حضور رولان بارت المتأخر
قرأت ثلاثة كتب لرولان بارت: "مدخل إلى التحليل البنيوي للقصص"، و"لذة النص"، و"الكتابة في درجة الصفر". كما تتبعت نظريته النقدية المهمة "موت المؤلف" وما تحيل عليه من فلسفة، أو ما انبثقت عنه من فلسفة أيضا. ويمتاز بارت بأنه ناقد واضح في كتاباته التنظرية لا يشعر قارئه بالإرهاق، أو هكذا هو بالنسبة إلي، من طول معايشتي لأفكار النقاد وكتاباتهم، إذ إنني أقرأ المقالة أو الدراسة النقدية بمتعة كبيرة، كأنها قصة شائقة أو قصيدة فارهة.
وتمتاز الكتابة لدى بارت بأنها تخلو من التمطيط والثرثرة. فهي مركزة ويتجنب فيها بارت الإعادة والتكرار، فجاءت كتبه قصيرة مكثفة، غير مملة، وبلغة تتمتع بالسلاسة، وربما يعود الفضل في هذا إلى مترجميه، ولكن المترجم لا يستطيع خلق لغة جديدة بعيدا عن اللغة الأصلية، إذا لم تكن هذه اللغة واضحة وسلسة، أو يراها المترجم واضحة وسهلة، فهي عنده مطواعة ولذيذة كلذة قراءة نص جميل مبهر.
بدا لي أن رولان بارت صديق النقاد والقراء على حد سواء ولم يُعادِ المبدعين، فقد كان أيضا بفضل منهجه النقدي عادلا في النظرة إلى النص واصفا للبنية النصية وعناصرها الفنية. ولذلك فبارت تجاوز الصورة السلبية للناقد التي تسيطر على ذهن الكاتب، فلم يعد القملة التي تعتاش على رؤوس الآخرين أو أنه كاتب فشل أن يكون مبدعا، أو مجرد كاتب صغير ينتقم من الكبار. ربما لأن بارت لم يكتب النص الإبداعي أصلا، أو لم يعرف عنه أنه شاعر أو روائي على سبيل المثال، فهو لذلك يتعامل مع المبدعين كأصدقاء، وليس بمنطق الاستهانة والتفتيش عن سقطاتهم حقا وباطلا.
إذن لرولان بارت فضل كبير على المبدعين والنقاد ودارسي الأدب، وأفكاره النقدية ملهمة ومعلمة، تدعو الآخرين إلى تجاوزها والتحاور معها، وهذا ما حدث مع رونان ماكدونالد مثلا عندما كتب كتابه المهم "موت الناقد"، متأثرا ببارت بطبيعة الحال ويسير على منهجه في الوضوح والمباشرة في العرض ولا يلجأ إلى التطويل المخلّ. فكتابات بارت تعلم وتثقف وتلهم، وهذا عمل كل ناقد كبير وكاتب كبير وشاعر كبير.