<!--[endif]--><!--[if !mso]-->
|
<!--<!-- الصياغة في الخطاب النبويِّ
بينَ بلاغة التعبير وروعةِ التأثير (1/5)
ما من شكٍّ في أنَّ الصياغةَ – بقيمِها الإشاريةِ ، وأطيافِها الجماليةِ ، وظلالِها الفنيةِ ، وأهدافِها السنيةِ ومنابعِها الفكريةِ ، وروافدِها التعبيريةِ – تمثِّلُ الركنَ الرئيسَ في الخطابِ الإبداعيِّ ؛ لما لها من بالغِ الأثرِ وأكبرِ النفعِ على العمليةِ التكوينيةِ ،والذهنيةِ ، والإيحائيةِ ، والرمزيةِ ، والتصويريةِ للخطابِ بكلِّ خواصهِ الموافقةِ للنَّسقِ الصياغيّ ، والإلفِ الدلاليِّ ، أوالمفارقةِ للمقوماتِ النصيةِ في إطارِ المعاييرِ النقديةِ ، ما دامت تكفلُ رعايةَ الجانبين : اللفظيِّ والمعنويِّ في التعبيرِ الأدبيِّ ، الذي يجعلُها تعبرُ نفسَ مبدعِها إلى الخارجِ ، ذاك العالمُ المنظورُ ؛ فهو يحاولُ جاهداً نقلَها عبرَ وسائطَ متمثلةٍ في الصِّحةِ اللغويةِ ، والصورِ الجمالِيةِ والفنيِّةِ والمعنويةِ – إلى حيثُ يستطيعُ غيرهُ أنْ يراها أو يسمعَها ؛ حينَ يودعُها - بسخاءٍ وجلاءٍ - عملاً مجسَّداً أو محسوساً ،أي يقعُ في نطاقِ الحواسِ الخمسِ .....؛
والمبدعُ الحقٌّ إنما يفعلُ ذلك حينَ يجدُ في الوجودِ الماديِّ من حولهِ أو ما يسمى بالطبيعةِ – على شتى ظواهرِها أو مجالاتها - عناصرَ تتيحُ له ، أو تمكِّنُه من أنْ يصوغَها ، أو يشِّكلَها لتتآزرَ مفضِيةً إلى خلقِ نسيجٍ محكمٍ ، أو تشييدِ بناءٍ فنيٍّ متماسكٍ متكاملِ ، أساسُه اللبناتُ ، تلك الكلماتُ التي تُعبِّرُ عن وحدةِ الشكلِ والمضمونِ ، وتجانسِهما فيما بينهما ؛ لإيصالِ المعنى الحقيقيِّ إلى المتلقى ، ذاك العصبِ الحساسِ في الخطابِ النصيِّ ...؛
هذا ويُعدُّ الوجهان المميزان لعملةِ الصياغةِ : اللغويُّ – بفضائه الدلاليِّ والإيحائيِّ ، والمعنويُّ – بعوالمِه الذهنيةِ والفنيةِ والإشاريةِ والرمزيةِ - القوتين المحركتين والدافعتين لطاقةِ الإبداعِ إبَّانَ مراحلِها التمهيديةِ ؛ ذلك أنَّ الأولَ - تكمنُ أهميَّتُه في الكلمةِ المؤثرةِ في الخطابِ ، ومراعاتِها للنسقِ اللغويِّ الموروثِ عن العربِ الأقحاحِ ، مع الالتزامِ بالقوانينِ الإعرابيةِ ، والصرفيةِ التي تؤصِّلُ لأحوالِ الكلماتِ ، عمادِ الصحةِ والسلامةِ في العمليةِ التعبيريةِ ، وبالتالي تؤسِّسُ لمركزيةِ الصياغةِ الفنيةِ حيثُ تقودُ المستوى النصيِّ إلى النضجِ الفنيِّ ؛ حينَ تسهمُ بنصيبٍ وافرٍ في إعمالِ الفكرةِ أو المحتوى أو المعنى في قالبٍ لفظيٍّ محسوسٍ ....؛
وتِبَاعاً فإنَّ المبدعَ - حيالَ هذا المسعى - يبذلُ جهداً كبيراً للعثورِ على الصياغةِ المناسبةِ للمعنى المناسبِ ، هذا وتتجلَّي مهاراتُه من خلالِ التعبيرِ المتقنِ الذي تتلاحمُ الفكرةُ فيه مع الأسلوبِ في سبيلِ إخراجِ خطابٍ إبداعيٍّ مترجمٍ للتجربةِ ؛ ليصبحَ قادراً على الإيصالِ والإيغالِ في العوالمِ النفسيةِ والإشاريةِ والمجتمعيةِ .
إنها لا تعدو أن تكونَ أكثرَ من صنعةٍ تعبيريةٍ ممثلةٍ للنشاطِ اللغويِّ تلك التي تقومُ على التعبيرِ عن المشاعر الإنسانيةِ المتفردةِ ، وتنقلُ بدقةٍ نبضَ مبدعِها ، ومدى حرصِه على أن يغوصَ خطابُه الإبداعيُّ والمعرفيُّ في عوالم المتلقى - المعيارِ الحاكمِ في التأثير النفسىِّ .
والآخر - المعنويُّ يكتسبُ قيمتَه من الدلالاتِ الذهنيةِ ، والصورِ الفنيةِ التي تتكونُ من الألوانِ البلاغيةِ والصورِ النفسيةِ التي تخاطبُ وجدانَ المتلقي في رحلةِ البحثِ لإنتاجِ قيمةٍ إبداعيةٍ ، حينَ تتضافرُ متَّحِدةً مع الصورةِ الماديةِ المتمثلةِ في المفرداتِ والتراكيبِ مكونةً النسيجَ المتكاملَ لهذه الحالةِ الفنيةِ التي عانت طويلاً في مخاضها العسيرِ لإخراجِ منتوجِها بانعكاساتهِ الطيفيةِ على الواقعِ المنظورِ .
تأسيساً على السابقِ فإنَّ الصياغةَ – في صورتِها النهائيةِ - تحلِّقُ - في أفضيةِ التعبيرِ والتصويرِ بعدَ عملياتٍ شاقةٍ من التحويرِ والتحريرِ منطلقةً إلى أفضية النّصِّ بجناحين قويين ؛ الأول - اللغويّ الكائن والكامن في البناء اللفظيِّ على كافةِ شكوله النسقيةِ والنحوية ، والصرفية ، والمجمعيةِ ، والدلاليةِ ، وما بينهما من علائقِ تشابكَ ، بما يحققُ إيجادَ صنعةٍ تعبيريةٍ قادرةٍ على إيصال المعنى إلى عقلِ وقلبِ الملتقي الذي تتحركُ طباعُه على إثرِ هذهِ الصنعةِ ، وتهتزُّ مشاعُره طرباً بما تحفلُ به هنا ....؛
والآخرَ الفنيّ : الذي يعملُ جاهداً على تشكيلِ المعنى الذهنيِّ حينَ يحشدُ كلَّ طاقاتهِ الحسيةِ والشعوريةِ فنراه في مرحلةِ التأملِ واختيارِ الذاتِ الناظرةِ إلى الذاتِ المنظور إليها - ملايين من المرئياتِ والانطباعاتِ والمعلوماتِ ، فالخواطرِ فاللوامعِ ، ولطائف المعارفِ حيثُ يتمُّ ذاك الشكلُ النهائيُّ له حينَ تصبحُ مادةُ التعبيرِ ، تلك الصورَ المرموزَ لها ، والأشياءَ والموجوداتِ التي تحيطُ بالمبدع ؛ لتجئَ الصياغةُ ذاك البناءُ المحكمُ المتكاملُ القائمُ على وحدةِ الشكلِ والمضمونِ داخلَ سياجهِ اللغويِّ ....؛
إنه ومن خلالِ هذين الجناحين تتسامقُ الصياغةُ الحقيقيةُ للمعنى الذهنيِّ التي تنفذُ إلى جوهرِ الأشياءِ وتقديمِها تقديماً يجمعُ بينَ الحسِّ الخارجيِّ بكلِّ أصباغهِ الحسيةِ وأطيافِه الحلميةِ ، والإحساسِ الذاتيِّ بكلِّ نبضاتِه الشعوريةِ ؛ لتؤديَ دورَها الخلاَّقَ في الكشفِ عن ثراءِ عالمِ الخطابِ الخصيب الذي وصلَ إلى أعلى درجاتِ الوعي والروعةِ والجمالِ والكمالِ الفنيِّ فكراً ومحتوًى ومعنًى ، وهذا أمرٌ مسلَّمٌ به ، طالما وقرَ - في أخلادِنا - أنَّ التعبيرَ الأدبيَّ - بكلِّ منجزاتهِ الفنيةِ - لا يعدو أن يكونَ سوى تركيبٍ لغويٍّ فنيٍّ أو نظمٍ مميزٍ ، لا قيمةَ فيه للمعني وحدَه أو للفظِ وحدَه ...؛ أَجَلّ :- إنها وحدةٌ مترابطةٌ متكاملةٌ في الشكلِ والمضمونِ ، ولعل هذا ما يعطفُنا تفهُّماً وانجذاباً على جوهرِ القيمةِ الجماليةِ للألفاظِ التي أعيت نقادَنا القدماءَ ردحاً من الزمنِ ....؛
ونحنُ – بدورنا - لا نجدُ شذوذاً أو غرابةَ إذا تأكد لنا أنَّ الإبداعيةَ - من خلالِ الجانبِ الصياغيِّ - إنما تمارسُ - بقوةٍ وسطوةٍ وتأثيرٍ - فاعليتَها وسلطتَها في إنتاجِ المعرفةِ الإنسانية حينَ نوْجِّهُ قطبَ اهتمامِها ، وذلك للشكلِ والمضمونِ في إطارٍ من الوعي بلغويةِ اللغةِ كاملةً ، وأدبيةِ التعبيرِ قاطبة معاً ؛ سبيلاً لتقديمِ النسيجِ الحيِّ والمتجددِ للذاكرةِ التذوقيةِ .
هذا وسنعرضُ في المقالةِ القادمةِ – بمشيئةِ اللهِ تعالي – حديثاً عن الصياغةِ في الخطابِ النبويِّ ؛ وكيفَ أدَّت دورَها بعنايةِ في إبداعِ الدلالةِ هنا حينَ دانت لرسولِ اللهِ r، حيثُ إنّ اكتشافَ النظامِ الصياغيِّ في الخطابِ النبويِّ يسهمُ بنصيبٍ وافرٍ في إبرازِ النظامِ الدلاليِّ على النحوِ الذي يدللُ على مثاليتِه ، ومطلقِ فاعليتهِ .