عبدالله الاشعل يكتب : تأملات في الدستور المصري الجديد
ان طرح مشروع الدستور الجديد بعد أن سلمته الجمعية التأسيسية لرئيس الجمهورية محمد مرسي ويجرى الاستفتاء على مجمله. وقد نشطت المعارضة منذ انتخاب الرئيس لإفشال خطته فى إنهاض مصر كما انسحب من الجمعية التأسيسية عدد من أعضائها تارة لأسباب سياسية أو تآمرية وتارة أخرى لأسباب موضوعية وهي أن الجمعية لا تستجيب لوجهات نظرهم وأنهم لا يحتملون حكم الأغلبية.
يُطرح مشروع الدستور في وقت ينقسم فيه المجتمع إلى التيار الإسلامي ومن يؤيده والتيار الليبرالي بكل أطيافه الناصرية واليسارية والشيوعية والشيعية واللا دينية وغيرهم ممن يرفضون التيار الإسلامي فضلا عن الأقباط بشكل عام، وهذه قسمة جديدة عرفها المجتمع المصري عند الاستفتاء على الإعلان الدستوري الأول الذي أصدره المجلس العسكري في 30 مارس/آذار 2011.
فإذا رفض مشروع الدستور شكل الرئيس جمعية جديدة لإعداد دستور يرضي الجناح غير الإسلامي على أساس أنه دستور لوطن واحد وشعب واحد.
أما إذا قبل الشعب الدستور بحالته الراهنة فإن ذلك يعني أن شريحة سياسية وأخرى دينية ترفض الدستور لاعتقادها بأن تمرير الدستور يعني انكسارها ونجاح التيار الآخر بعد أن اتخذ الصراع صورة ذاتية ودينية بعيداً عن الموضوعية والمصالح الوطنية. ولذلك فإنه من المفيد أن يتم فهم الدستور مفصولاً عن المناخ السياسي الذي يصدر فيه.
الملامح الأساسية للدستور:
يجب التأكيد ابتداءً على أن دستور 1971 كان نموذجياً ولكن مشكلته الأساسية أن الرئيس مبارك ونظامه لم يحترما أي نص فيه وتم استخدامه وتوظيفه لأغراض دعائية ذلك أن السلطات الاستثنائية للرئيس فى الدستور السابق كان مصدرها مجلس الشعب الذي كان مشكلاً بالتزوير ولذلك فإن العبرة ليست دائماً بالنصوص وإنما العبرة بالنفوس والضمانات والإصرار على احترام الدستور.
يتسم الدستور الجديد بالخصائص التي تجعله دستوراً عصرياً يعكس أشواق المصرين إلى الحرية والحكم الرشيد ومكافحة الفساد والكرامة والتوازن بين السلطات والفصل بينها وتهذيب صلاحيات الرئيس وضبط وضع الجيش.
السمة الأولى: التأكيد على أنه إذا كانت مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع فمن حق غير المسلمين من المسيحيين واليهود الاحتكام إلى شرائعهم في المجالات التى يتطلبها ذلك ولكن تبقى الشريعة الإسلامية هي الشريعة العامة وهي الأحكام الكلية والاجتهادات المعتبرة في الفقه الإسلامي فالنص للعموم في شقه الإسلامي ولغير المسلمين في المعاملات المتعلقة بالأسرة وغيرها وهذا لا يمنع أنهم يحتكمون أيضاً إلى شرائعهم فى تشريعات فرعية.
السمة الثانية: إنشاء الأجهزة الرقابية في الدستور وهي صمام الأمان في النظم الديمقراطية.
السمة الثالثة: إنشاء المفوضية الوطنية للانتخابات ومعظمها من عناصر قضائية.
السمة الرابعة: إنشاء برلمان من غرفتين ووضع ثقل معين لكل منهما ولكن مجلس النواب هو مركز الثقل في العملية التشريعية وإن كان مجلس الشورى يقوم مقامه إذا كان منحلاً.
السمة الخامسة: يستحدث الدستور هيئة لمقاومة الفساد مما يعكس الجرح الغائر الذي تركه الفساد فى جسد الدولة ومهمة الدولة هي تنظيف جسد مصر من الفساد بمختلف الوسائل ووضع الإجراءات اللازمة لمنع ترسب الفساد من جديد وهذا بعد هام فى تنقية حياة المصريين وترشيد النظام السياسي وتحسين صورة مصر في الخارج.
السمة السادسة: استحدث الدستور الجديد نظام الوقف وهو يختلف عن هيئة الأوقاف فى وزارة الأوقاف فالوقف طريق إسلامي لتعمير المجتمع والاستجابة لنوازع الخير عند الناس لتمويل مشروعات تجلب النفع العام وهو إحياء لتقاليد الوقف في التاريخ الإسلامي.
السمة السابعة: استحدث الدستور الجديد هيئة لحفظ التراث بعد أن لوحظ تجريف مصر من ذاكرتها وتراثها ونأمل أن يمتد الاهتمام إلى صيانة الآثار المصرية
السمة الثامنة: حظر محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري سوى فى الحالات التي يرتكب فيها المدني أعمالاً تضر بالقوات المسلحة. معنى ذلك أن هذه الحالة هي استثناء على الأصل وهو ما طالبت به ثورة يناير.
السمة التاسعة: تتعلق بوضع رئيس الجمهورية من حيث شروط الترشيح ومدد الولاية وسلطات الرئيس ومحاكمته وعلاقته بالسلطتين التشريعية والقضائية، ونشير بشكل خاص إلى أن رئيس الوزراء أصبح فى الدستور الجديد شخصية محورية وهو يحل محل الرئيس عند غيابه أو عدم قدرته المؤقته على العمل ثم تسري القواعد المعروفة السابقة في حالة خلو منصب الرئيس.
ويكلف الرئيس رئيسا للوزراء من الحزب الحائز على أكثرية مقاعد مجلس النواب إذا لم يحظ رئيس الوزراء والحكومة فى المرة الأولى بثقة مجلس النواب، لكن مجلس النواب هو الذي يختار رئيس الوزراء فى المرة الثالثة إذا لم تحظ حكومته على ثقة المجلس. أى أن مجلس النواب يشارك الرئيس في تعيين رئيس الوزراء وهذه إضافة هامة مع غيرها تجعل النظام السياسي في مصر نظاماً مختلطاً.
أما محاكمة رئيس الوزراء وأعضاء الحكومة فلا ينفرد بالاتهام رئيس الجمهورية وإنما يشاركه النائب العام ومجلس النواب ويحسم مجلس النواب بأغلبية الثلثين الاتهام بقرار منه.
وقد شدد الدستور على نزاهة رئيس الجمهورية وحظر تلقي الهدايا لأنها رشوة من الداخل وإهانة لمصر من الخارج. وحظر الهدايا حكم عام يسري على كبار موظفي الدولة ومع ذلك إذا ثبت أنه تلقاها تؤول للخزانة العامة.
ولم يعد رئيس الجمهورية في الدستور الجديد هو الذي يبرم المعاهدات منفرداً وإنما أصبحت موافقة البرلمان أساساً قبل أن يصدق الرئيس على المعاهدة أما المعاهدات الهامة التى فصلتها المادة 145 فيجب أن تكون موافقة البرلمان بأغلبية ثلثي الأعضاء وأكدت هذه المادة في نهايتها أنه لا يجوز إقرار أي معاهدة تخالف أحكام الدستور، ومعنى ذلك أن الدستور أصبح قيداً على نوع المعاهدات التى تلتزم بها الدولة وهذا لا يقدح في التزام مصر باحترام المعاهدات التي تصبح طرفاً فيها.
أما سلطة إعلان الحرب فهي بقرار من الرئيس ولكن بشرط أخذ رأى مجلس الدفاع الوطني (سلباً أو إيجاباً) ولكن ضرورة موافقة مجلس النواب بالأغلبية المطلقة لعدد الأعضاء. كما يعلن الرئيس حالة الطوارئ وفقاً للقانون بعد أخذ رأي الحكومة ثم يعرض الإعلان على مجلس النواب خلال أسبوع من الإعلان.
والمثير أيضاً في الدستور الجديد أنه يمكن اتهام الرئيس بارتكاب جناية أو بالخيانة العظمى وفصل الدستور في المادة 152 إجراءات المحاكمة كما ينظم القانون إجراءات التحقيق والمحاكمة ويحدد العقوبة وهي إضافة بالغة الأهمية تسقط حصانة الرئيس فى الدساتير السابقة.
السمة العاشرة: للرئيس الحق في حل مجلس النواب إذا لم تحظ الحكومة وبيانها بثقة مجلس النواب على أساس أن الدستور لم يشترط أن تتشكل الحكومة بطريقة معينة ولا يكون للبرلمان دور في تشكيلها في المرتين الأولى والثانية.
وقد أحسن الدستور بحظر الجمع بين عضوية الحكومة وعضوية البرلمان ولكن يجوز أن يعين أعضاء البرلمان في الحكومة دون الجمع بين الاثنين.
السمة الحادية عشرة: خصص الدستور مكانا للأزهر اعترافاً بأهمية دوره واستقلاله بعد أن كان شيخ الأزهر عضواً فى الحزب الحاكم.
السمة الثانية عشرة: اهتم الدستور اهتماماً خاصاً بالقضاء فنص لأول مرة على ما كان النص عليه في القانون وهو الاعتراف بجميع الهيئات القضائية بما في ذلك هيئة قضايا الدولة والنيابة الإدارية والقضاء العسكري بأنها هيئات قضائية مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية ولم يعد رئيس الدولة هو الرئيس الأعلى للهيئات القضائية وإنما صار الرئيس الأعلى للشرطة باعتبارها جزءاً من السلطة التنفيذية التي يترأسها الرئيس.
السمة الثالثة عشرة: وضع الدستور حلاً نهائياً لتنظيم الانتخابات على كل المستويات والإشراف عليها وأسند هذه المهمة إلى المفوضية الوطنية للانتخابات كما يمكن أن يسند إليها الإشراف على الانتخابات النقابية وغيرها ويتكون مجلسها من عشرة أعضاء من القضاة المنتخبين من جمعياتهم العمومية والمنتدبين ندباَ كاملاً وتفرغاً تاماً لمدة ست سنوات
السمة الرابعة عشرة: يعين الرئيس النائب العام لمدة واحدة وهي أربع سنوات ويعين النائب العام بناء على اختيار مجلس القضاء الأعلى من بين نواب رئيس النقض ورؤساء الاستئناف والنواب العامين المساعدين ولا يكون للرئيس إلا إصدار قرار التعيين.
وقد حدد الدستور عدد أعضاء المحكمة الدستورية العليا من رئيس وعشرة أعضاء يتم تعيينهم بقرار من رئيس الجمهورية ويحدد القانون الجوانب المتعلقة بها. ولكن المادة 177 حصنت عددا من مشروعات القوانين الخاصة بمباشرة الحقوق السياسية والانتخابات على كل المستويات من الرقابة الدستورية اللاحقة اكتفاءً بالرقابة الدستورية السابقة.
وقد أوضحت المادة 235 أن يستمر رئيس الدستورية العليا وأقدم عشرة أعضاء فقط بالمحكمة.
وأخيراً أشارت الأحكام الانتقالية إلى استمرار الرئيس حتى إتمام مدته ويتولى مجلس الشوري الحالي سلطة التشريع كاملة حتى انتخاب مجلس النواب الجديد وتلغى جميع الإعلانات الدستورية الصادرة من 11 فبراير/شباط الماضي أي تنحي مبارك على أن تظل الآثار المترتبة عليها سارية.
السمة الخامسة عشرة: بالنسبة لقيادات الحزب الوطني المنحل حيث منعت هذه القيادات من ممارسة العمل السياسي والترشح للانتخابات الرئاسية والتشريعية لمدة عشر سنوات وهي أعضاء الأمانة العامة ولجنة السياسات والمكتب السياسي وأعضاء الشعب والشورى في الفصلين التشريعيين السابقين على الثورة.
السمة السادسة عشرة: لم يجد الدستور الجديد مكاناً لنائب الرئيس كما كان الحال فى الدستور السابق لأن نواب الرئيس من أهم سمات النظام الرئاسي الأميركي.
السمة السابعة عشرة: عالج الدستور الجديد وضع المحامين ومنحهم الحصانات اللازمة وبذلك سد الطريق على إعاقتهم لأي سبب ولذلك سيتم تنقيح قانون المحاماة لضبط العلاقة بين المحامين والقضاة بعد الأزمات الطاحنة التي عطلت مرفق العدالة.
وسوف يترتب على بدء العمل بالدستور إقالة النائب العام الجديد وإقالة نائب الرئيس الجديد.
وفي ضوء ما تقدم، فإن الدستور الجديد قدم حلولا منطقية وشدد على ملامح السلطات الثلاث والعلاقة بينها واستجاب لما طالبت به ثورة يناير وترك الباب مفتوحا لتعديله وفق ما تكشف عنه تحديات التطبيق.
ويعتبر بدء العمل بهذا الدستور هي شهادة ميلاد مصر الجديدة التي تأخرت عامين كاملين دفعت فيها مصر ثمنا باهظا من أمنها واقتصادها ودماء أبنائها.
بعبارة أخرى إن هذا الدستور مثل غيره تضمن ما يكفل انطلاق مصر إلى مستقبل آمن ولم تقل مصر بأي وقت كلمتها الأخيرة، فإن الموافقة على الدستور هي اقتحام للعقبة يجب علينا جميعا أن نتضافر لتجاوزها وألا تتشتت جهودنا فنتفرق وتذهب ريحنا.