عطيــــــــه الزغيبــــــــــى

مهنـــــــدس زراعــــــــى

عبث الزراعة الحديثة :بدأ من الأسمدة الكيماوية إلى المبيدات الزراعية حتى البيوتكنولوجى.

الزراعة التقليدية و الحديثة: لقد طوّر الفلاح التقليدى طُرُق مستدامة للزراعة (طُرُق تجعل الزراعة تعطي إنتاجا جيّدا على مدى طويل من دون التأثير سلبيّا على التربة أو جَودة المحاصيل). الفلاحون الصينيون يحصلون على إنتاجية عالية من حقولهم لمدة استمرت اكثر من ثلاثة آلاف عام دون أن يعتدوا على خصوبة تربتهم. بل على العكس من ذلك, فقد ساعدوا بطريقتهم هذه فى الحفاظ عليها وزيادة خصوبتها إلى حدها الأقصى.

يمكننا تحسين طرق الفلاح التقليدية بواسطة المعرفة العلمية التى نملكها اليوم عن كيفية نمو النبات, و عن تركيب التربة, وكيميائها, وطرق تحديد عمرها, بالإضافة لمعرفتنا بالعمليات الحيوية التى تجري داخل النبات, و معارف أخرى.

ولكن التحسين لا ينبغى أن يكون فى الإتجاه السائد اليوم و هو زراعة المساحات الهائلة بمحصول واحد,  أو إعتماد الميكنة (المكننة) في الزراعة, أو إستخدام المبيدات الصناعيّة بشكل هائل , أو تعديل المحاصيل وراثيّا , مما يجعل الزراعة غير مستدامة.

و لقد عمدت القوى الاستعمار إلى التخلّي عن الفلاحة التقليدية : التى كان هدفها سَدّ حاجات الأسواق المحلية والإقليمية. و أخذت تفكّر تلك القوى عن الطرق التي تسمح لها بإمتلاك كميات هائلة من القطن والسكر والبن و الشاي والكاكاو وغيرها , فراحت تنزع الأراضي من ملايين البشر . لم تكتفي بهذا فحسب بل إتجهت إلى إجبار الأفريقيين على مغادرة مواطنهم الأصلية ثم المتاجرة بهم في أميركا. تلك التجارة التى تشكل واحدة من أعظم الكوارث فى التاريخ البشرى.
و مع بدايات المرحلة الاستعمارية, طور الفلاحون الأمريكيون, و بالرغم من الكوارث العديدة ,كعواصف الأتربة مثلا, نُظُم زراعية جديدة كانت فى طريقها لان تصبح نظم زراعة مستدامة. و ظلّت هذه النُظُم سائدة حتى نهاية الحرب العالمية الثانية و لكن لم يتبقّى منها شيىء لأسباب عدة , منها ما سَيلي:

مع بدأ الثورة الصناعيّة , نجحت الصناعة - في خطوات متتابعة – أن تستحوذ على العمليات الزراعية التى كان يقوم بها الفلاح التقليدي. و انتزعت منه كل ما كان من شأنه أن يحقق ناتج ربح مضمون, تاركة له أن يتحمّل كل مخاطر العمليات الزراعية وحده مثل: مخاطر المحصول السيئ, والطقس الغير ملائم, و خسارة المال المستثمَر نتيجة الزيادة فى أسعار المستلزمات الزراعية, والانخفاض المستمر فى أسعار المحاصيل الزراعية.فما يجري الآن في الزراعة الحديثة هو إعتماد المبيدات الزراعية, و الميكنة الثقيلة , و تُعدّ كلتا العمليتين من الأشياء المستهلِكة للطاقة بكثافة: لأن تلك المبيدات تُستخرج من الأرض و يحتاج استخراجها رؤوس أموال كبيرة . وإضافة إلى ذلك ينتُج عن الفلاحة الحديثة تجريف التربة و إستبدال الخصوبة التي تُفقد (من جرّاء ما تستهلكه النباتات المزروعة و الذي يُفترض أن يُعوّض بالأسمدة العضوية) بمواد كيماوية إصطناعية. أما إذا نظرنا إلى الزراعة من منظور كُـلّي ايكولوجى, فنراها عبارة عن عمليّة تُدار على الطاقة الشمسية من خلال عملية التمثيل الضوئي للنبات. فما تفعله الزراعة الحديثة هو مجرّد تخريب هذا الجانب الاصيل من العملية الزراعية. و قد تتطلب الزراعة الحديثة كميّات من الطاقة اكثر من تلك التى تنتجها. و للتوضيح فقط , نستطيع ان نقول ان حالة الزراعة الحديثة هي كحالة بئر البترول, الذي تستهلك فيه ماكينة الشّفط كمية من البترول اكبر من الكمية التى تسحبها من البئر. و لذلك لا يضمن بقاء مثل هذه النشاطات إلا الدعم المالى . فلا يسعني إلا أن أقول أن الامن القومي يعتمد بشكل جوهرى على زراعة صحية ومستدامة.
 


عمليّة الإنتاج: نظرا لضخامة المحاصيل التي تنتجها اليوم الشركات الزراعيّة الكبرى, تضطر هذه الشركات إلى الحفاظ على المحاصيل عن طريق تلويث الأغذية بالاضافات الكيماوية التى يسمونها مواد حافظة. ولو رغبنا فى مقارنة المزارعين التقليديين بمزارعي اليوم فمن الواجب اضافة ساعات العمل فى عمليّات التصنيع التي ذكرتها , و إضافة اعمال أخرى كالتعبئة, و التغليف و غيرها. و هنا سؤال يطرح نفسه : أيهُما أكثر إنتاجية ؟ . في الواقع تدمّر الزراعة الحديثة الغذاء اكثر مما تنتج منه. فمن يزعم أن الزراعة الحديثة تنتج من هكتار واحد ستة أطنان من الذرة مقبل طنين من الذرة في الزراعة التقليدية , يكون قد نَسيَ أن الزراعة الحديثة تنتج ستة اطنان من الذرة فقط لا غير, بينما يُنتج أحد المزارعين التقليديين من هكتار واحد محاصيل متنوعة, فقد يستغلّ وجود أنصاب (أعواد) الذرة فيزرع البقول , حيث تتسلّق هذه الأخيرة تلك الأعواد. فقد يزرع ايضا بين هذه الاعواد القرع و البطاطا و الطماطم وكل انواع الخضروات والاعشاب الطبية. و من نفس الهكتار ينتج هذا الفلاح غذاء لماشيته ودواجنه. انه ينتج بسهولة اكثر من 15 طنا من الغذاء فى الهكتار الواحد, دون سماد كيماوى ودون مبيدات كيماوية ودون قروض بنكية ولا دعم حكومي ولا دعم من الشركات متعددة الجنسية.


الاسمدة الكيماوية: اصبحت الاسمدة تجارة لها مكانتها بعد الحرب العالمية الأولى. فمنذ البدايات المبكرة للحرب, أدّى حصار الحلفاء لألمانيا إلى وقف إمدادها بالنيتروجين القادم من تشيلي. و كان يُعدّ النيتروجين العنصر الضرورى لصنع المتفجرات. وكانت العملية الكيماوية المسماة "هابر- بوش" لاستخلاص النيتروجين من الهواء معروفة علميا, ولكنها لم تكن قد اصبحت بعدُ عملية صناعية تُنتج احجاما تجارية من هذا العنصر. و لهذا انشأت المانيا منشآت إنتاجية ذات طاقة هائلة و أدارتها لتستطيع القتال لمدة اربع سنوات. و هكذا ترى كيف يمكن لعملية تكنولوجية واحدة ان تغير مجرى التاريخ.

وبانتهاء الحرب العالمية الأولى, ظل هناك مخزون هائل من النيتروجين, وطاقات إنتاج صناعي ضخمة. ولكن لم يعد هناك أسواق لتلك المتفجرات. حينئذ قررت الصناعة ضخ الاسمدة النيتروجينية نحو الزراعة. حتى تلك اللحظة, كان الفلاح راضيا عن اساليب التسميد العضوي فى الحفاظ  على خصوبة ارضه طوال سنين الزرع. وكانت الماركات التشيليّة مثل "السلتبيتر" , و "الجوانو" تُستخدم فى نطاق ضيق حيث لم تستخدم إلا لمحاصيل مخصوصة أو في البساتين الكبيرة فقط.

إن الاسمدة النيتروجينية عالية التركيز, و هي نوع من انواع الادمان. كلما إستخدمتها اكثر, اصبحت مضطرا لان تستخدمها على التوالي اكثر فاكثر.

وسرعان ما أصبحت هذه الأسمدة تجارة كبير جدا. و طوّرت الصناعة مجموعة كاملة من اسمدة الفوسفات, والبوتاس, والكالسيوم, والعناصر الدقيقة. وظهر منها ما هو على أشكال من الأملاح المركبة فى شكل حبيبات, يتم رشّها أحيانا بالطائرات.

المبيدات العشبية و الحشرية: ساعدت الحرب العالمية الثانية في دفع صناعة المبيدات الحشرية إلى الأمام. و ساعدت هذه الحرب على أن تبدأ هذه الصناعة بمقاييس كبيرة. و اليوم تنتشر, عبر الكوكب كله, سموم تصل قيمتها إلى مئات المليارات من الدولارات. استخدمت الغازات السامة مرة واحدة فقط أثناء الحرب العالمية الأولى, ولكنها أحدثت تأثيرا مخرّبا , و لم تُستخدم فى تلك الحرب مرة أخرى.

أما في الحرب العالمية الثانية لم تُستخدم الغازات فى المعارك أبدا , لكن أجريت أبحاث كثيرة عليها في المقابل. و برزت شركة "باير" من بين آخرين فى هذه اللعبة, وطوّروا استرات حمض الفوسفوريك واصبح لديهم بعد الحرب طاقات إنتاجية ضخمة و مخزون هائل. و انتهت الشركات آنذاك إلى أن ما يقتل الناس قادر ايضا على قتل الحشرات, فصنعوا تركيبات جديدة من هذه المواد و باعوها كمبيدات حشرية.

و كانت مادة ال "دى دى تى" معروفة بالمادة المعجزة , خاصة عندما اكتشف "موللر" - باحث معامل شركة "جايجى" - انها تقتل الحشرات دون ان تؤذي البشر ظاهرّيا. نـبّـه "موللر" القوات المسلحة الامريكية بهذا الاكتشاف, لانها كانت تعانى من الملاريا فى منطقة الباسيفيك التى كانت تحارب اليابانيين فيها. واستخدمت هذه المبيدات بشكل غير محسوب تماما, لما اعتقدوه وقتها من انعدام آثارها الجانبية الضارة: حيث تم رشه على مساحات واسعة من الاراضى وحتى داخل المنازل وتحت ملابس البشر.

وقبل نهاية الحرب بوقت قصير, كانت هناك طائرة حربية امريكية فى طريقها الى "مانيلا", بالمحيط الهادى, محملة بكميات ضخمة من مادة " D 2,4 T2,4,5 " شديدة الأذى للنبات. و كانت النية متّجهة الى تجويع اليابانيين من خلال تدمير محاصيلهم عن طريق رشها بهذه المواد السامة من الجو. و لكن الامر كان قد فات أوانه, فقد صدرت الأوامر لحاملة الطائرات بالعودة, قبل أن تصل إلى هدفها, لان مجموعة أخرى من الطائرات الأمريكية كانت قد أسقطت قنابل ذرية على هيروشيما و ماكازاكي, لتنسج القصة التى يعرفها كل شخص منا. و وقّع اليابانيون على طلب الهدنة.

وجرت وقائع نفس القصة. أصبحت كميات هائلة من الطاقات الإنتاجية, بالإضافة إلى المخزون الضخم تعاني نُدرة وجود أسواق للتصريف. لذلك أعيد صياغة هذه المواد كمبيدات للزراعة , وتم صخّها للفلاحين.

أيضا في الفترة الواقعة بعد الحرب الفيتنامية, رش الجيش الامريكى بشكل طائش ما اسموه "العامل البرتقالي" أو Agent Orange, إضافة إلى ألوان أخرى, على ملايين الهكتارات من الغابات الاستوائية, مدّعين انها فقط مادة رَغويّة تكشف قوات العدو المختبئة. و لكن للأسف أدعوكم لمشاهدة أفلام وثائقية عن الحرب الفيتنامية لترُوا ما حصل للسكّان و المساحات المزروعة لأن الكلمات تعجز عن الوصف.

تجحت الصناعة بعد ذلك في الاستيلاء على مراكز البحث الزراعية, واعادت توجيهها لاغراضها الخاصة. وربطت بهذه المراكز ,ايضا, المراكز البحثية الرسمية وفروعها, بالاضافة الى مدارس الزراعة. وشكلت جماعات ضغط سيلسي لاصدار احكام وتشريعات لصالحها. وانشأت نُظُم بنكية لتسليف الفلاحين, تبدو ميسّرة. و بذلك كله, خلقت للفلاح وضعا صعب الإفلات منه ولا يوجد له بديل.

واليوم تقبل معظم مدارس الزراعة الاطار الذى تدور فى فلكه الزراعة, دون ادنى تساؤل. وكذلك المعاهد والمراكز البحثية. كما ان الغالبية من الفلاحين, حتى هؤلاء الذين طُردوا من أراضيهم, يؤمنون بواقع الزراعة اليوم. وغالبا ما يلومون انفسهم على عدم مقدرتهم هم على التعامل معها.
لم يحدث كل ذلك فقط نتيجة مؤامرة من مجموعة من الاشخاص ذوى العقول الشريرة, بل كان للظروف دورا فاعلا في تعززيز الأمور لصالح هؤلاء. وبهذا تدهورت الزراعة التقليدية و حُوربَت.
 

 
التكنولوجيا الحيوية (البايوتكنولوجي):

هي فرع من التكنلوجيا يُعنى بتطبيق المُعطيات البيولوجية و الهندسيّة على المُشكلات المتعلّقة بالكائنات الحيّة و الآلة. و في حالة تطبيق البايوتكنولوجي على الزراعة, الذى تسيطر عليه الشركات المتعدّدة الجنسية الكبيرة, يبدو أننا نخضع لمؤامرة كُبرى حقيقية. ويبدو أن حجم ومدى الدمار, الذى سوف يلحق بنا, يصل إلى أبعاد لا يمكن إصلاحها, ولا نظير لها فيما شاهدناه من تخريب حتى الآن. فالقضية الرئيسية هنا, ليست فى ما إذا كان طعامنا سوف يصبح لهذه الدرجة رديئا. بل بالإضافة إلى ذلك سوف يصبح ضارا, بالرغم من أن الإحتمالين قائمان فعلا هذه الأيام.
ولكن المسألة, مرة أخرى, هى إضافة مؤسسات جديدة تخلُق اعتمادية عليها. و المسألة هنا أيضا هي قضيّة الهيمنة على ما تبقّى من الفلاحين, و تضييق فرص الاختيار أمام المستهلك.

التنوّع البديل للمزروعات, الذى كان فى متناولنا - و الذي لم يبقى منه الكثير بسبب الخسارة الفادحة التى سببتها لنا الثورة الخضراء خلال العقود القليلة المنصرمة - كان نتيجة إجماع مقصود أو عفوي من الفلاحين انفسهم طوال القرون. فلو نظرنا إلى عائلة "الصليبيّات" النباتية و التي تتضمن الكُرُنب, والكرنب الصينى, و الفُجل, والقنبيط (القرنبيط), و أصناف أخرى عديدة,  لم يطالب احد من هؤلاء الفلاحين, يوما ما, ببراءة اختراع أو تسجيل مُنتَج أو شهادة لأنواعها و هندسة جينية لها.
إن ما تريده الشركات الصناعية الكبرى منّا اليوم, مثل شركة "مونسانتو" هو قبول تعديلاتهم الجينية لهذه الثروة الموجودة مسبقا. فمثلا تزعم الشركة أن نبات فول الصويا الذى تنتجه - و هو معدّل وراثيّا - يساعد في زيادة إنتاج العالم من المحاصيل من خلال التعديل الوراثي المُجرى له, و أنهم بذلك يساهمون فى حل مشكلة نقص الغذاء في العالم. انهم حتى يصرون على انه لا توجد طريقة أخرى سواها. إن ممّا لا ريب فيه هو أن تلك الشركات تعلم تماما ان هناك بدائل افضل واكثر سلامة للصحة و أقل كلفة, و يعلم كل فرد من هؤلاء انه يجب ان تجد الزراعة طريقا يخلّصها من تلك السموم, و هم يعلمون اننا نمتلك المعرفة الضرورية التي تعيننا في حال أردنا العودة إلى الزراعة التقليدية. و البرهان على ذلك هو وجود الالاف من المزارعين العضويين فى ارجاء العالم.

تريد الصناعة منا أيضا أن نشتري حزمة من المنتجات: كالبذور و مبيدات الحشائش معا. و بما أن البذور لا تنجو من جراء رش تلك المبيدات فإن الخطة ستفشل. و لكن الشركات الكبرى لا تُعيقها السدود و هي قادرة على تنفيد مشاريعها أياّ كان الثمن, لذلك قامت تلك الشركات بتعديل المزروعات لتصبح مقاومة لمبيدات الحشائش و ذلك لكي تُجبر الفلاح على استخدام تلك المبيدات حتى لو كان لا يحتاج اليها. و في حالات أخرى مثل النباتات السيئة السمعة, ذات الجين القاتل, تتضح المؤامرة اكثر فاكثر , فالشركات لا تُلزم نفسها بتعديل الجينات, و هنا تَكشفُ الحقيقة أن القضيّة لا علاقة لها لا من قريب و لا من بعيد بموضوع زيادة الإنتاجية أو حل مشكلة نقص الغذاء. إن العملية هي مجرّد مؤامرة على الفلاح لتجريده من ممتلكاته الاصيلة, و تحويله الى زوائد للصناعة.
إن للمشكلة آثار عديدة منها تفاقم مسألة مصادرة أراضي الفلاحين , و زيادة التمزّق الاجتماعى, و تخريب البيئة, و فقداننا للتنوّع البيولوجى فى الطبيعة  و في أراضينا الزراعية. سوف تتسبب فى استفحال الجوع و ليس مكافحته – كما يزعمون.

المصدر: عبث الزراعة الحديثة :بدأ من الأسمدة الكيماوية إلى المبيدات الزراعية حتى البيوتكنولوجى. الزراعة التقليدية و الحديثة: لقد طوّر الفلاح التقليدى طُرُق مستدامة للزراعة (طُرُق تجعل الزراعة تعطي إنتاجا جيّدا على مدى طويل من دون التأثير سلبيّا على التربة أو جَودة المحاصيل). الفلاحون الصينيون يحصلون على إنتاجية عالية من حقولهم لمدة استمرت اكثر من ثلاثة آلاف عام دون أن يعتدوا على خصوبة تربتهم. بل على العكس من ذلك, فقد ساعدوا بطريقتهم هذه فى الحفاظ عليها وزيادة خصوبتها إلى حدها الأقصى. يمكننا تحسين طرق الفلاح التقليدية بواسطة المعرفة العلمية التى نملكها اليوم عن كيفية نمو النبات, و عن تركيب التربة, وكيميائها, وطرق تحديد عمرها, بالإضافة لمعرفتنا بالعمليات الحيوية التى تجري داخل النبات, و معارف أخرى. ولكن التحسين لا ينبغى أن يكون فى الإتجاه السائد اليوم و هو زراعة المساحات الهائلة بمحصول واحد, أو إعتماد الميكنة (المكننة) في الزراعة, أو إستخدام المبيدات الصناعيّة بشكل هائل , أو تعديل المحاصيل وراثيّا , مما يجعل الزراعة غير مستدامة. و لقد عمدت القوى الاستعمار إلى التخلّي عن الفلاحة التقليدية : التى كان هدفها سَدّ حاجات الأسواق المحلية والإقليمية. و أخذت تفكّر تلك القوى عن الطرق التي تسمح لها بإمتلاك كميات هائلة من القطن والسكر والبن و الشاي والكاكاو وغيرها , فراحت تنزع الأراضي من ملايين البشر . لم تكتفي بهذا فحسب بل إتجهت إلى إجبار الأفريقيين على مغادرة مواطنهم الأصلية ثم المتاجرة بهم في أميركا. تلك التجارة التى تشكل واحدة من أعظم الكوارث فى التاريخ البشرى. و مع بدايات المرحلة الاستعمارية, طور الفلاحون الأمريكيون, و بالرغم من الكوارث العديدة ,كعواصف الأتربة مثلا, نُظُم زراعية جديدة كانت فى طريقها لان تصبح نظم زراعة مستدامة. و ظلّت هذه النُظُم سائدة حتى نهاية الحرب العالمية الثانية و لكن لم يتبقّى منها شيىء لأسباب عدة , منها ما سَيلي: مع بدأ الثورة الصناعيّة , نجحت الصناعة - في خطوات متتابعة – أن تستحوذ على العمليات الزراعية التى كان يقوم بها الفلاح التقليدي. و انتزعت منه كل ما كان من شأنه أن يحقق ناتج ربح مضمون, تاركة له أن يتحمّل كل مخاطر العمليات الزراعية وحده مثل: مخاطر المحصول السيئ, والطقس الغير ملائم, و خسارة المال المستثمَر نتيجة الزيادة فى أسعار المستلزمات الزراعية, والانخفاض المستمر فى أسعار المحاصيل الزراعية.فما يجري الآن في الزراعة الحديثة هو إعتماد المبيدات الزراعية, و الميكنة الثقيلة , و تُعدّ كلتا العمليتين من الأشياء المستهلِكة للطاقة بكثافة: لأن تلك المبيدات تُستخرج من الأرض و يحتاج استخراجها رؤوس أموال كبيرة . وإضافة إلى ذلك ينتُج عن الفلاحة الحديثة تجريف التربة و إستبدال الخصوبة التي تُفقد (من جرّاء ما تستهلكه النباتات المزروعة و الذي يُفترض أن يُعوّض بالأسمدة العضوية) بمواد كيماوية إصطناعية. أما إذا نظرنا إلى الزراعة من منظور كُـلّي ايكولوجى, فنراها عبارة عن عمليّة تُدار على الطاقة الشمسية من خلال عملية التمثيل الضوئي للنبات. فما تفعله الزراعة الحديثة هو مجرّد تخريب هذا الجانب الاصيل من العملية الزراعية. و قد تتطلب الزراعة الحديثة كميّات من الطاقة اكثر من تلك التى تنتجها. و للتوضيح فقط , نستطيع ان نقول ان حالة الزراعة الحديثة هي كحالة بئر البترول, الذي تستهلك فيه ماكينة الشّفط كمية من البترول اكبر من الكمية التى تسحبها من البئر. و لذلك لا يضمن بقاء مثل هذه النشاطات إلا الدعم المالى . فلا يسعني إلا أن أقول أن الامن القومي يعتمد بشكل جوهرى على زراعة صحية ومستدامة. عمليّة الإنتاج: نظرا لضخامة المحاصيل التي تنتجها اليوم الشركات الزراعيّة الكبرى, تضطر هذه الشركات إلى الحفاظ على المحاصيل عن طريق تلويث الأغذية بالاضافات الكيماوية التى يسمونها مواد حافظة. ولو رغبنا فى مقارنة المزارعين التقليديين بمزارعي اليوم فمن الواجب اضافة ساعات العمل فى عمليّات التصنيع التي ذكرتها , و إضافة اعمال أخرى كالتعبئة, و التغليف و غيرها. و هنا سؤال يطرح نفسه : أيهُما أكثر إنتاجية ؟ . في الواقع تدمّر الزراعة الحديثة الغذاء اكثر مما تنتج منه. فمن يزعم أن الزراعة الحديثة تنتج من هكتار واحد ستة أطنان من الذرة مقبل طنين من الذرة في الزراعة التقليدية , يكون قد نَسيَ أن الزراعة الحديثة تنتج ستة اطنان من الذرة فقط لا غير, بينما يُنتج أحد المزارعين التقليديين من هكتار واحد محاصيل متنوعة, فقد يستغلّ وجود أنصاب (أعواد) الذرة فيزرع البقول , حيث تتسلّق هذه الأخيرة تلك الأعواد. فقد يزرع ايضا بين هذه الاعواد القرع و البطاطا و الطماطم وكل انواع الخضروات والاعشاب الطبية. و من نفس الهكتار ينتج هذا الفلاح غذاء لماشيته ودواجنه. انه ينتج بسهولة اكثر من 15 طنا من الغذاء فى الهكتار الواحد, دون سماد كيماوى ودون مبيدات كيماوية ودون قروض بنكية ولا دعم حكومي ولا دعم من الشركات متعددة الجنسية. الاسمدة الكيماوية: اصبحت الاسمدة تجارة لها مكانتها بعد الحرب العالمية الأولى. فمنذ البدايات المبكرة للحرب, أدّى حصار الحلفاء لألمانيا إلى وقف إمدادها بالنيتروجين القادم من تشيلي. و كان يُعدّ النيتروجين العنصر الضرورى لصنع المتفجرات. وكانت العملية الكيماوية المسماة "هابر- بوش" لاستخلاص النيتروجين من الهواء معروفة علميا, ولكنها لم تكن قد اصبحت بعدُ عملية صناعية تُنتج احجاما تجارية من هذا العنصر. و لهذا انشأت المانيا منشآت إنتاجية ذات طاقة هائلة و أدارتها لتستطيع القتال لمدة اربع سنوات. و هكذا ترى كيف يمكن لعملية تكنولوجية واحدة ان تغير مجرى التاريخ. وبانتهاء الحرب العالمية الأولى, ظل هناك مخزون هائل من النيتروجين, وطاقات إنتاج صناعي ضخمة. ولكن لم يعد هناك أسواق لتلك المتفجرات. حينئذ قررت الصناعة ضخ الاسمدة النيتروجينية نحو الزراعة. حتى تلك اللحظة, كان الفلاح راضيا عن اساليب التسميد العضوي فى الحفاظ على خصوبة ارضه طوال سنين الزرع. وكانت الماركات التشيليّة مثل "السلتبيتر" , و "الجوانو" تُستخدم فى نطاق ضيق حيث لم تستخدم إلا لمحاصيل مخصوصة أو في البساتين الكبيرة فقط. إن الاسمدة النيتروجينية عالية التركيز, و هي نوع من انواع الادمان. كلما إستخدمتها اكثر, اصبحت مضطرا لان تستخدمها على التوالي اكثر فاكثر. وسرعان ما أصبحت هذه الأسمدة تجارة كبير جدا. و طوّرت الصناعة مجموعة كاملة من اسمدة الفوسفات, والبوتاس, والكالسيوم, والعناصر الدقيقة. وظهر منها ما هو على أشكال من الأملاح المركبة فى شكل حبيبات, يتم رشّها أحيانا بالطائرات. المبيدات العشبية و الحشرية: ساعدت الحرب العالمية الثانية في دفع صناعة المبيدات الحشرية إلى الأمام. و ساعدت هذه الحرب على أن تبدأ هذه الصناعة بمقاييس كبيرة. و اليوم تنتشر, عبر الكوكب كله, سموم تصل قيمتها إلى مئات المليارات من الدولارات. استخدمت الغازات السامة مرة واحدة فقط أثناء الحرب العالمية الأولى, ولكنها أحدثت تأثيرا مخرّبا , و لم تُستخدم فى تلك الحرب مرة أخرى. أما في الحرب العالمية الثانية لم تُستخدم الغازات فى المعارك أبدا , لكن أجريت أبحاث كثيرة عليها في المقابل. و برزت شركة "باير" من بين آخرين فى هذه اللعبة, وطوّروا استرات حمض الفوسفوريك واصبح لديهم بعد الحرب طاقات إنتاجية ضخمة و مخزون هائل. و انتهت الشركات آنذاك إلى أن ما يقتل الناس قادر ايضا على قتل الحشرات, فصنعوا تركيبات جديدة من هذه المواد و باعوها كمبيدات حشرية. و كانت مادة ال "دى دى تى" معروفة بالمادة المعجزة , خاصة عندما اكتشف "موللر" - باحث معامل شركة "جايجى" - انها تقتل الحشرات دون ان تؤذي البشر ظاهرّيا. نـبّـه "موللر" القوات المسلحة الامريكية بهذا الاكتشاف, لانها كانت تعانى من الملاريا فى منطقة الباسيفيك التى كانت تحارب اليابانيين فيها. واستخدمت هذه المبيدات بشكل غير محسوب تماما, لما اعتقدوه وقتها من انعدام آثارها الجانبية الضارة: حيث تم رشه على مساحات واسعة من الاراضى وحتى داخل المنازل وتحت ملابس البشر. وقبل نهاية الحرب بوقت قصير, كانت هناك طائرة حربية امريكية فى طريقها الى "مانيلا", بالمحيط الهادى, محملة بكميات ضخمة من مادة " D 2,4 T2,4,5 " شديدة الأذى للنبات. و كانت النية متّجهة الى تجويع اليابانيين من خلال تدمير محاصيلهم عن طريق رشها بهذه المواد السامة من الجو. و لكن الامر كان قد فات أوانه, فقد صدرت الأوامر لحاملة الطائرات بالعودة, قبل أن تصل إلى هدفها, لان مجموعة أخرى من الطائرات الأمريكية كانت قد أسقطت قنابل ذرية على هيروشيما و ماكازاكي, لتنسج القصة التى يعرفها كل شخص منا. و وقّع اليابانيون على طلب الهدنة. وجرت وقائع نفس القصة. أصبحت كميات هائلة من الطاقات الإنتاجية, بالإضافة إلى المخزون الضخم تعاني نُدرة وجود أسواق للتصريف. لذلك أعيد صياغة هذه المواد كمبيدات للزراعة , وتم صخّها للفلاحين. أيضا في الفترة الواقعة بعد الحرب الفيتنامية, رش الجيش الامريكى بشكل طائش ما اسموه "العامل البرتقالي" أو Agent Orange, إضافة إلى ألوان أخرى, على ملايين الهكتارات من الغابات الاستوائية, مدّعين انها فقط مادة رَغويّة تكشف قوات العدو المختبئة. و لكن للأسف أدعوكم لمشاهدة أفلام وثائقية عن الحرب الفيتنامية لترُوا ما حصل للسكّان و المساحات المزروعة لأن الكلمات تعجز عن الوصف. تجحت الصناعة بعد ذلك في الاستيلاء على مراكز البحث الزراعية, واعادت توجيهها لاغراضها الخاصة. وربطت بهذه المراكز ,ايضا, المراكز البحثية الرسمية وفروعها, بالاضافة الى مدارس الزراعة. وشكلت جماعات ضغط سيلسي لاصدار احكام وتشريعات لصالحها. وانشأت نُظُم بنكية لتسليف الفلاحين, تبدو ميسّرة. و بذلك كله, خلقت للفلاح وضعا صعب الإفلات منه ولا يوجد له بديل. واليوم تقبل معظم مدارس الزراعة الاطار الذى تدور فى فلكه الزراعة, دون ادنى تساؤل. وكذلك المعاهد والمراكز البحثية. كما ان الغالبية من الفلاحين, حتى هؤلاء الذين طُردوا من أراضيهم, يؤمنون بواقع الزراعة اليوم. وغالبا ما يلومون انفسهم على عدم مقدرتهم هم على التعامل معها. لم يحدث كل ذلك فقط نتيجة مؤامرة من مجموعة من الاشخاص ذوى العقول الشريرة, بل كان للظروف دورا فاعلا في تعززيز الأمور لصالح هؤلاء. وبهذا تدهورت الزراعة التقليدية و حُوربَت. التكنولوجيا الحيوية (البايوتكنولوجي): هي فرع من التكنلوجيا يُعنى بتطبيق المُعطيات البيولوجية و الهندسيّة على المُشكلات المتعلّقة بالكائنات الحيّة و الآلة. و في حالة تطبيق البايوتكنولوجي على الزراعة, الذى تسيطر عليه الشركات المتعدّدة الجنسية الكبيرة, يبدو أننا نخضع لمؤامرة كُبرى حقيقية. ويبدو أن حجم ومدى الدمار, الذى سوف يلحق بنا, يصل إلى أبعاد لا يمكن إصلاحها, ولا نظير لها فيما شاهدناه من تخريب حتى الآن. فالقضية الرئيسية هنا, ليست فى ما إذا كان طعامنا سوف يصبح لهذه الدرجة رديئا. بل بالإضافة إلى ذلك سوف يصبح ضارا, بالرغم من أن الإحتمالين قائمان فعلا هذه الأيام. ولكن المسألة, مرة أخرى, هى إضافة مؤسسات جديدة تخلُق اعتمادية عليها. و المسألة هنا أيضا هي قضيّة الهيمنة على ما تبقّى من الفلاحين, و تضييق فرص الاختيار أمام المستهلك. التنوّع البديل للمزروعات, الذى كان فى متناولنا - و الذي لم يبقى منه الكثير بسبب الخسارة الفادحة التى سببتها لنا الثورة الخضراء خلال العقود القليلة المنصرمة - كان نتيجة إجماع مقصود أو عفوي من الفلاحين انفسهم طوال القرون. فلو نظرنا إلى عائلة "الصليبيّات" النباتية و التي تتضمن الكُرُنب, والكرنب الصينى, و الفُجل, والقنبيط (القرنبيط), و أصناف أخرى عديدة, لم يطالب احد من هؤلاء الفلاحين, يوما ما, ببراءة اختراع أو تسجيل مُنتَج أو شهادة لأنواعها و هندسة جينية لها. إن ما تريده الشركات الصناعية الكبرى منّا اليوم, مثل شركة "مونسانتو" هو قبول تعديلاتهم الجينية لهذه الثروة الموجودة مسبقا. فمثلا تزعم الشركة أن نبات فول الصويا الذى تنتجه - و هو معدّل وراثيّا - يساعد في زيادة إنتاج العالم من المحاصيل من خلال التعديل الوراثي المُجرى له, و أنهم بذلك يساهمون فى حل مشكلة نقص الغذاء في العالم. انهم حتى يصرون على انه لا توجد طريقة أخرى سواها. إن ممّا لا ريب فيه هو أن تلك الشركات تعلم تماما ان هناك بدائل افضل واكثر سلامة للصحة و أقل كلفة, و يعلم كل فرد من هؤلاء انه يجب ان تجد الزراعة طريقا يخلّصها من تلك السموم, و هم يعلمون اننا نمتلك المعرفة الضرورية التي تعيننا في حال أردنا العودة إلى الزراعة التقليدية. و البرهان على ذلك هو وجود الالاف من المزارعين العضويين فى ارجاء العالم. تريد الصناعة منا أيضا أن نشتري حزمة من المنتجات: كالبذور و مبيدات الحشائش معا. و بما أن البذور لا تنجو من جراء رش تلك المبيدات فإن الخطة ستفشل. و لكن الشركات الكبرى لا تُعيقها السدود و هي قادرة على تنفيد مشاريعها أياّ كان الثمن, لذلك قامت تلك الشركات بتعديل المزروعات لتصبح مقاومة لمبيدات الحشائش و ذلك لكي تُجبر الفلاح على استخدام تلك المبيدات حتى لو كان لا يحتاج اليها. و في حالات أخرى مثل النباتات السيئة السمعة, ذات الجين القاتل, تتضح المؤامرة اكثر فاكثر , فالشركات لا تُلزم نفسها بتعديل الجينات, و هنا تَكشفُ الحقيقة أن القضيّة لا علاقة لها لا من قريب و لا من بعيد بموضوع زيادة الإنتاجية أو حل مشكلة نقص الغذاء. إن العملية هي مجرّد مؤامرة على الفلاح لتجريده من ممتلكاته الاصيلة, و تحويله الى زوائد للصناعة. إن للمشكلة آثار عديدة منها تفاقم مسألة مصادرة أراضي الفلاحين , و زيادة التمزّق الاجتماعى, و تخريب البيئة, و فقداننا للتنوّع البيولوجى فى الطبيعة و في أراضينا الزراعية. سوف تتسبب فى استفحال الجوع و ليس مكافحته – كما يزعمون.
  • Currently 16/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
6 تصويتات / 408 مشاهدة
نشرت فى 12 إبريل 2011 بواسطة elzeghaby

ساحة النقاش

ابحث

تسجيل الدخول

attia radwan farag

elzeghaby
نعمل على التقدم والتطويرفى مجال الزراعه فى مصر »

عدد زيارات الموقع

112,111