغموض وعدم المصداقية، وفيها كثير من الالتواء والحذلقة، فسؤال لمن أكتب أصعب من سؤال لماذا أكتب.

شخصياً؛ أكتب لشخص واحد فقط (المرأة ) التي أكتب لها قصائد الغزل ورسائل الحب، وفي كل مرة أكتب نصا، أو أصدر كتاباً، وإن كان في السياسة أو في النقد، أو حتى في التربية، أكون أفكر أنها ستقرأ لي ولذلك أنا أكتب لها، الجمهور الآخر ليس في اعتباري، وفي كل مرة أمارس هذه "الغواية" أحاول أن أثبت لها أنني ما زلت قادراً على الكتابة وبجدارة.

وعندما يقرأ لي الآخرون ويعجبون بما أكتب أزداد حرصا على أن أكتب أكثر، ليكون هؤلاء القراء المعجبون والقارئات المعجبات رصيدا إضافياً لأعجبها، تماماً كما قال درويش "كن نهراً لتعجبها". بالفعل أتدفق مثل نهرٍ لأعجبها، أظل مهووسا بالكتابة، كمّاً ونوعا لأقول لها ها أنا موجود، وعليك أن تحبيني أكثر، وأن تقتنعي بي قناعة مطلقة أنني جدير بالقراءة.

أصل أحياناً إلى اليأس القاتل، عندما أشعر أن نصا لم يعجبهاـ أو لم تثنِ على ما كتبت، أو حتى إن مدحت كاتباً آخر أمامي. أغار منه؛ لأنه استحوذ على إعجابها كاتبا، وأنا أصبحت ثانويا هامشياً، لذلك أكتب بكثرة محاولا أن اكتب كل الأفكار. هكذا ببساطة أكتب من أجل أن ترضى بيَ كاتبا وليس مجرد عاشق طامع في جسدها البلوريّ الشهيّ، وهي تمتلك هذه المشهيات. عليها أن ترضي غروري كاتبا، قبل أن ترضي غروري عاشقا رجلا، الكتابة بهذا المعنى بوابة لمتعها الحسية الأخرى.

كثيرا ما وصلنا أنا وإياها إلى منطقة من سوء الفهم نتيجة هذه الفكرة الشخصية جداً، فنتخاصم ونتقاطع أشهراً، وفي هذه الفترة أقتل نفسي تأملاً؛ كيف يمكن أن أغير وجهة نظرها عني؟ وكيف يمكن أن أزيح كتب الآخرين الموجودة بجانب سرير نومها أو على طاولة مكتبها أو تحتفظ بها إلكترونيا في جهازها المحمول؟ فأنا لا أرى نفسي إلا كاتباً شاملاً من أجلها. أعود إليها محملا بالأفكار والكتب. أخترع المناسبات لأؤلف لها كتاباً، أو أكتب لها نصاً. فلست مصلحاً اجتماعيا أو سياسيا في نهاية هذه اللعبة. ككل الكتاب، فلا يوجد كاتب يكتب من أجل أن يجعل العالم أفضل. أشكّ في ذلك شكّا كبيراً. غالب الظن أننا كلنا نكتب من أجل هذا الشخص الذي لا يعنينا غيره في هذا العالم، سواء أصرحنا بذلك أم لا.

من باب آخر تحمل الكتابة بهذا المعنى بعدا مأساويا ذاتيا محزناً، فكل هذا الذي نسيل به من لغة وأفكار ما هو إلا من أجل شخص واحد. إن الأمر يشبه العرس تماماً. فالعروسة للعريس، والجري للمتاعيس، على رأي المثل المصريّ. لكن القراء في هذا المثل ليسوا هم التعساء، بل هم الكتاب الذي يركضون وراء وَهْمِ إعجاب شخص واحد بما يكتبون. القراء هنا سعيدون وهم يجهلون هذه الحقيقة، إذ يمارس عليهم الكتاب خديعة كبرى فيوهمونهم أنهم يكتبون لأجل قضايا عامة ومجتمعية وسياسية وإنسانيّة، وهم في الحقيقة لا يكتبون في هذه القضايا إلا ليشرحوا لذلك الشخص وجهات نظرهم، لعلهم يقتنعون بها، فيصبحون أفضل حبا وعشقا وأقرب إلى الذات والروح. الكتابة- في الحقيقة- لها هذه القدرة في خلق هذا الحافز، وفي إحقاق هذه الفكرة، وترفعها لمرتبة التسليم المطلق.

القراء المساكين يتعاملون مع الكتابة بسذاجة كبيرة، فيتأثرون بما يكتب الكتّاب. لماذا يتأثر القراء بما يكتب الكاتب وهو لا يتوجه إليهم بالكتابة؟ إنه بفعل الخديعة السابقة، أو ربما لأن الكاتب "وجد (عند القارئ) قلبا خالياً فتمكنَ"، أو لأنه ربما اشتبهت الأمور عليه فرأى نفسه في الكتابة. إجمالاً أنا لا أصدق أن القراء يتأثرون بكتب الكتاب، هم يقرؤون فيستمتعون وحسب، ثم يمضي كلاهما إلى غايته، الكاتب يبحث عن فكرة جديدة تعجب شخصه المنتظَر والمنتظِر، والقارئ يبحث عن كاتب آخر، لعله يتذوق فكرة جديدة بمذاق مختلف، إذ إنه- وهذا ملاحظ- أن الكاتب الواحد، وأنا من هؤلاء الكتاب، لكتاباتي طعم واحد، إذ يشعر القارئ، بتلك اللذعة التي تختبئ بين السطور. هذه هي الروح التي تشمل كل كتابات الكاتب، إن اكتشفها القارئ سيذهب باحثاً عن غيره من الكتّاب ليكشف أعصابهم، أما ذلك الشخص الذي نكتب له سيقرأنا في كل كتابة جديدة، لأنه يبحث عما يؤكد حضوره في كل مرة، وفي كل نص، أو كتاب جديد.

هكذا هي الأمور باختصار، على الرغم من أننا أحيانا، أو أنا على الأقل، لا أدري لمن أكتب. أكتب وحسب دون أن أفكر بأسئلة الكتابة التقليدية: "ماذا" أو "كيف" أو "لماذا" أو "لمن"، عليّ أن أكتب وأخطّ على الورق فأسوّد وجه البياض في الصفحة دون فكرة واضحة أو غاية أو جمهور أو أسلوب محدد. فأسئلة الكتابة معضلات فلسفية لن يستطيع الكاتب أن يحلها إلا بالفذلكة والتفلسف واللف والدوران. أما الحقيقة فلن تسلس قيادها لأي كاتب مهما ادعى من خبرة وحكمة وحنكة.

 

المصدر: فراس حج محمد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 260 مشاهدة
نشرت فى 4 أغسطس 2021 بواسطة ferasomar

فراس عمر حج محمد

ferasomar
الموقع الخاص بــ "فراس حج محمد" »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

736,904

فراس حج محمد

نتيجة بحث الصور عن فراس حج محمد كنانة أون لاين

من مواليد مدينة نابلس في فــلسطين عــام 1973م، حاصل على درجة الماجستير في الأدب الفلسطيني الحديث من جامعة النجاح الوطنية. عمل معلما ومشرفا تربويا ومحاضرا غير متفرغ في جامعة القدس المفتوحة. 

عمل محررا لغويا في مجلتي الزيزفونة للأطفال/ رام الله، وشارك في إعداد مواد تدريبية في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وكان عضوا في هيئة تحرير مجلة القانون الدولي الإنساني/ الإصدار الثاني الصادرة عن وزارة التربية والتعليم في فلسطين.

نشر العديد من المـقالات والقـصائد في مـجالات النشر المختلفة الإلـكترونية والصحف والمجلات في فلسطين والوطن العربي وبريطانيا وأمريكا وكندا والمكسيك. وشارك في ندوات وأمسيات شعرية ومؤتمرات في فلسطين.

الكتب المطبوعة: 

رسائــل إلى شهرزاد، ومــن طقوس القهوة المرة، صادران عن دار غُراب للنشر والتوزيع في القاهرة/ 2013، ومجموعة أناشيد وقصائد/ 2013، وكتاب ديوان أميرة الوجد/ 2014، الصادران عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل/ رام الله، وكتاب "دوائر العطش" عن دار غراب للنشر والتوزيع. وديوان "مزاج غزة العاصف، 2014، وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في القصة القصيرة جدا- دار موزييك/ الأردن وديوان "وأنت وحدك أغنية" عن دار ليبرتي/ القدس وبالتعاون مع بيت الشعر في فلسطين، وكتاب "يوميات كاتب يدعى X"، وكتاب "كأنها نصف الحقيقية" /الرقمية/ فلسطين، وكتاب "في ذكرى محمود درويش"، الزيزفونة 2016، وكتاب "شهرزاد ما زالت تروي- مقالات في المرأة والإبداع النسائي"، الرقمية، 2017، وديوان "الحب أن"، دار الأمل، الأردن، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"، مكتبة كل شي، حيفا، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد"، مؤسسة أنصار الضاد، أم الفحم، 2018، وديوان "ما يشبه الرثاء"، دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، 2019، وكتاب "بلاغة الصنعة الشعرية"، دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020. وكتاب "نِسوة في المدينة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2020. وكتاب "الإصحاح الأوّل لحرف الفاء- أسعدتِ صباحاً يا سيدتي"، دار الفاروق للنشر والتوزيع، نابلس، 2021. وكتاب "استعادة غسان كنفاني"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2021، وكتيّب "من قتل مدرّس التاريخ؟"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2021. وديوان "وشيء من سردٍ قليل"، وزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله، 2021. وديوان "على حافّة الشعر: ثمّة عشق وثمّة موت"، دار البدوي، ألمانيا، 2022. وكتاب "الكتابة في الوجه والمواجهة"، الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمان، 2023. وكتاب "متلازمة ديسمبر"، دار بدوي، ألمانيا، 2023. وكتاب "في رحاب اللغة العربية"، دار بدوي، ألمانيا، 2023، وكتاب "سرّ الجملة الاسميّة"، دار الرقمية، فلسطين، 2023. وكتاب "تصدّع الجدران- عن دور الأدب في مقاومة العتمة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمّان، 2023، وديوان "في أعالي المعركة"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2023، وكتاب "مساحة شخصية- من يوميات الحروب على فلسطين"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "الثرثرات المحببة- الرسائل"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "فتنة الحاسة السادسة- تأملات حول الصور"، دار الفاروق للثقافة، نابلس، 2025. 

حررت العديد من الكتب، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب والدواوين المخطوطة. 

كتب عن هذه التجربة الإبداعية العديد من الكتاب الفلسطينيين والعرب، وأجريت معي عدة حوارات ولقاءات تلفزيونية.