تقرير يكتبه: أشرف التعلبي
«كان «أيوب» الطفل البالغ ٥ سنوات يعبث فى شال أمه، وهو جالس فوق ركبتيها بإحدى مقاعد سيارة «الميكروباص»، وفى يده حلوى يلهو بها مستمتعا بمذاقها، حتى سقط من فوق ركبتيها عندما تمزق جسد أمه وسال دمها، بينما خالته الجالسة بجواره لم تنجده بل سكنت الرصاصات الغادرة فى قلبها مثل أختها، فاختلط دماء جميع الركاب دون التمييز بين رجل وامرأة وطفل.. ومازال أيوب تحت أجهزة الأكسجين بين الحياة والموت يحاول استعادة أنفاسه».
فى قرية صغيرة منسية واقعة فى حضن الجبل بالصعيد الجوانى اشتعل من جديد صراع القبلية بين أهلها، الذين لم يكتفوا بالمفاخرة بأجدادهم بل تغربوا خارج أوطانهم وباعوا أرضهم مصدر رزقهم من أجل شراء بنادق يتفاخرون بها بل وصل الأمر إلى شراء مضاد للطائرات.
ربما تكون قرية «أبوحزام» التابعة لمركز نجع حمادى بمحافظة قنا، الواقعة شرقى النيل مجهولة للكثيرين، لكنها أصبحت أكثر شهرة خلال الأيام القليلة الماضية لبشاعة ما حدث فيها من مجزرة بالسلاح الآلى بسبب مشاجرة مسلحة بين عائلتى السعدية والعوامر، وإطلاق النيران على سيارة ميكروباص، راح ضحيته 11 شخصا بينهم نساء وأطفال وإصابة 6 آخرين بإصابات بالغة الخطورة.
وبدأت المشاجرة بين العائلتين بسبب خلاف على ماكينة رى زراعية راح ضحيتها أحد أفراد عائلة السعدية، فقررت العائلة الأخذ بالثأر من عائلة العوامر، بإطلاق الأعيرة النارية على ميكروباص كان يستقله أحد أفراد العوامر، وتم إيقافه وإطلاق الأعيرة النارية على كل الركاب بطريقة عشوائية.
بينما تواصل الأجهزة الأمنية جهودها من خلال نشر قواتها لضبط المتهمين الهاربين والمطلوب ضبطهم فى الواقعة بعد إلقاء القبض على اثنين داخل القرية وإحالتهم للنيابة العامة لتتولى التحقيق معهم، وفرضت كردونا أمنيا من خلال تشكيلات قوات الأمن المركزي، وقوات خاصة وقوات الأمن العام وقوة من مباحث مركز نجع حمادى وفرع البحث الجنائى شمال المحافظة، ويجرى تمشيط المنطقة الجبلية لضبط العناصر المتسببة فى الحادث.
وعبر موقع التواصل الاجتماعى «فيس بوك» انتشرت رسالة لشاب من أبناء القرية أخفى ملامح وجهه، يقول فيها: «أنا واحد زى شباب كتير طلعنا لاقينا الدم والنار والسلاح جزء من حياتنا ومهما حاولنا أو أهلنا اتغربوا عشان يبعدونا عن كل ده لعنتها بتصيبنا.. عمرنا ما لاقينا حد سمعنا كشباب، حابين ننهى ونقضى ع كل ده دايما مهمشين فى كل حاجة حتى أبسط حقوقنا وهى الأمن والأمان.. عايزين حد يسمعنا ولو لمرة.. حد يساعدنا نوقف نزيف الدم ده.. شباب كتير راح وشباب اكتر هيروح.. أطفال وشيوخ وأهالى شايله أسر.. عيال بتتيتم وناس عمرها بيروح.. بيسيبوا الناس تأكل فى بعضها زى الغابة واللى يموت يموت.. والتار مستمر».
فى الحقيقة هذه الرسالة تعبر عن حلم كل الشباب بالصعيد الجوانى بالقضاء على سرطان الثأر اللعين وكلما تقدموا بخطوات حثيثة نحو عقد مصالحات ونشر ثقافة دولة القانون من أجل تنمية نجوعهم وقراهم إلا وعاد السرطان ليضرب من جديد خلايا قد شفيت منه.
وبالتدقيق فى الحادث نراه مختلفا عن الحوادث السابقة، فالصعايدة يقتصون من أفضل الرجال فى العائلة المتخاصمين معها، لكن ما حدث فى قرية «أبوحزام» خارج إطار عادات وتقاليد عرفها الصعيد منذ عقود طويلة، فالموروثات المجتمعية تمنع قتل النساء والأطفال فى حوادث الأخذ بالثأر، وتبقى عليهم خارج دائرة الانتقام، وما يزيد من سوء الموقف فى حادث أبو حزام أن أغلب الضحايا من عائلات أخرى، بخلاف العائلتين المتشاجرتين، مما يهدد بتوسيع دائرة الثأر والدم فى القرية.
وفى هذا الإطار يقول الشيخ محمد زكي، أمين لجنة المصالحات بالأزهر الشريف، وابن محافظة سوهاج، الثأر هو موروث قبلى قديم غاية فى التعقيد، ولا بد أن تتعاون كل الأجهزة المعنية الدعوية والثقافية والإعلامية وغيرها من الأجهزة لإماتة وخلع هذا الموروث القبلى الجاهلي، الذى ليس له علاقة بالدين من قريب أو بعيد.
موضحا أنه «لا يفل الحديد إلا الحديد» وبالتالى لا بد أن يكون هناك موقف قوى للدولة، بمعنى معاقبة كل من أجرم وسفك دمًا، فالقصاص موكل للجهات التنفيذية المعنية فقط، وليس هناك أى حق لأى إنسان أن يأخذ القصاص بنفسه، والحديد الذى أقصده أن يكون هناك موقف حاسم وسريع مع القاتل وكل من اشترك معه للقضاء على الفتنة فى مهدها، حتى لا يتوسع الناس فى هذا العمل الهمجى الجاهلى القبلي.
وعن مجزرة «أبو حزام» يضيف أن ما حدث كلنا مسئولون عنه، فالمجتمع غابت أو غيبت عنه القدوة الحسنة، خاصة القدوة الإعلامية والثقافية، وكل المسلسلات تتناول ظاهرة الثأر والبلطجة بشيء من العبث، ويخلطون بين الشهامة والعصبية القبلية الجاهلية، وهذه المسلسلات تسببت فى إفشال الشباب ورفع روح العصبية، ومع تيسير بيع السلاح ونشره فى أيدى من لا يعقلون، وعدم أخذ الاحتياطات اللازمة للقضاء على الجريمة قبل وقوعها والقضاء على تبعاتها إن وقعت، بالإضافة إلى عدم القضاء الناجز لتحقيق القصاص السريع، حتى تمتد القضايا فى المحاكم لعام واثنين فيكون هناك فرصة لأصحاب الفتنة فى إشعال نيران الثأر من جديد.
ربما تكون الدراما متهمة بشكل مباشر فى ترسيخ مفاهيم خاطئة، وهذا ما يؤكد عليه الكاتب الصحفى ممدوح الصغير، ابن محافظة الأقصر، أن جريمة قرية أبو حزام فى قنا تعتبر واحدة من أغرب الجرائم التى حدثت فى صعيد مصر خلال نصف قرن أو أكثر، لا أريد أن أطلق عليها جريمة قتل بل هى مذبحة، وربما فكرتها استمدت من الدراما التى غزت عقولنا، وصورت للمشاهد غيبة القانون، للأسف من قام بالمذبحة نفذها على طريقة على غرار ما كان يحدث فى بعض المسلسلات التى شوهت الصعيد ومذبحة قنا أحد ثمار هذه المسلسلات.
وصناع الدراما عليهم أن يستعرضوا الأرقام أمامهم، مصر يزيد عدد سكانها على 100 مليون نسمة، عدد كبير منهم ربما يصل للربع أميون، عقولهم خاوية تستوعب أن يزرع بها الشر والدمار والخراب، ومذبحة قنا ضد التنمية التى تريدها الدولة حاليا والتى تنفذ مشروع القرن «حياة كريمة» بتوفير الخدمات للقرى فى الجنوب، وسوف يكون طوق النجاة لانتشالها من براثن الفقر.
السلاح ليس بجديد على قرية أبو حزام التابعة لقرى شرق النيل ومعروف عن القرية أنها من قرى الدم والنار، فالأجهزة الأمنية بمركز شرطة نجع حمادى، تمكنت منذ فترة من ضبط قطعة سلاح مضاد للطائرات 14.5 بوصة.
واللواء خالد الشاذلى، ابن محافظة قنا، والخبير الأمني، يعتبر أن الخصومات الثأرية بمثابة حالة حرب داخل القرى والنجوع، والتأخير فى إنهاء تلك الخصومات يؤدى إلى فشل الحكومة فى كثير من المشروعات بتلك القرى؛ لأن مردود إنهاء الخصومات ليس مردودًا أمنيًا فقط، لكن المردود الأمنى آخر المردودات، فهناك مردود تنموى واجتماعى واقتصادى وأمني، وقد تتوقف مشروعات تنموية بسبب حالة الصراع الثأرى فى القرية، بالإضافة إلى زيادة معدلات الفقر بالقرية بسبب تكريس العائلات المتخاصمة لكل أموالها ومنها بيع الأرض لشراء السلاح، حيث يعتقدون أن الأقل حجما فى العتاد والسلاح سيكون مطمعا للطرف الآخر، وفى الحقيقة هناك شخصيات قد تكون بارزة بتلك العائلات تساهم بالمال لشراء الأسلحة، وعن المردود الاجتماعى فأطراف هذه الخصومات بينها مصاهرة وصلة رحم وهذا يهدد السلم المجتمعى فى القري.
ويؤكد اللواء الشاذلى أن المصيبة الأكبر فى قرية أبو حزام انتشار السلاح بين المواطنين دون ردع، وبالتالى تكون النتيجة أن حياة المواطنين الأبرياء غير آمنة ومهددة، وهم من سيدفعون الثمن دون غيرهم.
قائلا: الصعيد يحتاج فى ضابط الشرطة الذى يخدم نقطتين مهمتين القوة والعدل، وأعتقد أن المواطن إذا شعر بأنه سيأخذ حقه سريعا لن يلجأ لاستخدام القوة، ولا تكون هناك مسافة بين رجل الأمن والمواطن حتى يستطيع تحقيق روح القانون، فمهمة ضابط الشرطة المنع قبل الضبط، فى محاولة لإنهاء الخصومات الثأرية بالإضافة لعدم وقوع خصومات جديدة.
بكل تأكيد سيدفع الأبرياء الثمن وإن لم تصِبهم طلقة واحدة، سيدفعون ثمن غلق المدارس وتوقف المشروعات وتعطل الموظفين عن تقديم خدمات للمواطنين، فكيف يعقل أن يؤدى التلاميذ امتحاناتهم فى ظل هذه الأحداث الدامية، وقد انتشرت حالة من الذعر والقلق بين صفوف المعلمين المنتدبين لأعمال امتحانات الشهادة الإعدادية بلجان قرية «أبو حزام»، وهو ما دفع بالإدارة التعليمية بنجع حمادي، بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية، لتشكيل لجان لتأمين المعلمين المنتدبين ذهابا وإيابا.
وعلى لسان مدير إدارة التعليم بنجع حمادي، أنه تم تحديد نقطة تلاقٍ للمعلمين المنتدبين لأعمال امتحانات الشهادة الإعدادية بقرية «أبو حزام» مع لجنة أزمات الإدارة وتم توفير سيارات لنقل المعلمين إلى مقر اللجان بعد الاتصال بهم هاتفيا حيث رافقتهم قوة أمنية، فى حين أن بعض طلاب مدرسة «أبو حزام الإعدادية» لم يتمكنوا من الذهاب إلى اللجان الامتحانية.
وعن القضاء على سرطان الثأر يذكر الشيخ محمد زكى أن لجنة المصالحات بالأزهر الشريف لا تكتفى برد الفعل، لكنها منتشرة فى ربوع الوطن، وتقوم متطوعة مستعجلة لرغبتها فى عدم التوسع فى سفك الدماء، لكن اللجنة تعانى فى بعض الأحيان من عدم إعطائها فرصة لمعالجة مثل هذه القضايا، فالنخوة العرقية والجاهلية تأخذ بعض الناس إلى مجال أبشع وأسرع، وبكل تأكيد سيكون هناك دور من لجنة المصالحات فى قرية «أبو حزام» بعد ضبط الجناة، ونزور القرية فى محاولة لنشر التسامح بين الأهالي.
والقضاء على ظاهرة الثأر ليس فى يد رجال الأمن وحدهم، صحيح أن دورهم كبير فى القضاء على تجار السلاح الذين يرون فى الثأر حياة لإنعاش تجارتهم الدموية القائمة على أرواح الأبرياء، لكن الحل أيضا فى يد مثقفى المجتمع وحكماء القرى والقضاء على الأمية فى النجوع، وهناك دور على وزارة الشباب فى استغلال طاقات الشباب ووزارة التعليم والأوقاف والثقافة وغيرها من الجهات التى يمكنها تكوين لجنة أو مجلس قومى يضع إستراتيجيات وحلولا قصيرة وطويلة المدى طبقا لدراسات مجتمعية دقيقة.
وأتمنى أن تتدخل الرئاسة بشكل مباشر لإطلاق مبادرة تقضى على الثأر فى كل الكفور والنجوع، ولا تكتفى الدولة بلجنة المصالحات التابعة للأزهر فقط بل نحلم بدور مجتمعى أكبر وأوسع فى كافة الجهات، حسبما قال الشيخ محمد زكى.
وهو ما اتفق معه اللواء الشاذلى إلى ضرورة تشكيل مجلس قومى لإنهاء المنازعات الثأرية والحد منها، فالقضية لا تقل أهمية عن القضايا التى أنشئت من أجلها مجالس قومية كثيرة، وبنظرة بسيط لعدد الحوادث والضحايا نعلم مدى خطوة ظاهرة الثأر على السلم والأمن المجتمعي.
بينما دشن أهالى قرية أبو حزام، التابعة لقرى شرق النيل حملة على «فيس بوك» تحت عنوان «أنقذنا يا ريس» للمطالبة بحل الخلافات الثأرية بالقرية وإنقاذ الأبرياء.
كما طالب الأهالى بالاهتمام بالقرية وتحقيق كافة احتياجات المواطنين من خدما تنموية، صحية وتثقيفية وتعليم ورصف طرق وتوفير مياه الشرب والصرف الصحى للقضاء على الأمية والفقر.
<!--<!--<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin-top:0cm; mso-para-margin-right:0cm; mso-para-margin-bottom:8.0pt; mso-para-margin-left:0cm; line-height:107%; mso-pagination:widow-orphan; font-size:11.0pt; font-family:"Calibri",sans-serif; mso-ascii-font-family:Calibri; mso-ascii-theme-font:minor-latin; mso-hansi-font-family:Calibri; mso-hansi-theme-font:minor-latin; mso-bidi-font-family:Arial; mso-bidi-theme-font:minor-bidi;} </style> <![endif]-->