السيد احمد عبد اللطيف حسين

خدمة طلاب العلم

authentication required

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له , ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد :

فإن من القصص الفلسفية التي لاقت رواجا عند كثير من أبناء جلدتنا قصة حى بن يقظان ؛ فقد لاقت هذه القصة رواجا عظيما بين المفكرين وترجمت إلى كثير من اللغات وحاول تقليدها والاقتباس منها فلاسفة وكتاب من مذاهب شتى .

 

خلاصة القصة أن حي بن يقظان، الذي سميت القصة باسمه ألقى وهو طفل في جزيرة خالية من السكان، فأرضعته ظبية؛ وشب الفتى متوقد الذكاء عظيم المهارة، فكان يصنع حذاءه وأثوابه بنفسه من جلود الحيوان، ودرس النجوم، وشرَّح الحيوانات حية وميتة، حتى وصل في هذا النوع من المعرفة إلى أرقى ما وصل إليه أعظم المشتغلين بعلم الأحياء ثم انتقل من العلوم الطبيعية إلى الفلسفة وعلوم الدين؛ وأثبت لنفسه وجود خالق قادر على كل شيء؛ ثم عاش معيشة الزهاد، وحرم على نفسه أكل اللحم، واستطاع أن يتصل اتصالاً روحياً بالعقل الفعال .

وأصبح حي بعد أن بلغ التاسعة والأربعين من العمر متأهباً لتعليم غيره من الناس. وكان من حسن الحظ أن متصوفاً يدعى آسال استطاع في سعيه إلى الوحدة أن يلقي بنفسه على الجزيرة، فالتقى بحي، وكان هذا أول معرفة له بوجود بني الإنسان.

وعلمه آسال لغة الكلام وسره أن يجد أن حياً قد وصل دون معونة أحد إلى معرفة الله، وأقر لحي بما في عقائد الناس الدينية في الأرض التي جاء منها من غلظة وخشونة، وأظهر له أسفه على أن الناس لم يصلوا إلى قليل من الأخلاق الطيبة إلا بما وعدوا به من نعيم الجنة، وما أنذروا به من عقاب النار. واعتزم حي أن يغادر جزيرته ليهدي ذلك الشعب الجاهل إلى دين أرقى من دينهم وأكثر منه فلسفة.

فلما وصل إليهم أخذ يدعوهم في السوق العامة إلى دينه الجديد وهو وحدة الله والكائنات, لكن الناس انصرفوا عنه أو لم يفهموا أقواله. وأدرك أن الناس لا يتعلمون النظام الاجتماعي إلا إذا مزج الدين بالأساطير، والمعجزات، والمراسيم، والعقاب والثواب الإلهيين.

ثم ندم على إقحامه نفسه فيما لا يعنيه، وعاد إلى جزيرته، وعاش مع آسال يرافق الحيوانات الوديعة والعقل الفعال، وظلا على هذه الحال يعبدان الله حتى الممات!.

انظر قصة الحضارة (4801)

 

الخلفيات الفكرية لقصة ابن طفيل الفلسفية:‏

يبين ابن طفيل أن الدافع الذي ألهمه كتابة هذه القصة سؤال أثاره أحد المهتمين بقضايا الخلق والنشوء والارتقاء الذي طلب منه وضع إجابة عن سؤال يتمحور حول أصل المعرفة الإنسانية، وقد قدر لهذا السؤال أن يفجر عبقرية ابن طفيل وأن ينهض بإشراقاته الفلسفية وحدوسه الإنسانية، فتجلت في إبداعه العبقري لهذه القصة، التي شكلت إجابة حيّة عن تساؤلات السائل، وتلبية لفضول العالم في ميدان النشوء والارتقاء وتكون المعرفة. ويصف ابن طفيل الحالة الإشراقية التي اعترته وهو يتأمل في هذا السؤال بقوله: "وانتهى بي هذا السؤال إلى مبلغ من الغربة بحيث لا يصفه إنسان ولا يقوم له بيان غير أن تلك الحال لما لها من البهجة والسرور واللذة والحبور، لا يستطيع من وصل إليها وانتهى إلى حد من حدودها أن يكتم أمرها أو يخفي سرها، بل يعتريه من الطرب والنشاط والمرح والانبساط ما يحمله على البوح بها مجملة دون تفصيل، وإن كان ممن لم تحذقه العلوم قال فيها بغير تحصيل".‏

 

بين "حي بن يقظان" و"روبنسون كروزو":‏

يقابل الأدباء والمفكرون غالباً بين قصة "دانييل ديفو" Daniel De Foe المعروفة "روبنسون كروزو" "Robenson Grousoe" وقصة ابن طفيل في "حي بن يقظان", ويعتقد كثيرون أن دانييل ديفو قد اقتبس ومض قصته هذه من صلب التصورات العبقرية التي جاءت في قصة "حي بن يقظان". فـ"روبنسون كروزو" عاش كما هو حال حي منفرداً وحيداً في جزيرة، لكنه وصل إليها بعد أن تحطمت سفينته على صخور الجزيرة، حيث يستطيع الوصول إلى شاطئ الجزيرة عوماً بعد أن أعياه الجهد وأسقطه التعب نائماً مرهقاً من شدة الإعياء. وعندما أفاق "روبنسون كروزو" من غيبوبته صعد إلى تل قريب مستكشفاً حوله في مطلب للأمن من الحيوانات المفترسة والمخاطر المحتملة التي قد تهدد حياته. وبعد أن يشعر بتوفر الأمن يتابع "روبنسون كروزو" البحث عن أولويات الوجود من مأوى ومن طعام. فهاهو يعود عوماً إلى حيث سفينته الغارقة، ليأخذ منها مايمكن أن يحتاج إليه، وينقله إلى الجزيرة.. وهي تسلط الضوء على الفرد حين يعيش وحده في عزلة , وهاهو "روبنسون كروزو" يحفر على شجرة تاريخ وصوله، وصنع لنفسه "أجندة" حتى لا تكرّ الأيام وتمرّ دون أن يدري بها. ونحن هنا كما هو جلي وواضح أمام شخص له تجارب شخصية، بالغة الأهمية فقد وصل الجزيرة كبيراً، ولم يولد عليها كما حدث مع "حي بن يقظان".‏

الجانب الفلسفي في قصة حي بن يقظان:‏

يستخدم ابن طفيل الرموز والأساطير في قصته الأدبية "حي بن يقظان" وهو يضع فرضيتين رمزيتين لأصل "حي بن يقظان" وولادته واستقراره في جزيرة من جزر الهند.

في الافتراض الأول : يرى ابن طفيل أن حي توّلد من الطين بلا أم ولا أب، وفي الافتراض الثاني : يرى أن حي هو طفل غير شرعي لأبوين في جزيرة قريبة تزوجا دون علم الملك فوضعا حي عند ولادته في قارب صغير استقر على ضفاف الجزيرة ؛ فتلقفته غزالة كانت قد فقدت وليدها فأغدقت عليه عطفها وحنانها وتعهدته بعنايتها حتى استقام له الأمر وشب عن الطوق.

ويمضي ابن طفيل مع الافتراض الثاني، حيث عاش حي وترعرع في الجزيرة بين الطيور والحيوانات وبدأ يكتشف نفسه والعالم الذي حوله عن طريق التأمل والتفكير، وسرعان ما بدأ يطرح الأسئلة الفلسفية الكبرى التي تتعلق بالمعقولات وبأصل الوجود، وفي غمرة تأملاته العقلية واستغراقه الكامل في النظر والتفكير لاح له العالم الروحاني بصوره التي لا تدرك بالحس بل تقبل ذلك بالنظر العقلي والحدس واستطاع حي بمحض فطرته وصدق طويته اكتشاف العلاقة بين العلة والمعلول والفاعل والمفعول بين الوجود وواجب الوجود وبرهن على أن الكون واحد في الحقيقة وأن هذه الوحدة ناجمة عن وحدة الخالق ووحدة التكوين. وبدأ عقله ينقدح تساؤلاً في ماهية الخلق والخالق وقدم الخلق وحدثانه وراح يتساءل هل هو شيء حدث بعد أن لم يكن أم أنه خرج إلى الوجود بعد العدم؟ أم أنه أمر كان موجوداً ولم يسبقه العدم؟ وقد تبين له بالحجة العقلية الدامغة أن لكل حركة محرّك ولكل مخلوق خالق وأن الخالق هو رب العزة خالق الخلق وباعث الرزق وهو الله رب العالمين سبحانه وتعالى جل جلاله وعزّ كماله.

واكتشف بعين العقل وحكمة النظر أن الخالق روح مطلق ونور محض خالص لا بل هو نور لا كالأنوار إذ هو بريء عن المادة منزه عن الصور عظيم بقدرته. وذهب به التأمل وأخذته الفطنة الربانية إلى القول بحدوث العالم بعد أن لم يكن وأن الله أخرجه إلى الوجود وأنه هو القديم الأزل الذي لم يزل.‏

وهذا يعني أن ابن طفيل قد اكتشف عظمة الخالق ووحدانيته وعظمته وقدمه وحدوث العالم وصيرورة الوجود ونزهة الباري عز وجلّ عن الصورة والصور ووحده ونزهه دون أن يلجأ في ذلك إلى معرفة سابقة وكان تنزيه الباري والكشف عن طبيعة خلقه بمحض التفكير والتأمل والعقل الذي وهبه الله سبحانه وتعالى للإنسان. فالعقل يكتشف الحقيقة منفرداً وتصفو له المعقولات بعيداً عن النص والرسائل والوحي.

وهذا يعني أن الله وهب الإنسان عقلاً وأن عقل الإنسان قادر على الكشف وألا تناقض هنا مابين الحقيقة الدينية والحقيقة الإيمانية وأن الدين والعقل يتكاملان في الكشف عن الله وعن خلق الوجود, وهنا يريد ابن طفيل أن يعيد الاعتبار للفلسفة والعقل في لجة الصراع بين العقل والنقل والفلسفة والدين. وبعبارة أخرى يريد المصالحة بين الدين والفلسفة والعقل والإيمان ويريد أن يحقق التوافق بينهما في ردّ مستتر يتسم بعبقرية الإجابة عن سؤال العقل والإيمان- هذا في نظر الكاتب -‏

وعندما بلغ "حي بن يقظان" الخمسين من العمر يأتي إلى الجزيرة رجلان، هما: آسال وسلامان، وهما من أهل ملة الإيمان، فأما الأول فهو من أهل الباطن، وأما الثاني فمن أهل الظاهر، وقد حدث أبسال "حي بن يقظان" عن العلم والشريعة، بعد أن علمه الكلام، فوجد (حي) في الشريعة ما اهتدى إليه بالفطرة، بعد نقاش فلسفي شامل وعميق، وهكذا حقق ابن طفيل هذه المصالحة التي كان ينشدها في الأصل بين الفلسفة والدين، وبين العقل والنقل.‏

حظيت قصة ابن طفيل باهتمام كبير في أوروبا والعالم، وتقاطرت عليها الدراسات الفلسفية والتربوية والأدبية، ولطالما بحث الدارسون عن وجوه الشبه بينها وبين مثيلاتها من القصص الفلسفية الأوروبية، وقد بينت هذه الدراسات النقدية أن الأحداث الدرامية في قصة حي موجهة بوضوح تام لخدمة هدف فلسفي شُغل به العصر الذي عاش فيه ابن طفيل، إذ لم يكن ابن طفيل قادراً في قصته هذه على التحرر من سلطة مذهبه الفلسفي لأنه يعرف الهدف الذي يمضي إليه ويدرك الحقيقة الفلسفية التي يسعى إليها. وهو من أجل التوفيق بين ينبوعي المعرفة المتمثلين في الفلسفة والوحي .

يستقدم في قصته رجلين من خارج الجزيرة هما آسال وسلامان حيث يمثل أحدهما رمزاً للتعمق الروحي الغواص على المعاني، وثانيهما رمزاً للمذهب الظاهري الذي لا يحب التأويل، وأراد بالحوار الذي يجري بين هذا الثالوث المختلف في النزعة والاتجاه أن يحقق هذه المصالحة بين الفلسفة العقلية وبين النصوص الدينية، ويتضح أن ابن طفيل كان في دائرة هذه العلاقة يعلي من شأن الفيلسوف المؤمن لأنه يستطيع دون توسط النص أن يصل إلى غايته في فهم الكون وإدراك أسراره الخفية. فبعد حوار معمق بين حي وآسال وسلامان يكتشف الجميع أنهم يمتلكون حقيقية واحدة في فهم الكون ويدركون سر الأسرار متمثلاً في توحيد الذات الإلهية العليا إدراكاً للذات ومعرفة بالصفات.‏

المرحلة الأولى حي والظبية:‏

يروي ابن طفيل هذه العلاقة الكونية بين حي وبين الغزالة التي فقدت وليدها فتعهدته بالرعاية. فهي أي الغزالة تقدم له الغذاء وترضعه وتعنى به كأم حقيقية. لقد ألف الظبية وألفته، أحبته الظبية وأحبها وتعلق بها فإن هي غابت اشتد بكاؤه وإن هي حضرت ضج المكان بمناغاته وفرحه. وإن هي سمعته طارت إليه ولامسته ومن حليبها أعطته. وهنا يفترض ابن طفيل أن الجزيرة خالية من السباع والضباع والوحوش الكاسرة.‏

وعندما يبلغ الطفل الحولين من العمر في هذه المرحلة يتعلم حي عن طريق التقليد والمحاكاة للطيور والحيوانات الأخرى، وتظهر لديه الانفعالات الأولى مثل: الخوف والاستغاثة والقبول والرفض. وكان له ذلك بمساعدة الظبية التي وفرت له أصوات الحيوانات المعبرة عن نقل الانفعالات مثل الاستصراخ والاستئلاف والاستدعاء والاستدفاع". ومع أن حي لم يبلغ العامين من عمره إلا أنه في هذه المرحلة أصبح مهيأ للحياة ومستعداً لها.‏

المرحلة الثانية:‏

وتمتد هذه المرحلة من السنتين حتى السابعة من العمر. وفي هذه المرحلة يبدأ حي يتجاوز مناحي ضعفه وقصوره ويصبح قادراً على أداء بعض الأدوار الضرورية للحفاظ على وجوده واستمرارية حياته. وفي هذه المرحلة يتمكن حي من استخدام الملاحظة والمقارنة والمشاهدة والتأمل. وبدأ يفهم معنى وحدة الذات والهوية وانفصاله عن الآخرين ويكتشف الفروق بين الكائنات الحية التي تحيط به. وبدأت أيضاً في هذه المرحلة تظهر لديه بعض العواطف السلبية والإيجابية تجاه الأشياء.‏

المرحلة الثالثة:‏

وتبدأ هذه المرحلة من السابعة حتى الحادية والعشرين من العمر، وهي من أطول مراحل النمو عند حي وهي بالتالي تشكل نوعاً من الاستمرارية المؤسسة على المرحلة السابقة والتي تؤسس لمرحلة لاحقة. ففي مستوى الجسد استطاع حي أن يدرك التكامل القائم بين الروح والجسد وبدأ يفهم ماهية كل منهما. فالروح كما يدركها هي أسمى من الجسد , والجسد آلة الروح ومسكنها. وتبلغ معرفة حي عن العلاقة بين الجسد والروح غايتها القصوى ويتفهم وظائف الأعضاء وطبيعتها.‏

وفي المستوى العاطفي تتمحور عواطف حي ونوازعه الانفعالية نحو الظبية التي منحته الحياة. وقد تعلم من الغراب عملية الدفن دفن الجثث الميتة ومواراتها في التراب. وقد فعل ذلك عندما ماتت أمه الظبية ولكن حبه بقي وجداً روحياً شمل جميع الظباء في الغابة لأنه كان يرى صورة أمه في جميع الظباء. وذلك هو الحب الروحي الذي يعم ويسمو ويأخذ انطلاقته الرمزية. وفي المستوى العقلي نجد أن حي يحقق تقدماً لا يستهان به في مجال التفكير والتأمل والنظر في قضايا الكون والوجود والحياة. واستطاع في هذه المرحلة أن يكتشف علاقات كثيرة أهمها:‏

ـ الكشف عن العلاقات بين أشياء متنافرة ومتضادة مثل علاقة الروح بالجسد.‏

ـ عرف أن الإدراك يتم عن طريق الحواس وأن تعطل حاسة ما يؤدي إلى تعطل وظيفتها الإدراكية.‏

ـ إدراك طبيعة الحركة من الأعلى إلى الأسفل ومن الأسفل إلى الأعلى. كما أدرك خصائص المادة الهندسية التي تتعلق بالعمق والطول والعرض والارتفاع.‏

ـ الكشف عن خصائص المادة وأصولها التي تعود إلى الماء والهواء والتراب والنار.‏

ـ الكشف عن مبدأ العلية والسببية بين المظاهر الطبيعية.‏

المرحلة الرابعة:‏

وتبدأ من الحادي والعشرين حتى الثامن والعشرين من عمر حي.‏

تأخذ هذه المرحلة مشروعيتها من المرحلة السابقة وتمثل استمراراً لها. وفي هذه المرحلة يفكر حي بالموضوعات السماوية أي في الأفلاك والأجرام والنجوم ثم في قضايا العالم في أصل العالم وفي قدمه وحدوثه والعلاقة بين المادة والصورة والبحث عن مبدأ العلّية. وفي هذه المرحلة يدرك بأن تحرر الإنسان من ثقل المادة وشهوات الجسد يمكنه من تحقيق التواصل مع الكليات ومعرفة المعقولات وبالتالي تحقيق السعادة الكلية. وهذا يعني أن حي قد بلغ أقصى درجات المعرفة.‏

المرحلة الخامسة:‏

وهي المرحلة التي تقع بين الثامنة والعشرين والخمسين من العمر.‏

يبلغ حي من النضج العقلي مبلغاً عظيماً ويصل إلى السعادة الكبرى. وسبيله إلى هذه السعادة التحرر من ربقات الجسد ومن الرغبات والشهوات واعتماد الرياضة الفكرية. وهنا يصبح حي صوفياً إشراقياً يتحد مع الكون الأعظم ويدرك معنى الألوهية ويوحد الله عزَّ وجلَّ وينزهه. وفي هذه المرحلة يلتقي بآسال وسلامان ويدور ما يدور بينهم من جدل حول الحقيقة والغايات الكونية المطلقة، ويعرف الثلاثة أن ما يكتسب بالوحي يمكن أن يكتسب بالعقل وأنه ليس هناك من تعارض بين الدين والفلسفة في اقتفاء الحقيقية والوصول إلى غاية الكشف الكلية.‏

وعلى الرغم من عودة آسال وحي إلى المدينة لهداية المجتمع ولكنهما يمنيان بالفشل ويعترفان بصعوبة تنوير الناس بالحقائق الكلية وتخليصهم من عذابهم الأبدي فعادا مهزومين مدحورين إلى الجزيرة أملاً بالخلاص وعزفاً عن الدنيا وتوحدا بالمعرفة اتحاداً مع الحقيقية وإيماناً بالله المنزه عن المادة والصفات. وهذا يعني العودة إلى الطبيعة حيث الصفاء والنقاء والانقطاع إلى عبادة الله عز وجل جلاله

منهج ابن طفيل التربوي:‏

يؤكد ابن طفيل على أهمية الاستعدادات العقلية والانفعالية عند الإنسان. فالإنسان يمتلك قابلية التعلم والإدراك بالفطرة السليمة وعلى هذا الأساس تمكن حي من إدراك المحسوسات والمعقولات إدراكاً يتصف بالتمام والكمال. لأن عقل حي كان مهيأ باستعداد فطري للكشف عن طبيعة الحقائق والعلاقة الجوهرية بين الأشياء: بين الخالق والمخلوق، بين الجسد والروح، بين المتشابهات والمتناقضات، وبين القضايا المتقابلة والمتعاكسة. ومع ذلك كله فإن هذه المعرفة لا تحدث بصورة عفوية كيفما اتفق بل تحدث عبر منهجية عرفانية ترتبط بالعمر والخبرة والتجربة والبيئة. فالطبيعة عامل كشف وإلهام وهي التي تصقل الفطرة وتنمي فيها انقداحات المعرفة وبفضل التجربة الطبيعية لحي تمكن من الكشف عن ماهية الأشياء وطبيعة المعقولات. ويبين ابن طفيل المنهجية التي يعتمدها حي في كشفه وفي إشراقاته العقلية. ويتكون هذا المنهج العرفاني من الخطوات التالية:‏

أولاً ـ الانتقال من البسيط إلى المركب في معرفة الكائنات والمخلوقات والأشياء. إذ كان حي ينتقل في عملية المعرفة ومن السهل إلى الصعب ومن البسيط إلى المركب.‏

ثانياً ـ الانتقال من الظاهر المحسوس إلى الباطن. وتلك هي حالة حي عندما ماتت الظبية حيث كان يبحث في ظاهر الأمر، فلم يعرف سبباً لموتها ولكنه افترض غياب الروح فيها وهي كينونة لا تشاهد بالعين المجردة ولو كانت كذلك لشاهدها.‏

ثالثاً ـ الانتقال من المحسوس إلى المعقول وهذا يشمل إدراك حي لمبدأ السببية والعليّة ومبدأ الوحدة والكثرة ثم ماهية الأشياء ومكنوناتها.‏

رابعاً ـ الانتقال من الجزئي إلى الكلي ومن الخاص إلى العام وهذا يدل على المعرفة الاستقرائية التي ينتقل فيها الإنسان من الملاحظات الجزئية إلى القانون العام الذي يشملها.‏

التربية الطبيعية عند ابن طفيل:‏

يشكل مذهب ابن طفيل في "حي بن يقظان" ينبوعاً للفكر الطبيعي في الفلسفة والتربية، ويعد علاّمة التربية الطبيعية وربان المذاهب الطبيعية المختلفة ا لتي شهدتها أوروبا في القرن الثامن عشر على يد المفكر الفرنسي جان جاك روسو في كتابه إميل. ويقرّ كثير من النقاد بأن روسو كان قد نهل من معين الفكر الطبيعي عند ابن طفيل وأنه قد قرأ بتمعن كبير قصة "حي بن يقظان" واطلع على مضامينها واستفاد منها في تشكيل نظريته الطبيعية في التربية والسياسة. ففي كل منحى من مناحي فكر ابن طفيل تطالعنا الطبيعة بجمال تكوينها طاقة سامية خلاقة تمكن حي من الوصول إلى أقصى غايته وأنبل طموحاته الإنسانية بوصفه مفكراً أنسياً عاقلاً وحكيماً.‏

لقد تلقفته الطبيعة في المهد ووفرت له ما يناسبه من الحنان والرعاية عبر الجزيرة والظبية والطيور والأشجار والثمار. فأيقظت فيه هذه الطبيعة حب التأمل والتفكير فولدت فيه فضول العارفين وانطلقت به إلى الحلم الكبير لإدراك الصوفي الإشراقي للعالم والكون.‏

فالتربية يجب أن تكون طبيعية لأن ابن طفيل عاش في أحضان الطبيعة وتغذى من عطائها وتعلم منها فن التفكير والحياة والعمل والتأمل والنظر والبحث عن ماهية الأشياء. ويلاحظ في هذا السياق أن ابن طفيل يؤكد في نسق تصوراته أن الطبيعة كافية بذاتها لتربية الإنسان وقادرة على أن تأخذ به إلى أكثر معالم الرشد والمعرفة الإنسانية تقدماً.‏

ويعتقد ابن طفيل مرة أخرى أن الطبيعة خيرة لا شر فيها، وليس ثمة نزع شر أصيل في النفس الإنسانية. كان حي خيراً بفطرته وكانت الطبيعة حاضنه الذي ينضح بكل الخير وبين لقاء الطبيعة والطبيعية (بين طبيعة حي وطبيعة الجزيرة) امتلك حي زمام نفسه نحو الخير المطلق. فالعلاقة هي جدل طبيعي بين الخير الذي يتأصل في كل طبيعة. وتلك هي الطبيعة الأم التي يلجأ إليها الإنسان عندما يحاصره الفساد والظلم والقهر في المجتمع. وكأن ابن طفيل كان يرى في الطبيعة ملاذاً ومنهجاً يمكّن الإنسان من العودة إلى أصالته الخيرة والتحرر من أثقال المجتمع التي تنذر بالفساد.‏

وباختصار فإن "حي بن يقظان" يرسم في كتابه هذا ملامح نظرية طبيعية في التربية متعددة الاتجاهات بعيدة الغايات تحمل في ذاتها نسقاً يفيض بتصورات فلسفية وإنسانية تتميز بطابع الشمول والأصالة.‏

من مقال للدكتور علي أسعد جريدة الأسبوع الأدبي عدد(893) بتصرف يسير

 

 

 

النقد لهذه القصة

 

1- أولا لا بد من التنبيه أن القصة كما ذكر غير واحد من المؤرخين أنها للفيلسوف ابن سينا .

وابن سينا أحد فلاسفة الإسلام المتهمين بالزندقة والإلحاد

قال ابن قيم الجوزية: (وكان ابن سينا - كما أخبر عن نفسه - هو وأبوه، من أهل دعوة الحاكم، من القرامطة الباطنيين)، وقال ابن تيمية (تكلم ابن سينا في أشياء من الإلهيات، والنبويات، والمعاد، والشرائع، لم يتكلم بها سلفه، ولا وصلت إليها عقولهم، ولا بلغتها علومهم؛ فإنه استفادها من المسلمين، وإن كان إنما يأخذ عن الملاحدة المنتسبين إلى الإسلام كالإسماعيلية؛ وكان أهل بيته من أهل دعوتهم من أتباع الحاكم العبيدي الذي كان هو وأهل بيته معروفين عند المسلمين بالإلحاد)

وقد ذكر غير واحد في ترجمة ابن سينا أن من كتبه " حي بن يقظان " كما ذكر ذلك الزركلي في الأعلام وقام بشرحها عدة من أعيان الفلاسفة .

 

وقد كتب كذلك على منوالها عدة من فلاسفة كما فعل علي بن أبي الحزم القرشي وسماها " فاضل بن ناطق " كما في الأعلام للزركلي (4|271) وكذلك للسهرودي المتهم بالزندقة والإلحاد رسالة على هذه القصة كما في وفيات الأعيان (6|269)

ولا شك أن تتابع هؤلاء الفلاسفة على هذه القصة الفلسفية بالشرح أو التأليف له مغزى وهدف .

ومما يؤكد الصلة بين رسالة ابن الطفيل ورسالة ابن سينا ما قاله الأستاذ إبراهيم عبد الله " الشخصيتان المعينتان ل "حي" بن طفيل، على اكتشاف الدين والمجتمع؛ آسال وسالمان فاقتبسهما ابن طفيل من قصة نوه بها ابن سينا في القسم الأخير من سفره "الإشارات والتنبيهات"، وأومأ إلى أنها من الرموز التي تحمل معاني جديرة بالتأمل... إن العناصر التي نعتبر أن ابن طفيل استلهمها من فلسفة ابن سينا، وخاصة من رسالتي "حي ابن يقظان" و"آسال وسلامان" السينويتين، باعتبارهما تضمان كثيرا من هذه العناصر السينوية، التي هي من أسرار هذه الحكمة المشرقية التي نوه بها ابن طفيل في بداية رسالته الفلسفة، هي : القول بالتولد الذاتي، وجوهرية النفس، والقول بـ"ألوهية" الأجرام السماوية، والقول بالمجاهدة،والقول بالحياة بعد الموت، وهي عناصر تخترق النص الفلسفي وتشكل لحمته الأساسية.

الأستاذ إبراهيم بن عبدالله في مقاله " معالم من التجربة الفلسفية لابن الطفيل

انظر مجلة التاريخ العربي (1|13395)

 

 

2- مؤلف هذه القصة الفلسفية هو ابن طفيل :

محمد بن عبد الملك بن محمد بن طفيل القيسي الأندلسي. ولد بمدينة (وادي آش) قرب غرناطة. درس الفلسفة والطب في غرناطة. أعظم فلاسفة الأندلس ورياضيها وأطبائها. تولى منصب الوزارة ومنصب الطبيب الخاص للسلطان أبي يعقوب يوسف أمير الموحدين، وكانت له حظوة عظيمة عنده. وكان معاصرا لابن رشد وصديقا له. لم يصل إلينا من كتبه سوى قصة (حي بن يقظان) أو (أسرار الحكمة الإشراقية) وقد ترجم إلى عدة لغات أجنبية

وقد اتهم ابن الطفيل بالزندقة والإلحاد قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وهذا في الجملة قول المتفلسفة والباطنية كالملاحدة الإسماعيلية وأصحاب رسائل إخوان الصفاء والفارابي و ابن سينا والسهروردي المقتول وابن رشد الحفيد وملاحدة الصوفية الخارجين عن طريقة المشايخ المتقدمين من أهل الكتاب والسنة ابن عربي و ابن سبعين و ابن الطفيل صاحب رسالة حي بن يقظان وخلق كثير غير هؤلاء .

درء التعارض (1|9) وانظر العقيدة الأصفهانية (173)

 

3- نرى في القصة الضرب كثيرا على مسألة العقل الذي يدندن حولها كثيرا الفلاسفة , ولذلك لاقت قصة حى بن يقظان هذه رواجا عظيما بين المفكرين والعقلانيين , ولا يزال كثير من هؤلاء يعتبر هذه القصة الفيصل في قضية العقل ولا يزالون يؤمنون بأن العقل موهبة طبيعية تنمو من تلقاء نفسها سواء عاش الإنسان في مجتمع أم عاش منذ ولادته وحيدا منعزلا .

وهذا مخالف لكثير من الأبحاث العلمية الحديثة التي تكاد تجمع على خطأ هذا الرأي , حيث ثبت اليوم أن العقل البشرى صنيعة من صنائع المجتمع وهو لا ينمو أو ينضج إلا في زحمة الاتصال الاجتماعي .

 

4- يعرض ابن الطفيل في قصته أن عقل هذا الإنسان استطاع أن يفكر ويستنتج حتى توصل بتفكيره المجرد إلى كثير من الحقائق الكونية التي توصل إليها الفلاسفة العظام من قبل وهذا العقل البشري ينمو من تلقاء ذاته ولا حاجة به إلى التعلم أو التلقين .

5-هذه القصة الفلسفية سلك فيها مؤلفها مسلك من مسالك الباطنية وهو التعبير بالرمز عن الحقائق التي يخفونها

فهذا أبو حامد الغزالي يذكر في كتاب " ميزان العمل " أن الآراء ثلاثة أقسام:

أولا : رأي يشارك فيه الجمهور فيما هم عليه.

ثانيا: : ورأي يكون بحسب ما يخاطب به كل سائل و مسترشد.

ثالثا: رأي يكون بين الإنسان ونفسه لا يطلع عليه إلا من هو شريكه في اعتقاده .

والرمز عبارة عن التكلم بلغتين متقابلتين : أي من جهة الصورة العامة و التعابير ، تكون المعاني الواضحة و المدركة من طرف الجميع هي المعاني التي تصادق عليها العامة ، أما المعاني الضمنية و المرمزة فتحمل بين طياتها مقاصد المفكر و مراميه , و يمكن التعبير عن فاعلية هذه الطريقة بعملية " تحقين " ، أو على أنه مدح في الظاهر قدح في الباطن .

 

وقد سلك ابن الطفيل في قصته تلك هذا المسلك فعبر في هذه القصة برموز وألفاظ باطنها السلامة والرحمة وباطنها العذاب والكفر .

يقول إبراهيم عبدالله : لقد اختار ابن طفيل لبطل قصته اسم "حي بن يقظان"، و"الحي هو الدارك وهو "المتحرك من ذاته بحركات محدودة نحو أغراض وأفعال محدودة تتولد عنها أفعال محدودة "واليقظان" هو المستعمل للحواس"، فجمع له بين الإدراك العقلي وبين الممارسة العلمية الخاضعة للتدبير.

وهكذا أدرك "حي" باشتغاله المضمي بحواسه، وبتفتحه الفكري الناتج عن فطرته الفائقة معرفة نظرية وعلمية كاملة، وتحرك بالفعل ذاتي واع، وبتدبير كبير - مشدوها بلغز هذا الوجود - لبلوغ الكمال الميتافيزيقي.

فـ "حي" إذن يرمز عند ابن طفيل لأدوات المعرفة في تحررها وتفتحها وتألقها وشوقها إلى المعرفة التي ترمي بالذات من خلال أفعال محدودة في أتون المطلق.

أما "آسال" ابن طفيل فيرمز "للعقل الديني" الذي يترقى في المعرفة مكسرا طوق التقليد متجاوزا ظواهر النصوص، كلفا بالتأمل والغوص على المعاني، محبا للعزلة المعنية على ذلك حتى يصل بمساعدة "حي" إلى درجة الاتصال.

إن هذا العقل، بمواصفاته التي حرص ابن طفيل على التشديد عليها، هو وحده القادر على التجاوب مع "العقل الفلسفي" الذي يمثله "حي بن يقظان". ولذلك سيجسد ابن طفيل من خلال لقاء "آسال" "بحي"، واطمئنان بعضهما لبعض، وتبادلهما لتجاريهما، إخاء "الفلسفة" والشريعة، و"المحبة الطبيعية" التي تحدث عنها ابن رشد في "فصل المقال"، ولا يخفى أن هناك قرابة واضحة بين "الآسلين"؛ "آسال" ابن سينا وآسال ابن طفيل، وإن لم يكن بينهما تطابق تام؛ فكلاهما ترقى في مراقي المعرفة، حتى بلغ درجة من الكمال.

أما "سلامان" ابن طفيل فرمز "للعقل الديني"، والوقاف عند الظواهر،

المحب للاجتماع الإنساني والحريص عليه، العقل غير مؤهل - عادة - لفهم

"الحكمة" والتجاوب معها. وقد أسند ابن طفيل لسالمان نفس الوظيفة التي أسندها

ابن سينا لسميه، فكلاهما "ملك"، وإن كانت الأدوار التي قام بها كل منهما

منسجمة مع السياق الفلسفي - الأدبي للقصة-.

مجلة التاريخ العربي (13399)

 

 

الرمزية في قصة : "حي بن يقظان "

 

يؤكد ابن طفيل ، على أن قصته مصطبغة برمزية مقصودة ، فهو يقول في الفقرة الأخيرة من الكتاب : و لم نخل مع ذلك ، ما أودعناه هذه الأوراق اليسيرة ، من الأسرار ، عن جانب حجاب رقيق و سر لطيف ينهتك سريعا لمن هو أهله ، ويتكاثف لمن لايستحق تجاوزه .

 

وقد أجمل بعض الباحثين هذه الرمزية في النقاط التالية :

 

أ ـ ورود القصة في شكل رسالة : من شأنه أن يقرب الصلة بين القارئ و الكاتب ، و من شأنه أيضا، أن يعطي للقصة مدلولا إخباريا له وقعه في نفسية السامع أو القارئ ، إذ أنه سيضفي على الأحداث من الواقعية و الحركية مما سيشعر القارئ بأنه طرف لا غنى عنه في كل ذلك .

ب ـ ورودها في شكل قصة : يمكّن الكاتب من تصوير الأحداث و تحريك الصور في المخيلة و تخلصه من الأسلوب السردي الممل ، بافتعال واقع خيالي لتطوير الأحداث مليء بعناصر التشويق . وهذه طريقة لافتكاك شرعية الدخول إلى قلب القارئ ، و بالتالي زرع الطمأنينة فيه و التحكم في اعتقاده .

ج ـ التقديم للقصة : يهيئ القارئ و يؤطر تفكيره ، فيوجهه نحو وجهة واحدة يختارها له الكاتب ، و يخلصه بالتالي من الأحكام و الظنون المسبقة . و كما أنه يسعى إلى إفراغ العقل من هذه الأحكام ، فإنه في المقابل يضع فيه بعض التقييمات والآراء الأولية و المباشرة ، حتى يظن القارئ ( غير المرغوب فيه ) أن ما أورده الكاتب في القصة من مقاصد هو نفس ما أشار إليه في التقديم .

د ـ الازدواجية في رواية التولد : هي دليل على اتباع أسلوب ثنائي في ازدواجية المعنى الذي سيعتمده ابن طفيل . و نلاحظ أن هذه الثنائية تغطي كافة القصة : ( السن سنان : عمر جسمي و عمر عقلي ، و المقصود هو العمر العقلي ـ الحقيقة حقيقتان : الأولى يمثلها حي بن يقظان ، و الثانية يمثلها آسال ، و الحقيقة التي يمثلها حي هي المقصودة ـ الباطل باطلان : الباطل الذي عليه الجمهور و الباطل الذي عليه سلمان ، والمقصود هو الباطل الذي عليه سلمان ، ممثل الفقهاء ـ و القصة على نحوين : نظري و عملي ، و المقصود هو القسم النظري ـ و الإنسان على قسمين : كامل و ناقص ، و المقصود هو الإنسان الكامل ... الخ ) .

هـ ـ التدخلات المباشرة للكاتب ( في ثنايا القصة ) : و تفيد استدراكات منه لتغطية الغرض الأصلي ، و هذا التدخل إما أن يكون القصد منه الوصف و الإيضاح أو توجيه القارئ إلى معنى معين ، أو الاعتذار ، أو الجدال و الخصام ، أو التموييه . والقصد من هذا الحضور في بعض المواقع هو إرهاب القارئ غير المرغوب فيه أو تضليله .

ز ـ اختيار مواضع الآيات القرآنية : و ذلك لتوظيفها في غرض ما، أو تسكينا و تهدئة للشعور الديني و بث الطمأنينة في المتدينين المتعصبين من القراء ، و يدخل في هذا الباب أيضا ، الدعاء و الجمل الاعتراضية .

ح ـ التعلل بقصور اللغة و فقرها : و هذه الوسيلة ما هي سوى حيلة من الكاتب لتغطية أغراضه من ناحية و الاحتماء بإمكانية التأويل من ناحية أخرى ، و إلا كيف تحصل الفكرة في الذهن واضحة جلية و لا يواتيها التعبير ؟ سوى أن تكون هذه الفكرة مختلطة و باطلة ، أو أن يتهرب الكاتب من الإفصاح المباشر عنها . لأن ما يعجز اللغة في الحقيقة هو ذلك الذي لم يتبينه الذهن و لا صفت معرفته في العقل ( مثل العواطف و المشاعر لكونها حالات تخص الذات الفردية فلا يتأتى للإنسان التعبير عنها بكامل الصدق ) .

ط ـ تقابل آراء الكاتب في المسألة الواحدة : ( كذم الفلاسفة و تبني آراءهم ، و اتهام العقل بالقصور والاعتماد عليه و مدحه و تقديمه على كل ما سواه من الملكات ، و تقديس الدين و تزكيته ثم انتقاد بعض ما جاء فيه ... الخ ) . فمن شأن هذه العملية أن تزرع التذبذب في عقل من يريد الوقوف على موقف واضح لابن طفيل بغرض الإيقاع به، لأن صادق النية سينتقي الحق من القصة ـ بعد بحث و غربلة و تمحيص ـ لذلك لا تهمه مواقف ابن طفيل ولا وجهة نظره و لا شخصه، و إنما سيهتم للحقيقة في حد ذاتها . و أما سيئ القصد فسيبحث عن مآخذ في سياق القصة يتهم بها الكاتب . فإذا ما كان القول مختلفا أو أنه يبدو متناقضا، فإن باب التأويل سيفتح عندئذ على مصرعيه . و سيجد الكاتب نجاته في ذلك .

ي ـ القول بتمايز الطبائع : و أن الذين تكتمل فيهم الرتبة الإنسانية هم أصحاب الحق الذي لا " جمجمة فيه " ، أما الآخرون فعلى باطل و تنقصهم ملكة التمييز لقربهم من الحيوانية : و تكمن الغاية من هذه الطريقة في توظيف غرور الناس من ناحية ، إذ من سيجرؤ على الاختلاف مع " الفلاسفة " و معارضتهم سيتهمه ابن طفيل بأنه من صنف الحيوانات غير الناطقة . و من ناحية أخرى بغرض التشفي من الخصوم بالطعن في مقدرتهم العقلية .

ك ـ القول بأن : "ا�

المصدر: ملتقى أهل الحديث
  • Currently 20/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
6 تصويتات / 755 مشاهدة
نشرت فى 7 مايو 2011 بواسطة elsayedahmed

ساحة النقاش

السيد احمد عبد اللطيف حسين

elsayedahmed
اهتم بالكتب والمقالات والروابط وكل مايخص طالب العلم »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

125,156