فراس حج محمد

موقع يختص بمنشورات صاحبه: مقالات، قصائد، أخبار

الرسالة السادسة والأربعون

"إنتِ وأنا يا رَيْتْ عِنّا بَيْتْ"

فراس حج محمد/ فلسطين

الأحد: 23/5/2021

أسعدتِ أوقاتاً أيتها الجميلة كوحي يبني بيتاً جميلا ولو كان بيتاً في قصيدة.

لديّ كمشة أفكار أريد أن أنثرها بين يديك. ها هي الحرب قد انتهت، ولكن لا أوجع من الحرب إلا ما بعد الحرب. آلام كثيرة وكبيرة. صديقة كاتبة من غزة تباشر بكتابة يومياتها. دار حديث بيننا بعد أن انتهت الحرب، شجعتها على أن تكتب، فكتابة من عاش الحدث ليس كمن شاهده من بعيد، وكتب عواطفه البرانية وتحليلاته وانطباعاته.

للحرب أيضاً أهميتها وعليّ أن أشكرها فقد أعادت وصل ما انقطع من علاقات مع أصدقاء وصديقات، هاتفتهم لأطمئنّ عليهم، ولتدور بيننا أحاديث حول الحرب وغير الحرب. أرأيت كيف يمكن أن يكون للحروب وجوه آخر؟

لقد كتبت عن الحرب، وها أنا أكتب، ربما هي الموضوع الذي لا ينتهي منه الحديث، فكل يوم تقرأين قصة مؤلمة أو تشاهدين صورة أو تستمعين إلى طرفة أو موقف ما. الشيخ "حسني اللحام" كان مدهشا بعفويته. الحرب أوحت له بهذا الذي سمعناه لولا الأريجلية ودوائرها التي تطرفت النكت في ملاحقتها. بالفعل لقد أحببت أسلوبه، كنت دائما أطمح أن أكون خطيبا مثله أو ما يشبهه من الخطباء الذين كنت أستمع إليهم، وأحفظ مفرداتهم وحركات اليدين والرأس. لم أستطع أن أكون خطيبا للأسف، جربت الخطابة وكنت متواضعا في ذلك، لا الصوت ولا الهيأة يمنحانني مؤهلات الخطيب المفوّه.

مشهد ما بعد الحرب يبدو جميلاً، لم أشعر بالقتامة تخيّم على منشورات الناس في الفيسبوك، صحيح أن هناك دمارا وشهداء وجثثا وأنقاضاً إلا أنها لم تجعل المشهد قاتماً. الحرب قاسية، لكن ليس لها قدرة على كسر الإرادة. فلم تتعامل الناس بسوداوية مع تلك المشاهد، بل كان الأمل بازغاً من بين تلك عشرات الصور والمنشورات.

يوم الخميس قبل الإعلان عن وقف العدوان، يأخذنا أنا وزميل لي حديث الحرب إلى ما يقوم به الاحتلال من بطش وهدم البيوت والأبراج السكنية. أخذني الحديث وتشعب. توقفنا مليا عند دلالة "هدم البيت" ماذا تعني؟ إنها لا تعني مالا، ولا مجرد تشريد، إن البيت هو المأوى والمستقر، هو الأمن والأمان، هو المكان الوحيد الذي تكون فيه صادقا مع ذاتك، متجردا من كل أقنعتك، هو المكان الوحيد الذي تدخله، فتشعر أنك في ملكك، البيت ليس مجرد جدران أربعة، لذلك فإن الإنسان يترك شيئا من روحه ونفسه وجسده في المكان الذي يألفه ويعيش فيه. الإسرائيليون عندما يهدمون البيوت، لا يقصدون تشريدنا وتعذيبنا فقط، إنهم يقصدون تجريدنا من هذه الخصوصية وهذا الملك، ويقتلون أجزاء منا يدفنونها تحت الأنقاض من المستحيل أن تعود. من فقد بيته يفقد كل شيء!

البيت- يا عزيزتي- علامة حضارية وعلامة تمدّن، لذلك عرف البشر تطورا عمرانيا في زخرفات البيوت، منازلنا هي الجنات على الأرض، ليس كأهل البادية الذين لا يرتبطون بالمكان إلا بقدر ما فيه من عشب وماء فلا يبنون بيوتاً، فإذا نضب الماء وانتهى العشب رحلواـ فعلاقتهم بالمكان علاقة آنية مرحلية، دون ألفة ودون ذكريات في الغالب، ليس كمن ولد في منزل وعاش فيه عمره كله. المنافي لا تصنع بيوتا والتشريد لا يصنع بيوتا، لذلك يستميت المحاربون في الدفاع عن بيوتهم، فاحتلال البيت معناه القضاء عليك لتصبح كائنا لا إنسانيا من وجهة هؤلاء المجرمين.

نحن الفلسطينيون علاقتنا مع البيوت علاقة طويلة، حمل الأجداد مفاتيح البيوت عند التشريد، لأنهم كانوا يعتقدون أن أجزاءهم الباقية في تلك البيوت في مأمن ما دامت المفاتيح في الأعناق. مات الأجداد وهم يتوقون للرجوع إليها، بل إنهم لم يشعروا بالاستقرار وكانوا على قلق وهم في منافيهم. يقفز إلى ذهني قول درويش عن تلك البيوت الذي يفكر فيها أصحابها الذين هجّروا منها قسراً: لماذا تركت الحصان وحيداً؟ / لكي يؤنس البيت، يا ولدي/ فالبيوت تموت إذا غاب سكانها".

لا شك في أن لديك الكثير من الأفكار حول البيوت وأهميتها، ولن أسترسل حتى لا أشعرك بالملل. لعلك الآن تستذكرين كل تلك البيوت التي سكنتها في الغربة، وفي الوطن قبل الغربة  وبعدها. أظن أننا من الأجيال التي تحب البيوت كثيرا، ولنا فيها حكايات وقصص، في الشتاء وفي الصيف وفي النهار وفي الليل. فأجمل مكان في العالم بالنسبة لي هو بيتي، ولولا دواعي العمل لا أفكر بالخروج منه مطلقاً.

أشعر أحيانا أن علاقتنا ناقصة، فلا بيت لنا سويا نمارس فيه شهوتنا كما ينبغي. غرف الفنادق ليست بيوتا صالحة للحب وممارسته، إنها مكان عابر ليس لنا، سينام على الفراش ذاته بعدنا، كما نام قبلنا العشرات بل ربما المئات، ولم نكن حريصين على أن نترك شيئا منا فيها، بل إننا نكون في أشد الحرص على تجريد المكان من كل ما يعلق به منا. نخرج من الغرفة ونغلقها وكلنا يغادر معنا. أو يموت على أبواب تلك الغرف. كأنّ شيئاً لم يكن، لم تكن تعطينا غرف الفنادق شئياً سوى الألم، لأن ما بعدها الفراق واللامكان. لم أعد أتذكر أرقام تلك الغرف. ألم تلاحظي معي، إنهم يختصرون الغرفة برقم، ونحن إذاً كنا النازلين بتلك الأرقام أرقاماً مثلها، تترجم عند إدارة الفندق أجرة وعدد نازلين لا شيء غير ذلك.

كم أشتهي زيارة بيتك، ورؤيتك فيه غزالة تمرحين، تأخذين زينتك وحريتك دون أي أقنعة، كنت غبيّا عندما أتيحت لي الفرصة لأكون في بيتك ولم آتِ إليك. أعرف أنني أيضا خسرت شيئا مهما، فلم أتذوق إلى الآن طعامك الذي تعدينه بخبرة ربة بيت ممتازة. طعام الفنادق والمطاعم ناقص لا روح فيه، لم أكن أجد فيه لذة الطعام المعد بيتيا، يغيب عنه ذلك النفَس الذي كانت تعنيه أمي عند حديثها عن إعدادها للطعام. ولولا أنك معي لما استطعت أن آكل بلذة وشغف. لم أعد أتذكر طعم وجبة أكلناها سويا، وما أكثر تلك الوجبات! وما أقلّ حضورها في الذاكرة!

كل شيء في البيت له مذاقه الخاص حتى الضحكة لها رونق خاص، والنكد له شكل خاص، والعصبية لها مزاجها الخاص. يا ليتنا في البيت الآن وليكن ما يكون! فلو كنا في بيت واحد لم يطل غضبك كل هذه المدة. أرأيت كم يخسر المحبون عندما يخسرون بيتا يضمهم، ويضمد جراحهم، ويداوي أوجاعهم، ويبدد غيوم غضبهم.

أستمحيك عذراً، لقد شعرت بالتعب فجأة، وانقبض قلبي وأريد أن أتوقف عن الحديث، فقد صار الحديث موجعاً، ولا طاقة لي على احتمال الألم.

أخيراً أقول: لعلنا نلتقي...

تحياتي

 

المصدر: فراس حج محمد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 241 مشاهدة
نشرت فى 23 مايو 2021 بواسطة ferasomar

فراس عمر حج محمد

ferasomar
الموقع الخاص بــ "فراس حج محمد" »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

722,428

فراس حج محمد

نتيجة بحث الصور عن فراس حج محمد كنانة أون لاين

من مواليد مدينة نابلس في فــلسطين عــام 1973م، حاصل على درجة الماجستير في الأدب الفلسطيني الحديث من جامعة النجاح الوطنية. عمل معلما ومشرفا تربويا ومحاضرا غير متفرغ في جامعة القدس المفتوحة. 

عمل محررا لغويا في مجلتي الزيزفونة للأطفال/ رام الله، وشارك في إعداد مواد تدريبية في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وكان عضوا في هيئة تحرير مجلة القانون الدولي الإنساني/ الإصدار الثاني الصادرة عن وزارة التربية والتعليم في فلسطين.

نشر العديد من المـقالات والقـصائد في مـجالات النشر المختلفة الإلـكترونية والصحف والمجلات في فلسطين والوطن العربي وبريطانيا وأمريكا وكندا والمكسيك. وشارك في ندوات وأمسيات شعرية ومؤتمرات في فلسطين.

الكتب المطبوعة: 

رسائــل إلى شهرزاد، ومــن طقوس القهوة المرة، صادران عن دار غُراب للنشر والتوزيع في القاهرة/ 2013، ومجموعة أناشيد وقصائد/ 2013، وكتاب ديوان أميرة الوجد/ 2014، الصادران عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل/ رام الله، وكتاب "دوائر العطش" عن دار غراب للنشر والتوزيع. وديوان "مزاج غزة العاصف، 2014، وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في القصة القصيرة جدا- دار موزييك/ الأردن وديوان "وأنت وحدك أغنية" عن دار ليبرتي/ القدس وبالتعاون مع بيت الشعر في فلسطين، وكتاب "يوميات كاتب يدعى X"، وكتاب "كأنها نصف الحقيقية" /الرقمية/ فلسطين، وكتاب "في ذكرى محمود درويش"، الزيزفونة 2016، وكتاب "شهرزاد ما زالت تروي- مقالات في المرأة والإبداع النسائي"، الرقمية، 2017، وديوان "الحب أن"، دار الأمل، الأردن، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"، مكتبة كل شي، حيفا، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد"، مؤسسة أنصار الضاد، أم الفحم، 2018، وديوان "ما يشبه الرثاء"، دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، 2019، وكتاب "بلاغة الصنعة الشعرية"، دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020. وكتاب "نِسوة في المدينة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2020. وكتاب "الإصحاح الأوّل لحرف الفاء- أسعدتِ صباحاً يا سيدتي"، دار الفاروق للنشر والتوزيع، نابلس، 2021. وكتاب "استعادة غسان كنفاني"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2021، وكتيّب "من قتل مدرّس التاريخ؟"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2021. وديوان "وشيء من سردٍ قليل"، وزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله، 2021. وديوان "على حافّة الشعر: ثمّة عشق وثمّة موت"، دار البدوي، ألمانيا، 2022. وكتاب "الكتابة في الوجه والمواجهة"، الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمان، 2023. وكتاب "متلازمة ديسمبر"، دار بدوي، ألمانيا، 2023. وكتاب "في رحاب اللغة العربية"، دار بدوي، ألمانيا، 2023، وكتاب "سرّ الجملة الاسميّة"، دار الرقمية، فلسطين، 2023. وكتاب "تصدّع الجدران- عن دور الأدب في مقاومة العتمة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمّان، 2023، وديوان "في أعالي المعركة"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2023، وكتاب "مساحة شخصية- من يوميات الحروب على فلسطين"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "الثرثرات المحببة- الرسائل"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "فتنة الحاسة السادسة- تأملات حول الصور"، دار الفاروق للثقافة، نابلس، 2025. 

حررت العديد من الكتب، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب والدواوين المخطوطة. 

كتب عن هذه التجربة الإبداعية العديد من الكتاب الفلسطينيين والعرب، وأجريت معي عدة حوارات ولقاءات تلفزيونية.