الرسالة التاسعة والعشرون
أما أنا فقد ألفت السواد وألفني وصرنا توأمين
الجمعة: 28-12-2018
فراس حج محمد
الحبيبة اللطيفة، كل عام وأنت بخير:
ها هي سنة أخرى تهمّ أن تودّعنا، وتُودِع فينا ذكرياتها، أقف على حافتها الأخيرة، أنظر إليها، أستعيد معها أول عتبة لها من العام الذي انصرم أو كاد، دائما، أسأل نفسي ها هو العمر قد زاد سنة أخرى، ولا أدري كم تبقى من فتيل هذه الروح الضعيفة، ما الذي أنجزناه معا؟ وما الذي أنجزته وحدي؟ حتى أننا صرنا أقل حديثا ولقاء، صرنا غرباء أكثر من أي وقت مضى، الظروف ليست هي المشكلة، المشكلة فينا نحن. أراني كالدجاجة أحفر التراب الذي هو تحت قدميّ دون أن أتقدّم ولو خطوة واحدة، الانكسارات كانت قوية هذا العام الذي يوشك على الانتحار، ليترك فينا جثته النتنة، ولا أظن أن العام القادم سيكون أفضل حالا. سنة أخرى تستعد لتشعل فينا نيرانها لتقضمنا على مهل والسؤال هو هو، والقلق هو هو، وكل شيء على حاله.
هل قلت: إن كل شيء على حاله؟ يا ليت أن كل شيء سيظل ثابتا، على حاله دون تراجع، سأكون ربحت توقف مسلسل الخسارات القوية، فقدت كثيرا من الأصدقاء، فقدت الكثير من اللغة، فقدت الكثير من الأمل، فقدت الكثير من الورد والقصائد. غريب في هذه الحياة الغريبة.
لعلك ستلومينني على هذا التشاؤم، هل بمقدوري أن أتفاءل وأنا أرى نفسي تتلاشى يوما بعد يوم، دون أي هدف، هذا الشتاء بارد وقاس وثقيل، لا شيء جميل فيه، أصرف الوقت كل الوقت بلا أي قيمة، أقضيه أمام التلفاز. أرأيت تفاهة أكثر من هذه؟ أجلس على الكنبة منذ الساعة الثامنة صباحا وحتى التاسعة مساء فقط وأنا أتابع خيالات معروضة على شاشة تلتهم كل شيء فيّ، عدت إلى متابعة المسلسلات العربية المملة، تافهة تلك الدراما، ولكن حياتي أشد تفاهة منها لذلك أجد بعض المتعة فيها.
هل تعلمين أنني لا أحب الشتاء؟ لقد كرهته أكثر وأكثر هذا العام، إنه يمنعني أن أكون وحدي، وأمارس غواياتي كما يحلو لي، تتقلص المساحة التي أمنحها لنفسي، تتوقف القراءة أيضا فيه، ولا أعود إليها إلا مع بداية الربيع. لا أستطيع الكتابة والقراءة إلا منفردا معزولا؛ ما زلت مقتنعا أن الكتابة عملية سرية جدا، ومن العبث والجنون أن تكون مع الآخرين وأنت تكتب. لعل هذا هو السبب في أن الطلاب يفشلون في كتابة موضوعات التعبير المدرسية، لأنهم مجبرون على مخالفة الظرف الطبيعي للكتابة التي يجب أن تكون سرية جدا، وخاصة بالمطلق. يا للنظام التعليمي كم يقتل من إبداعات! كيف للطلاب أن يكتبوا وهم يشعرون أنهم تحت المجهر، ويتلصص المعلم عليهم كل دقيقة ويقتحم عليهم طقوسهم، غير المتوفرة حتى ولو بالإيهام؟ إنهم يشعرون أنهم عراة مفضوحون وهم يمارسون كتابة العبث، لذلك هم يفشلون وباستحقاق. يا ليتني كنت أعلم هذه الحقيقة وأنا معلم، لكنت تداركتها بشيء من الحكمة، لقد فات الوقت الآن، ولم يعد يجدي الندم شيئا.
ثمت أمور تزعجني في هذه الحياة؛ تفاصيل حياتية صغيرة، هي تافهة بالتأكيد، لكنها تحفر في العصب، تمنعني من النوم. بالمناسبة لقد أصبحت أقل نوما، وأقل سهرا أيضا، وأقل تدبرا وتأملا وحكمة، وأقل كتابة، وأقل حبا، تكلّس القلب وجفت نداوة الروح، أشعر أنني أصبحت حجرا لا شكل له ولا اعتبار. أصبحت أقل كينونة وجودة وهدوءا، بل غدوت مفعما بالخسارات، فهي كل ما تبقى لي.
أيتها الحبيبة، لا أكتب لك لتشعري بالبؤس، ولا لتتعاطفي مع حالتي التي تزداد بؤسا كل يوم، لعلك ما زلت تذكرين آخر رسالة رجوتك فيها "أن تمسحيني من قاع حذائك". أعرف أنني كنت قاسيا، لكنك إلى الآن لم تستطيعي إدراك حجم الخراب المعشش في كياني ليدفعني إلى هذا الجنون، لقد كانت رسالتك محقة: "يا لقسوة كلماتك يا لهذا الجنون الذي يسكنك، يا لوجعي وخيبتي، كأننا نحرث الماء ولا جدوى من شيء، فقط أريد أن أعرف شيئا واحدا ما الذي يثير جنونك لهذا الحد؟ ما الذي جنيته؟"، إنني لا أملك أي جواب على هذه الأسئلة المدبّبة، بالفعل ليس عندي جواب. لست أدري هل ستسرك رسالتي هذه التي تأخرت أكثر مما يجب؟ آمل أن تقرئيها جيدا، مع أنني لا أطلب ردا ولا أنتظره، وفي الحقيقة لا أريده.
على الرغم من كل هذا الوجع أتمنى لك سنة حلوة، مليئة بالشعر والرضا عن النفس. سنة مضت كانت أكثر حزنا ولم نلتق فيها كثيرا، أتمنى أن يكون العام القادم أكثر سرورا، لك أنت، أما أنا فقد ألفت السواد وألفني وصرنا توأمين.
دمت بخير وعافية وشعر....
فراس حج محمد