دكتور السيد إبراهيم أحمد

authentication required

 


ما إن تم الإعلان عن فوز الدكتور محمد مرسى بمقعد الرئاسة لجمهورية مصر العربية فى جمهوريتها الثانية حتى صفق من صفق ، وبكى من بكى ، وسارع كل من لم يعجبه الحكم بإطلاق وابل من الاتهامات ، كان معظمها من نصيب رئيس المجلس العسكرى بأنه انحاز للإخوان خوفاً من حشودهم بميدان التحرير ، التى بدأت فى حركة استباقية بالاحتفالات المبكرة بفوز مرسى ، لأنهم كانوا فى المقابل متخوفين من انحياز العسكرى لشفيق . لذا فقد جاء هذا الإعلان بالفوز ليقطع الشك باليقين ، ويعلن فى نفس الوقت براءة العسكرى من شبهة التآمر على الثورة ولو إلى حين .

   أصبح المشهد لغالبية الشعب المصرى حتى لأولئك الذين لم ينتخبوا مرسى مريحاً وحاسماً ، أراح الأعصاب والأدمغة من التخمينات و الأقاويل والشكوك ؛ فالاجبار أكثر راحة أحياناً من الاختيار عند التردد ، ولكن هيهات أن يدع أنصار شفيق المشهد يمر بسلام ؛ فنزلوا ليملأوا الميدان أمام المنصة فى مدينة نصر ، مطالبين بشفيق رئيسا لمصر غير معترفين برئاسة مرسى .

   ولم تهدأ تخمينات أهل العلم وما أكثرهم فى أيامنا هذه حتى بادروا بارسال حفنة منها إلى القنوات المعروفة ، والشخصيات المألوفة ، ليطلقوا الشائعات التى مفادها أن المشير طنطاوى والفريق عنان لن يؤديا التحية العسكرية للرئيس الجديد ، أو سيماطلا فى تسليم السلطة له ، ليخيب الله زعمهم هذا بانتهاء المشهد بتأدية التحية ، وتسليم السلطة .

     مازال الموروث الشعبى فى الثقافة المصرية يحتفظ فى ذاكرته بسيرة أولئك الحكام الفوارس الذين حققوا للبسطاء من الشعب أحلامهم ، فهجروا عزهم وأبهتهم من أجل تحقيق أحلام الرعية ، والسهر على تطبيب آلامها ، ورد المظالم إليها ، والقصاص ممن ظلمها ، وكان آخر هؤلاء الفوارس الزعيم الراحل جمال عبد الناصر والذى تصور بعضهم كونه ناصرى ، وتحلى بلقب ( المناضل) أن يأتى به الشعب رئيساً ، لكن هيهات ..هيهات .

 

   لقد تم تتويج الدكتور محمد مرسى كأول رئيس مدنى منتخب بانتخابات نزيهة على سدة الحكم فى البلاد ، فتتعلق به قلوب وعيون قطاعات عريضة من بسطاء الشعب المصرى ،أملاً فى تحقيق أحلامها وأمانيها المؤجلة بل المدفونة كلها دفعة واحدة ، التى لم تكتف بميدان التحرير فشدت الرحال لتحاصر الرجل فى قصر إقامته الجديد ، وكأن مرسى يمسك بعصاً سحرية يستطيع بإشارة منه أن يعزف لحناً جديداً طالما اشتاقوا سماعه ، ولمَ لا ..؟! .. أليس هو المايسترو أى الحاكم ..؟ .. وما أدراكم ما معنى الحاكم فى اللاوعى الجمعى لشعوب المنطقة العربية بعامة ومصر بخاصة ، إنه الرجل الذى يصدر الأمر فيصبح واجب النفاذ ، ولا يستطيع رده كائناً من كان .

     وهكذا أصبح المشهد حول قصر الرئاسة كرنفالياً احتفالياً يعج بجماهير من مختلف الجهات والطبقات والنزعات ، وتتزاحم فيه اللافتات التى تحمل مطالبات مستحقة وأخرى واجبة وفورية وضرورية وعاجلة من وجهة نظر كل مطالب ، ورأى البعض أن يقدم شكواه فى رسالة ويمضى ، بينما رأى غيرهم أن مقابلة الرئيس هو الحل الأفضل ، وفى حالة منعهم عليهم القفز من فوق السور والدخول قسراً ورأساً إلى مكتبه ، فالرجل هو الذى نطق بلسانه أبوابى مفتوحة للجميع .  

    لم يكد يجلس الرجل فوق كرسى الرئاسة ، حتى أعد المذيعون ميكرفوناتهم ، والمحللون أوراقهم ، وهات يا كلام : ( مرسى يقدر ) لا..لا ( مرسى مايقدرش) كلا وألف كلا ( مرسى سيصطدم بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة لا محالة) لا ..لا ( مرسى سيميل نحو الحزب والجماعة ) لا.. لا واسمعوها منى (مرسى سيصطدم بالشاطر ) .. لماذا ؟.. (لأن الشاطر لن يستريح حتى يسيطر على مؤسسة الرئاسة).

   ويزيد المشهد سخونة ببلاغ يتقدم به أحد نواب مجلس الشعب إلى مكتب النائب العام عن تلقيه رسالة تهديد له بالقتل وكذلك للسيد رئيس الجمهورية المنتخب لتوه ، لتتفاعل الأصوات الناصحة بتحذير الرئيس من انقلاب قد يدبره الإخوان له إذا ما فكر مجرد تفكير فى الانقلاب عليهم ، بينما الكلام الأكيد هو صدام آتٍ فى الأفق بين المجلس العسكرى والرئيس مرسى ، ينتهى كما انتهى فى عام 1954 ذلك الصراع المحموم على تملك زمام البلاد بين ناصر والإخوان ، مع اختلاف الشرعية فى المشهد الأخير ، بينما تردد أحد الحناجر القضائية النسائية فى الفضائيات والجرائد أن على مرسى مغادرة مقعده فوراً بعد صدور الدستور الجديد للبلاد .

    ولا يكاد يمر يوم حتى تخرج أصوات من أهل المشورة والخبرة والرأى تنصح الرئيس بأن يكون جاداً وصارماً وحاسماً وحاداً تجاه الرعية ، ورأى ناصح آخر يطالبه ألا يؤسس الوزارة الجديدة والمجلس الرئاسى بمبدأ التوافق ، لأن من الصعب ارضاء جميع الأطراف ، بينما يطالبه أحد المتصفين بالحيادية هامساً أن من حقه أن يأتى بالكفء من التكنوقراط أى أهل الاختصاص سواء كان انتماؤه إخوانياً أو سلفياً أو قبطياً أو ليبرالياً.. وتدخل المرأة المشهد محتجة لأنها ترى أن تعيين واحدة منهن فى منصب نائب الرئيس ليس كافياً ، ليعترض الليبراليون أيضاً على تعيين قبطى فى نفس المنصب لما فيه من إهدار لقيمة المواطنة ، لتختتم المشهد علاوة شهر يوليو السنوية للعاملين والمعاشات بالدولة والتى زادها الرجل عن العام السابق عليه فى عهد المخلوع ، ومع هذا لم يرض عنها أحد بل طالبوا برفعها إلى الضعف ، وطالبه بعضهم بالافصاح عن مصدر هذه الزيادة.

     نعم .. الرئيس مرسى لايملك عصاً سحرية لتنفيذ مطالب الشعب العادية أحياناً والمتعارضة فى أحايين كثيرة ، كما أنه لا يستطيع أن يرضى جميع طوائف الشعب ، فى مثل هذا الوقت القصير ، ومع موارد الدولة المحدودة بل والمتناقصة عن ذى قبل .. فهل يركب الرئيس صهوة عناده ، ويشهر عصا الطاعة على الجميع ، بأمر القانون تارة ، وبأمر السلطة تارة أخرى ، فتخرس الألسنة التى لا تمل من رصد ومراقبة ونقد حركاته وسكناته، وهمسه وكلامه ، وما قاله وما لم يقله ، وما قاله لماذا قاله ، ولما تأخر فى قول ما لم يقله .

      أما إذا ظل المشهد الهزلى هذا على ما هو عليه من شعب يتظاهر ويطالب ويحاصر القصر ، والبرامج التى تبثها الفضائيات وتتمادى فى غيها من إثارة ، وعمل شو إعلامى على حساب الرئيس باستضافة نفس الوجوه التى كره الشعب رؤيتها لكثرة ما رآها ، ثم ما يتردد من تهديد بالانقلاب عليه ، أو اغتياله ، أضف إلى ذات المشهد الضغوط الدولية التى يتحملها ، وتلويحات اسرائيل باحتلال سيناء مرة أخرى بزعم وجود رجال من نظام القاعدة فيها ، ثم سلبه بعض صلاحياته فى سطو غير مبرر من المجلس العسكرى بإعلان دستورى مكمل ، وأخيراً مجلس للشعب منحل قضائياً ، ويطالبه بالعودة للعمل تحت القبة .

     أبعد كل هذا الارتباك فى المشهد الافتتاحى لتولى الرئيس محمد مرسى سدة الرئاسة ــ الذى سردنا مجمله ولم نتطرق إلى تفاصيل تفاصيله ــ ألا يدعوه إلى التفكير فى أن يؤثر السلامة ، ويحمل عصاه ليرحل غير نادم على أيام عصيبة قضاها وعائلته تحت شمس الحكم الحارقة ، فيتجه بسيارته مع أنسام المساء نحو منطقة التجمع الخامس بالقاهرة الجديدة حيث يسكن ، وهو يتمتم بحمد الله على سلامته ونجاته من حكم مصر التى كان يظن أنه يعرفها ، ويعرف أهلها ، فإذا هىَّ مصر جديدة ، وشعب جديد ، فى حاجة إلى فكرٍ ثورى جديد ورشيد .

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 111 مشاهدة
نشرت فى 1 سبتمبر 2012 بواسطة elsayedebrahim

ساحة النقاش

السيد إبراهيم أحمد

elsayedebrahim
الموقع يختص بأعمال الكاتب الشاعر / السيد إبراهيم أحمد ، من كتب ، ومقالات ، وقصائد بالفصحى عمودية ونثرية ، وكذلك بالعامية المصرية ، وخواطر وقصص و... »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

61,346