رحل الشاعر الكبير محمود قرنى، قبل تسعة أيام فقط من الموعد الذى حدده الأطباء لإجراء زراعة الكبد، والذى عانى منها كثيرا خلال العامين الماضيين، دون أن يجد أى دعم حقيقى من وزارة الثقافة، أو اتحاد الكتاب.. بل كان وحيدا ينثر شعره فوق سرير المرض، ولما لا وهو متمرد إلى حد كبير ويسكن قلبه الكثير من الكبرياء، حتى إنه لم يتوقف عن الكتابة، فمنذ عام وحتى الآن، أى خلال هذه الأزمة المرضية أصدر ثلاثة كتب هى "خاتم فيروزى لحكيم العائلة" مختارات شعرية عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، وكتابا يضم دواوين من شعره بعنوان "خارطة مضللة لمساكن الأفلاك" عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ثم ديوانه الشعرى الأحدث "مسامرات فى الحياة الثانية" عن دار الأدهم.
ولد محمود قرنى سنة 1961فى مدينة الفيوم، لكنه كان يقيم بالقاهرة، حاصل على درجة ليسانس فى القانون، من جامعة القاهرة 1985، فعمل بالمحاماة، ثم فتحت الصحافة له أبوابها، فنشر عشرات المقالات حول الشعر، والسياسة، والرواية، والنقد الأدبي، والفنون التشكيلية، وعمل مراسلا ثقافيا لجريدة "عمان"، فى الوقت الذى كان يحرر بابا ثابتا بمجلة "الثقافة الجديدة" تحت عنوان "رحيق الكتابة"، وعمل أيضا محررا ثقافيا بجريدة العربي، التى تصدر عن الحزب الناصري، وغيرها.
وهو أحد أبرز شعراء جيل الثمانينات من القرن العشرين فى القصيدة العربية، عضو اتحاد كتاب مصر، وعضو أتيليه القاهرة للكتاب والفنانين، وله أكثر من عشرين كتابا وديوانا شعريا، وشارك فى العديد من المهرجانات الشعرية العربية، والدولية منها مهرجان أصوات المتوسط بفرنسا، مهرجان جرش، مهرجان الشعر العربى الثالث بالمغرب، وأسبوع الثقافة المصرية بالكويت.
حاول "قرني" خلال رحلته الشعرية أن يكون مخلصا لمعتقده الجمالى، فكتب فى كل الأشكال الشعرية، بداية من العمود إلى التفعيلة إلى قصيدة النثر.
بدأ هذه الرحلة-كما يقول- متدربا ومتعلما على التراث العربى قديمه وحديثه، لذلك لم تكن هناك أية آفاق للتجريب فى هذه المرحلة بل بدأ مباشرة بالقصيدة التقليدية العمودية، ولم يغادر هذا الشكل سوى مع بدايات التحاقه بالجامعة، فانتقل على إثر قراءته لنزار قبانى وأمل دنقل ومحمود درويش وبعض أعمال عفيفى مطر، خاصة ديوانه ملامح من الوجه الأنبا دوقليسي، إلى كتابة القصيدة الحرة التفعيلية، فأصدرت نتاج هذه المرحلة ديوانا تفعيليا هو "خيول على قطيفة البيت" ثم انتقل إلى قصيدة النثر التى أنجز عبرها الكثير من الدواوين.
أسس "قرني" مع آخرين "ملتقى قصيدة النثر بالقاهرة"، لدورتين متصلتين فى 2009، و2010، بمشاركة أكثر من أربعين شاعرا عربيا، كما أسس جماعة شعراء غضب، المعنية بقصيدة النثر، والتى أقامت عددا كبيرا من الفعاليات، وأيضا شارك فى تأسيس "مجلة الكتابة الأخرى"، والتى تصدر منذ مايو 1991.
كان معروفا عن "قرني"أنه ممسكا بالشعر، وبالشعر وحده دون أى اعتبارات أخرى، فلم ينظر يوما لجائزة أو لمشاركة فى مهرجان أو غيرها، وقال عن هذا:" ذات مرة سألت الشاعر الكبير الراحل محمد عفيفى مطر: لماذا لا تقترب أكثر من مؤسسة الدولة ومن الإعلام لإبراز تجربتك المهمة التى يتم تغييبها عمدا؟ فقال لى: الشاعر لا يمكنه أن يكون عبدا لسيدين فى وقت واحد، وقد ارتضيت من اللحظة الأولى أن أكون عبدا لدى الشعر ولن أكون أبدا عبدا لمطلب آخر، وأن هذا هو شرف الشاعر الحقيقى. هذه الإجابة كان لها أعظم التأثير على حياتى مع الشعر طيلة ما يقرب من أربعين عاما، فلم أنشغل فى أى لحظة بعطاء من أى نوع، تمسكت بترفعى الذى ورثته عن أبى وعن أساتذتى الكبار، كما أننى على المستوى الذاتى أترفع عن الكلام عن شعرى وهو يبرر ذلك بأنها ثقة الشاعر فيما يكتب، والأمر الثانى أننى مشغول بفكرة المعرفة سواء كانت معرفة منهجية مأخوذة من مرجعيات علمية مشهود لكتابها بالكفاءة أو معرفة حدسية ترتبط بفكرة الشاعر".
ومن أعمال الشعرية ديوان "حمامات الإنشاد، وخيول على قطيفة البيت، وهواء لشجرات العام، وطرق طيبة للحُفاة، والشيطان فى حقل التوت، وأوقات مثالية لمحبة الأعداء، ولعنات مشرقية، وترنيمة لأسماء بنت عيسى الدمشقي، وأبطال الروايات الناقصة- مختارات شعرية"، وكتاب بعنوان" وجوه فى أزمنة الخوف.. عن الهويات المجرحة والموت المؤجل" الصادر عن كتاب الهلال، وكتاب لماذا يخذل الشعر محبيه، وكتاب الوثنية الجديدة وإدارة التوحش، وكتاب "بين فرائض الشعر ونوافل السياسة"، كما صدر له "مسامرات فى الحياة الثانية- مختارات شعرية، وخاتم فيروزى لحكيم العائلة".
وعنه يقول الكاتب والناقد السورى صبحى حديدي: "أستطيع القول إن الشاعر محمود قرنى استجمع صوته الشخصي، وأخذت مجموعاته تراكم نبرة متميّزة تلو أخرى، بحيث أننا نقرأ اليوم واحدًا من أنضج شعراء مصر المعاصرين، وأكثرهم انفرادًا فى الموضوعات والأسلوبية والأدوات".
بينما قال الشاعر بهاء جاهين: "الجيد من الشعر المنثور يجعلك تنسى أنه منثور فله موسيقاه الخاصة، موسيقاه الخفية جلية الأثر، قولى هذا ليس بالجديد، ولكن لا بأس من تكراره".
أما عن الناقد سيد سعيد فيقول عنه: "محمود قرنى.. ومنذ أن عرفته، بدا لى كشخص خجول قليل الكلام، متعفف عن تسويق نفسه، وهو لا ينتمى إلى تلك الزمرة من الشعراء الذين ينسجون حول أنفسهم هالات من ضوء اصطناعى وهو لا مساندة أحد، هو المتمرد حتى ضد نفسه، وهو الذى يسكن كبرياءه، حتى وإن تخلت المدينة التى يسكنها عن قيمها، وأصبح مخلبها حادا".
كما قال عنه من قبل الشاعر والناقد السورى المثنى الشيخ عطيه: "يمكن للقارئ الذى يمتلك فضولًا آخر حول قصيدة النثر المعاصرة وأساليب شعرائها المعلمين، وقرنى أحدهم، أن يعيش متعة فض أسرار تركيب قصيدته ومتعة خروجها المتألق بعد انصهارات العناصر على هذه الصيغة المبهرة".