جيل يسلم جيل والهدف بناء مصر
أبطال من ذهب
تقرير: أشرف التعلبى
إذا كان الحديث عن السد العالى يشعرك بالفخر والعزة.. فما بالك إذا كنت أحد المشاركين فى بناء هذا الصرح الشامخ الصامد، لتروى للأجيال حكايات مر عليها ٦٠ عاما.. مازالت عقول هؤلاء- بناة السد العالى- تتوقف عند هذه اللحظة التاريخية، التى ستظل مضيئة بأحرف من نور، والمسجلة بتاريخ ٩ يناير ١٩٦٠ عندما بدأت المرحلة الأولى للسد، والتى شملت حفر قناة التحويل والأنفاق وتبطينها بالخرسانة المسلحة وصب أساسات محطة الكهرباء وبناء السد حتى منسوب ١٣٠ مترا.
المهندس نبيل فوزى، أحد بناة السد العالى:
المهندس نبيل فوزى، أحد بناة السد العالى، الذى كان يبلغ من العمر ٢١ عامًا عندما كان يستقل القطار المتجه إلى أسوان، بعد أن وصله أمر تكليف للعمل فى مشروع السد العالى بعد تخرجه فى كلية الهندسة بشهر واحد، يقول: وقتها شعرت برهبة كبيرة وكنت أتخوف من الغربة والسفر لصغر سنى، لكن فى الحقيقة بعد أن وصلت إلى هناك، إلى أسوان، حيث مشروع السد العالى، شعرت بأهميتى ودورى فى المشاركة بمشروع قومى مهم مثل هذا.
يسترجع المهندس نبيل أول يوم له فى أسوان فيقول: وجدت سيارة تنتظرنا فى المحطة ونقلتنا إلى المشروع، وأول شخص قابلته المهندس صفوت شاهين، رئيس قطاع السدود وقتها، وبالفعل بعد ساعات فقط شاركت فى العمل بالمشروع.
ولا أنسى أول يوم عمل عندما قابلت بديع نجيب دينامو السد العالي، وتم تكليفى ببعض المسئوليات اليومية، وفى الحقيقة منذ اللحظة الأولى كنت أفضل الاعتماد على نفسى، ولا أريد أن أكون دون مسئوليات محددة لذلك لم أرغب فى العمل كمساعد دون مسئولية واضحة، ومن المواقف الطريفة، التى لا يمكن نسيانها أننى كنت أود أن يكون لى شخصية مع العمال فكنت أهتم بتكبير شاربى ليشعر العمال بوجودي.
المهندس نبيل فخور بأنه مازال يحتفظ بأوراق متناثرة من كشكوله، الذى كان يسجل فيه الملاحظات اليومية لبناء السد العالي، المسجل بخط يده على غلافها «ألف مبروك.. تم ردم آخر نقلة طمية بالنواة بتاريخ ١٠ أكتوبر ١٩٦٨ الساعة الرابعة».
يواصل نبيى الحكى: «استمر عملى بالمشروع أكثر من خمس سنوات، معظمها بالوردية الليلة، وكان دورى هى الإشراف على تنفيذ جسم السد نفسه، بالإضافة إلى قطاعات الحجر، وأيضًا النواة والإنفاق من خلالها نقوم بحقن للتربة، وهى التى تقوم بعمل اختبارات لجسم السد».
يسترجع المهندس نبيل الذكريات فيقول: كان بناء السد فيه مشقة كبيرة، لكن عندما نرى أن بناء السد يعلو طوبة فوق طوبة ننسى كل التعب ونشعر بالفخر.. ومن أجمل اللحظات فى حياتى عندما حصلت على نوط الاستحقاق من الطبقة الأولى عام ١٩٦٧ من الرئيس جمال عبد الناصر، لمساهمتى فى بناء السد، واللحظة الثانية، التى أتذكرها لحظة الوداع، عندما غادرنا موقع العمل عام ١٩٦٩ بعد سنوات من الكفاح، هذا اليوم لا يمكن نسيانه أبدًا، ودعت السد العالى بالدموع، يومها تم تكريمنا من قبل وزير الرى ووزير السد العالي.
لم يفكر المهندس الشاب وقتها فى الزواج بسبب إقامته الدائمة بالمشروع فى أسوان، لكنه تزوج بعد انتهاء المشروع.
ويقول: كان بناء السد ملحمة بمعنى الكلمة، آلاف الناس تعمل من عمال وفنين ومهندسين بشكل منظم ومنضبط مثل عقارب الساعة، ولم نر أى تعطل للعمل أو إهمال وتقصير، فى الحقيقة كان هناك تفان وإخلاص من الجميع لأنهاء المشروع، لأننا كنا ندرك أنه حلم وتحقيقه يمثل فخرًا لنا جميعًا، وفى بعض الأيام فى وردية الليل كنت أفاجأ بيد وزير السد العالى المهندس محمد صدقى سليمان فوق كتفى، ليطمئن على سير العمل، لم يكن هناك فرق بين عامل ومهندس، رغبة الإنجاز كانت تغلب على الجميع.
وفى الحقيقة الشعب كله كان يدعمنا فى الشارع وفى الإعلام، الجميع كانوا يدركون حجم وقيمة المشروع، خاصة أن الإعلام كان لها دور كبير أكبر من الوقت الحالى فى بث روح الانتماء لبذل المزيد من الجهد والعرق.
الآن وبعد ٦٠ عاما من وضع حجر الأساس يؤكد المهندس نبيل أن السد العالى يؤدى دوره على أكمل وجه منذ إنشائه، والسد حمى مصر من الفيضانات التى كانت تدمر القرى، ووفر لها المياه عند الجفاف، بالإضافة إلى دوره فى زيادة الرقعة الزراعية والصناعة والكهرباء، كما أنه ساهم فى إطالة عمر خزان أسوان، بعد تحمله لعقود من فيضانات عالية.
«عندما كنا نبنى السد كنا نتبع أدق التفاصيل لأننا نعلم تمامًا أن هذا السد عليه أن يستمر لقرون، وكان مخططا لبقاء السد العالى لـ ٤٠٠ سنة، وتم حساب هذه السنوات من خلال معادلات حسابية لمعدلات ترسيب الطمى إلى السد، لكن الآن بعد إنشاء سد النهضة سيزيد العمر الافتراضى للسد بسبب انخفاض معدل الطمي».
المهندس عبد الرحمن شلبى، أحد بناه السد:
حكاية آخرى لأبطال البناء يرددها المهندس عبد الرحمن شلبى، أحد بناه السد، فيقول: يوم تخرجى فى كلية الهندسة بجامعة القاهرة، وجدت إعلانا منشورا بجريدة الأهرام، كانت وزارة السد تطلب فيه مهندسين للعمل فى مشروع السد العالي، فتوجهت إلى مبنى الوزارة بشارع هدى شعراوى وسط القاهرة، وبالفعل قابلت وكيل الوزارة وطلب منى السفر غدا إلى أسوان، فطلبت فرصة لإقناع أسرتى لأتفق معهم، وبالفعل وافق أهلى، وسافرت بعدها بيوم برفقة مجموعة كبيرة كانت متوجهة إلى المشروع.
وأقمت بمستعمرة سكنية بالقرب من المشروع، وعملت لمدة خمس سنوات فى المشروع، قمت فيها بتنفيذ الانفاق ومحطة الكهرباء ثم عملت فى جسم السد.
المهندس شلبى يسترجع معنا نظام العمل اليومى عندما بدأ العمل فى تنفيذ المرحلة الأولى من السد فى ٩ يناير ١٩٦٠، وشملت حفر قناة التحويل والأنفاق وتبطينها بالخرسانة المسلحة وصب أساسات محطة الكهرباء وبناء السد حتى منسوب ١٣٠ مترا، فيقول: كنا نأخذ عينات يومية من كل متر خرسانات لمطابقته للمعايير، ولا يمكن نسيان دك الطين الأسوانى حسب معايير ميكانيكا التربة والأساسات، لقد كانت مهمتى اليومية هى الإشراف على الأعمال، التى تنفذها الشركات المنفذة، المقاولون العرب ومصر لأعمال الأسمنت المسلح.
وأثناء حديثنا ظل المهندس شلبى يردد كلمات أغنية عبدالحليم حافظ: «قلنا هنبنى وادى إحنا بنينا السد العالى، يا استعمار بنيناه بأدينا السد العالى، من أموالنا بإيد عمالنا، من أموالنا بإيد عمالنا، هى الكلمة وادى إحنا بنينا..»، قائلا: كانت لدينا إرادة ورغبة فى التحكم فى كل متر مكعب مياه يصلنا فى نهر النيل، ولا نريد إهدارها، وأيضا لنحمى القرى التى تغرق سنويا، وزيادة الأراضى الزراعية.
وللعلم مازال السد العالى يعمل بنفس كفاءته، وهذا يؤكد أن المصريين نجحوا فى ذلك، وأثبتوا للجميع قدرتهم على إنجاز أكبر المشروعات، و كان يوجد عطاء وإيمان بالبلد وولاء لثورة ٥٢ وللزعيم جمال عبدالناصر، وتحد للغرب، بعد أن سحب البنك الدولى عرضه فى ١٩٥٦ بسبب الضغوط الاستعمارية.. كل هذا جعل هناك إرادة سياسية وشعبية لبناء السد بأنفسنا ليعلم الجميع أن المصريين قادرون دون مساعدة من أحد.
وقتها كنا شبابا متحمسا مع الزعيم جمال عبدالناصر، وندعم مبادئ ثورة ١٩٥٢، فكان لدينا تحد للرد على الأمريكان لعدم دعمهم لنا فى بناء السد، ولا أحد ينكر دور الروس، الذين ساعدونا فى بناء السد، وتم تمويله وساعدونا بالخبراء والمعدات.
مازال المهندس شلبى يتذكر مرتبه الذى كان وقتها ٤٥ جنيها، والتى كان بالنسبة له مرتبا جيدا، مقارنة بزملائه بالقاهرة، حيث كانت مرتباتهم ٢٥ جنيها.
يقول المهندس شلبي: قابلت الزعيم جمال عبدالناصر مرتين، إحداهما عند افتتاح محطة الكهرباء، لتشغيل أول توربينة، ولا يمكن نسيان هذه اللحظة حيث كنت شابا وكان عبدالناصر قدوة لنا فى تجسيد الوطنية والانتماء والقومية.
انتهى عملى بمشروع السد العالى عام ١٩٧٠، بعد أن قضيت سنوات أعمل فيها ليل نهار بمشروع السد العالي، وهذا كان من ضمن السبب التى دفعتنى للإقامة وزوجتى بمنطقة كيما بأسوان.. ثم انتقلت طرابلس بناء على طلب من الرئيس الليبى معمر القذافى لبناء سدود لحصاد الأمطار فى ليبيا.
وعن المشروعات القومية الحالية يقول: المهندسون المسئولون عن المشروعات القومية الكبرى التى تنفذها الدولة الآن والوزراء الحاليون هم جيل ولد على إنجاز حققه الآباء الذين ساهموا فى بناء أكبر منشأة مائية، وأحدثت طفرة تنموية كبرى فى مصر، كما أن هذا الجيل استشرف مستقبله من جيل تحدى الجميع فى ظل ظروف اقتصادية كانت صعبة لتحقيق أهداف ثورة ١٩٥٢.
المهندس شلبى يختتم حديثه قائلا: مصر ولادة وجيل يسلم جيل، والجيل الجديد أكثر ثقافة وتطورا فى ظل التقدم التكنولوجي، وتستطيعون الآن تحقيق الكثير من الإنجازات، فكل شيء الآن أصبح بالكمبيوتر، وتضغط على الزر لتنفيذ الأوامر، لكن نحن كنا نعتمد على أيدينا وعقولنا، مصر بخير وستبقى بخير.