لسنا فى حاجة إلى التأكيد بأنه لن يحدث فى سد النهضة إلا ما تريده مصر، سواء أرادت إثيوبيا أو تلاعبت أو أساءت التصور أو تجاوزت اللياقة الدبلوماسية فالقضية محسومة لأن مصر لا تتحدث عما لا تستحق، وإنما تطالب فقط بحقوقها المائية الثابتة تاريخيا والمعترف بها دوليا والتى تمثل بالنسبة لها قضية حياة أو موت.
مصر قدمت كل ما يمكن تصوره من سبل دعم لإثيوبيا، وعبرت بكل الوسائل عن رغبتها فى مفاوضات مثمرة بهدف تحقيق التوازن والوصول إلى تصور عادل حول بناء وملء سد النهضة.
كما أبدت مصر تفهمها لكل الظروف التى تمر بها إثيوبيا وقدمت نموذجا فى المرونة الدبلوماسية والسياسية احترمه الجميع، لكن يبدو أن الحكومة الإثيوبية فهمت كل هذا خطأ واعتبرته فرصة للتمادى فى استهلاك الوقت وتقديم مبررات واهية للتعطيل والتمسك بمطالب أقل ما توصف به أنها وهمية ولن تلقى قبولا مصريا ولا تجاوبا دوليًا إلا ممن يساندون أى تحرك هدفه الإضرار بمصر ومصالحها الإستراتيجية.
ما يحدث من إثيوبيا فى علم السياسة اسمه المماطلة، وللأسف تمارسه إثيوبيا بشكل فج ينم عن إصرار على الهيمنة المنفردة على مياه النيل كما قال بيان الخارجية المصرى، وهو ما يتنافى مع كل القواعد الدولية وترفضه مصر.
فى هذا الإطار هناك نقاط حاسمة يجب التأكيد عليها حتى لا تتوه الحقائق فى هذه القضية الوجودية.
أولها أن مصر على مدى خمس سنوات من المفاوضات لم تطالب سوى بحقوقها المائية المحددة وفقا للاتفاقيات، وتعترف بها القوانين الدولية ويعرفها العالم كله وهى حصة ثابتة تمثل ٥٥ مليارا ونصف المليار متر مكعب مياه سنويا تصل إليها والجزء الأكبر منها من إثيوبيا من خلال النيل الأزرق، وليس هناك أى مجال للنقاش حول هذا الحق.
الثانى أن مصر وهى تدافع عن حقوق ثابتة تمثل حياة أو موتاً بالنسبة لها رفضت كل محاولات البعض للتصعيد أو استغلال الأمر للإضرار بالمصالح الإثيوبية بل تعاملت بطريقة حضارية، وأثبتت كل النوايا الحسنة فى هذا الأمر احتراما للعلاقات التاريخية وحرصا على مستقبل تسوده المودة والمصالح المشتركة، بل وقدمت كل ما يؤكد استعدادها لمساندة إثيوبيا فى تحقيق التنمية ومكافحة الفقر المنتشر فيها.
الثالث أن مصر تتحرك فى هذا الملف فى العلن، وتفضل اللجوء إلى الآليات الدولية المحترمة سواء بطلب التحرك من الأمم المتحدة أو قبول وساطات تمتلك القدرة على وضع حلول منصفة مثل الولايات المتحدة الأمريكية والبنك الدولى أو عبر تحركات دبلوماسية تؤكد الحقوق المصرية وتكشف تطورات المفاوضات وتحشد المجتمع الدولى للقيام بمسئولياته تجاه الأزمة وتأكيد حسن النوايا المصرية وحقها فى مياه النيل كمصدر وحيد للحياة.
الرابع أن البيان الذى صدر عن الاجتماع الوزارى العربى والذى تضمن التأكيد على التضامُن مع حقوق مصر المائية، والتأكيد على قواعد القانون الدولى، والدعوة للتوقيع على الاتفاق المُعَد بواسطة واشنطن وما يتضمنه من حل عادل متوازن كان جزءا من المساندة العربية المهمة لمصر فى هذا الملف دفاعا عن حق ثابت لها، ولذلك فإن ما تضمنه البيان الإثيوبى حول الموقف العربى ينطوى على إهانة غير مقبولة للجامعة العربية ودولها الأعضاء، لأنه مثلما أكد بيان الخارجية المصرية فإن تبنى الجامعة العربية لقرار يدعو إثيوبيا للالتزام بمبادئ القانون الدولى وعدم الإقدام على إجراءات أحادية من شأنها الإضرار بحقوق مصر ومصالحها المائية ما هو إلا إقرار بالمدى الذى باتت إثيوبيا تعتقد أن مصالحها تطغى على المصالح الجماعية للدول ذات السيادة الأعضاء فى الجامعة.
كما أن قرار الجامعة يعكس خيبة الأمل والانزعاج الشديد إزاء المواقف الإثيوبية طوال مسار المفاوضات، وأن المنهج الإثيوبى يدل على نية فى ممارسة الهيمنة على نهر النيل وتنصيب نفسها كمستفيد أوحد من خيراته.
الخامس أن الجانب الإثيوبى رغم كل هذه الحقائق يصر على المماطلة ومحاولات التنصل من التزاماته بشتى الطرق، وبشكل يعكس مخالفة واضحة للقانون الدولى والتزاماتها فى اتفاق المبادئ، وهو أمر يثير العديد من علامات الاستفهام ويكشف النوايا الإثيوبية فى الإضرار بالمصالح المصرية وهو ما لن تقبله مصر ولن تسمح بحدوثه.
السادس أن كل مؤسسات الدولة تعمل على متابعة ملف سد النهضة، لأن المسألة هى قضية حياة أو موت للمصريين.. ولذلك وكما أعلن مجلس الوزراء فإن اللجنة العليا لمياه النيل ستظل فى انعقاد دائم؛ لمناقشة تطورات هذا الملف، واتخاذ ما يلزم من إجراءات حياله على ضوء المواقف الإثيوبية غير المبررة وتغيبها عن اجتماع واشنطن.
وكذلك مناقشة خطة التحرك من أجل تأمين المصالح المائية المصرية، وحقوق مصر الثابتة فى مياه النيل.
وفى هذا الاتجاه أيضا تأتى تحركات وزارة الخارجية ووزيرها وجولته العربية والرسائل الرئاسية التى حملها السفير سامح شكرى وزير الخارجية من الرئيس السيسى للقادة العرب لتأكيد الحق المصرى وحرصه على التنسيق مع الأشقاء العرب فى تلك المفاوضات وهو ما يؤكد حرص مصر على المسار الدبلوماسى.
السابع أمر يجب أن يعلمه الجميع وفى مقدمتهم إثيوبيا وهو أن مصر لا تتحدث عن قضية رفاهية وإنما عن حق يمثل حياة أو موتا لها فمصر هى النيل، وكما يقول وزير الرى الدكتور محمد عبدالعاطى: «فقد تعدينا خط الفقر المائى، وتقلص نصيب الفرد من المياه إلى نحو ٦٠٠ متر مكعب سنويًا، تحت خط الفقر المائى، وأن ٩٧بالمائة من الموارد المائية لمصر تأتى من خارج مصر ومياه سطحية وجوفية، وأى تأثر خارجى بالتأكيد له أثر على مصر، وأننا نحتاج ١١٤ مليار متر مكعب مياه سنويا، وقابل للزيادة بناء على الزيادة السكانية، والمتاح هو ٦٠ مليار متر مكعب من المياه لنهر النيل ومياه جوفية ومياه الأمطار، ومن هذه الأرقام يتضح أن لدينا عجزا ٥٤ مليار متر مكعب مياه، ولو قمنا بزراعة ما نستورده من المحاصيل نحتاج إلى ٣٤ مليار متر مكعب من المياه، وكل هذا يعنى أن مياه النيل بالنسبة لمصر لا غنى عنها ولا يمكن قبول التفريط فى نقطة واحدة منها.
الثامن أن اتفاق المبادئ يفرض على الجميع التزامات محددة كان من الواجب أن يلتزموا بها، لكن وكما قال المتحدث باسم وزير الموارد المائية والرى محمد السباعى فإن بيان إثيوبيا بشأن ملء سد النهضة بالتوازى مع أعمال الإنشاءات يمثل خرقا لهذا الاتفاق لأن ملء السد بهذا الشكل إجراء منفرد يخالف القوانين والأعراف الدولية، فضلا عن مخالفة إعلان المبادئ الذى أبرم عام ٢٠١٥.
وكما يوضح السباعى فإن المادة الخامسة فى اتفاق المبادئ نصت صراحة على مبدأ التعاون فى الملء الأول وإدارة السد وتنفيذ توصيات لجنة الخبراء الدولية، واحترام المخرجات النهائية للتقرير الختامى للجنة الثلاثية للخبراء.
وكذلك أن تستخدم الدول الثلاث، بروح التعاون، المخرجات النهائية للدراسات المشتركة الموصى بها فى تقرير لجنة الخبراء الدولية والمتفق عليها من جانب اللجنة الثلاثية للخبراء، بغرض الاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد الملء الأول لسد النهضة والتى ستشمل كافة السيناريوهات المختلفة، بالتوازى مع عملية بناء السد.
كما أن اتفاق المبادئ تضمن أيضا التوافق على الخطوط الإرشادية وقواعد التشغيل السنوى لسد النهضة، والتى يجوز لمالك السد ضبطها من وقت لآخر، مع إخطار دولتى المصب بأية ظروف غير منظورة أو طارئة تستدعى إعادة الضبط لعملية تشغيل السد، لضمان استمرارية التعاون والتنسيق حول تشغيل سد النهضة مع خزانات دولتى المصب، سوف تنشئ الدول الثلاث، من خلال الوزارات المعنية بالمياه، آلية تنسيقية مناسبة فيما بينهم، لكن ما تعلنه التصريحات الإثيوبية يؤكد أنها تريد التنصل من كل هذه المبادئ التى التزمت بها وهو أمر غريب وليس له ما يبرره سوى النية فى إضرار مصر.
الدكتور هانى رسلان، رئيس وحدة دراسات السودان وحوض النيل بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، يؤكد أن مصر صاحبة حق واضح ولديها كل البدائل لحماية هذا الحق، لكنها ما زالت متمسكة بالنهج التعاونى للتوصل إلى اتفاق بشأن سد النهضة، ووزارة الخارجية المصرية دعت إثيوبيا إلى عدم الملء بشكل منفرد والعودة إلى توقيع الاتفاق، كما أن مصر فى موقف أفضل كثيرا لأن لديها الآن وثيقة عليها توافق بنسبة ٩٠ فى المائة على الأقل صاغها أطراف وسطاء محايدون دوليا هى الولايات المتحدة والبنك الدولى، وبالتالى الموقف المصرى قوة إقليميا ودوليا وهناك قناعة دولية بأن مصر تدافع عن حقوقها وحماية شعبها طبقا للأعراف والقوانين الدولية وتتمسك بتسوية سلمية سياسية وبنهج التعاون.
الأمر الثانى كما يقول رسلان إن مصر تبحث عن حل عادل متوازن لكل الأطراف، ولا تدافع عن مصلحتها على حساب مصلحة أى دولة أخرى، بل وتريد أن يقلل هذا الاتفاق الضرر على مصر ولا ينتهى بشكل كامل، وفى الوقت نفسه يوفر الفرصة لإثيوبيا لتوليد الطاقة والتنمية.
لكن إثيوبيا تسير فى اتجاه آخر وتريد الهيمنة والسيطرة بشكل منفرد على النيل الأزرق وهذا مخالف للقانون الدولى ويضع إثيوبيا فى موقع الدولة المارقة عن القانون الدولى، يلفت رسلان إلى أن مصر بدأت تنقل الملف للأطراف الدولية، واستصدرت قرارا من جامعة الدول العربية، كما أن خطاب إثيوبيا الدائم مليء بالأكاذيب والمغالطات التى جعلت مصر ترد عليها لتصحيح الأمور وكشف الحقائق ورغم أن مصر ترد على كل التصريحات بشكل قوى جدا وبحقائق لكنها متوازنة ومتسقة مع القانون الدولى.
أما إثيوبيا فهى بما تفعله تخرج على كافة الأعراف الدولية، فهناك حالة من الحماقة فى تصريحات إثيوبيا، التى لا تلقى قبولًا من أحد وواشنطن أعطت إشارات أنها مستمرة فى بذل الجهود لإعادة إثيوبيا للتوقيع على الاتفاق الذى تم التفاهم حوله.
وإذا كانت إثيوبيا أعلنت أنها ستبدأ فى ملء السد فى شهر يوليو فهناك أربعة أشهر باقية ستكون جرت مياه كثيرة فى النهر ومصر تحسب خطواتها بدقة ولا تحرق المراحل ولا تستجيب لأى استفزاز، لكنها تعطى إيماءات فقط، تؤكد أنها لن تفرط فى نقطة مياه من حقوقها الثابتة وكل مؤسسات الدولة المصرية تعطى الأولوية لهذا الملف ومصر ستستخدم كل الوسائل لحماية حقوقها وحماية أمنها القومي.
وقد يحدث أن تلجأ مصر إلى مجلس الأمن، لكن هذا يحتاج لتنسيق مسبق مع الدول الخمس أصحاب الفيتو لاستصدار قرار، وأيضا يستلزم قرارا من الولايات المتحدة الأمريكية لأنه لن يتم إلا إذا استنفدت الولايات المتحدة كل جهودها فى التشجيع والضغط على إثيوبيا للعودة للتفاوض، لأن الولايات المتحدة لديها عوامل تحفيز وأيضا عقوبات، فطالما التزمت الولايات المتحدة ببذل الجهود يجب استكمال هذه المرحلة أولا خاصة أن الجانب الأمريكى يقوم بدور جيد ومحايد يحقق التوازن.
يشير رسلان إلى أن المفاوضات تحتاج لنفس طويل، والولايات المتحدة الأمريكية ليست ضد مصالح مصر، وليست مع إثيوبيا، وقبل التدخل الأمريكى كنا وصلنا إلى طريق مسدود فى المفاوضات، لكن الدور الأمريكى أعاد الأمور إلى الطريق الصحيح ولولا محاولات التنصل الإثيوبى لكانت الأمور انتهت بما يحقق مصالح البلاد الثلاث، لكن ترامب لديه رغبة فى تحقيق تسوية عادلة وأجرى اتصالا بالرئيس السيسى بعد غياب إثيوبيا عن التوقيع على الاتفاق، وأكد ترامب للرئيس السيسى استمرار الجهود الأمريكية للتوصل إلى اتفاق، ووجه التحية لموقف مصر بعد توقيعها بالأحرف الأولى على اتفاق عادل ومتوازن وموقفها سليم مع الأعراف والقانون الدولى.
وهذا حراك كبير بالنسبة للملف، وخاصة أن المجتمع الدولى كان متعاطفا مع إثيوبيا فى البداية، عندما كانت إثيوبيا تردد أن مصر لا تريد النهضة لإثيوبيا وتريد أخذ النيل والسيطرة عليه لكن الآن بدأ العالم كله يدرك حسن النوايا المصرية وأن إثيوبيا هى التى لا تريد الاعتراف بحقوق مصر، وبالتالى مصر تسير فى طريقها الدبلوماسى للتوصل لحل عادل ومتوازن لجميع الأطراف مع عدم استبعاد أى خيار لحماية الأمن القومى المصرى.
الدكتورة أمانى الطويل، مدير البرنامج الإفريقى بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، تؤكد أن مصر تملك حقاً يؤيده العالم، وقد نجحت فى جلب الدعم الدولى لموقفها عبر التواصل الإقليمى والدولي، والتواصل بشكل خاص مع الإدارة الأمريكية وأعتقد أن هذا التحرك المصرى الهادف سيتم تطبيقه فى كل الاتجاهات، وننتظر ثمار هذا التواصل فى هذا المرحلة، خاصة أن الإدارة الأمريكية لها موقف متقدم وجيد.
الطويل تضيف أنه ربما أمامنا قدر من الوقت لانتظار نتائج التفاعلات المصرية، خاصة أن الموقف المصرى ثابت ومدعوم دوليًا وأمريكياً والكل متوافق على أنه لا ملء لبحيرة السد دون اتفاق الأطراف.
أما إعلان إثيوبيا أنها ستقوم بملء السد بلا اتفاق بعد ٤ أشهر فهذا يعنى عداء إقليميا ودوليا، وسيكون بيئة غير آمنة للسد سوف تتسبب فى قلق المستثمرين، لأن مشروع السد فى النهاية به استثمارات أجنبية ومشروعات زراعية، وبالتالى مشروع السد سيكون مستهدفا منه عوائد اقتصادية فى بيئة غير مستقرة سياسيا وهذا ليس فى المصلحة الإثيوبية الإستراتيجية، وبهذا أيضا ستكون إثيوبيا قد قامت بخرق القانون الدولى واتفاقية المبادئ التى وقعت عليها.
وأشارت الدكتور أمانى إلى أننا فى هذه المرحلة نتفاعل ونبدأ خططنا طبقا لنتائج التفاعلات التى بيننا وبين الأطراف على المستوى الإقليمى والدولى وأيضا بيننا وبين إثيوبيا، ولا أتوقع أن تكون القنوات قد أغلقت بين القاهرة وأديس أبابا، لأن القاهرة حريصة على العلاقات الودية والسير فى مسارات دبلوماسية.
وبعد توقيع مصر بالأحرف الأولى على مسودة الاتفاقية فقدت إثيوبيا هامش المناورة، خاصة أن مسودة الاتفاق محل اتفاق، والخطوات التى اتبعتها مصر ومازالت تتبعها هى خطوات الاتصالات الإقليمية والدولية لحشد التأييد لموقفها، ولن تنتقل مصر لخطوة أخرى إلا بعد تقييم نتائج هذه المرحلة.