معظم عائلات الحاجر «الصعيد الجواني» تعرضوا لنفس الامتحان القاسى الذى تعرض له الشيخ محمد زكي، أمين لجنة المصالحات بالأزهر الشريف.. ولم ينجح فيه إلا القليل، يا ليت نفعل ما فعله.حكاية الشيخ محمد زكى مع الثأر لها أصل يؤهله للقب بطل القصة، بعد أن تعرض الرجل لامتحان قاسٍ عندما قُتل شقيقه وطالبته العائلة بالثأر، وهو رجل الدين الذى يعظ الناس بكلام الله عز وجل، غير أنه بمرور الأيام أبصر الحقيقة، وقرر عدم الإنصات للأصوات المطالبة بالأمر، ليس هذا فحسب، لكنه أخذ على عاتقه مسئولية توضيح المسألة لأفراد عائلته، وأبناء شقيقه الذين طالبوا بـ «ثأر أبيهم». اعتراه فى بداية الأمر ما يعترى كل إنسان مكلوم سُفِك له دم، خاصة إذا كان هذا الدم هو دم الأخ الشقيق، لكن أكرمه الله بالنفس اللوامة، فقال لنفسه: كيف يصح وأنا أدعو الناس إلى مكارم الأخلاق وفضيلة التسامح، بقوله تعالى: «من قتل نفساً بغير نفس أو فسادٍ فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا».
وقال لعائلته الثائرة «والله أنا بريء من هذا الدم، والله كل من يعتدى على هذا الولد آثم؛ لأنه من الأساس لم يكن لنا دم عندهم، وما حدث قتل شبه عمد، ولو كان عمدًا فالمنوط به أخذ القصاص ولى الأمر فى محكمة وقسم شرطة وطبيب شرعي، ولا يتم القصاص إلا إذا وثقت كل الأدلة، فالإبقاء على الحى خير من الإبقاء على الميت، والخطأ فى العفو أفضل من الخطأ فى تنفيذ العقوبة».ثاروا وغضبوا وفكروا أنه يميل إلى تحقيق أمنه وسلمه، فكان رده.. إن كانوا يظنون هكذا فبها نعمة، والله أريد أمنى من النار وسلامتى من عذاب الله، وكان هناك نفور من أبناء شقيقى إلى أن شاء الله بالصلح.
فى الحقيقة لم نتعلم شيئا فى الحاجر من قصته.. ومازلت وأنا أكتب هذا المقال أخشى وأشعر بضربات قلبى غير المطمئنة.. أن يتصلوا بى ليعلمونى أن أحدا من أبناء العمومة قتل.. لنعود ونسمع العديد لنسوة جنازات الصعيد الجواني.. «كنت فين يا وعد يا مقدر.. دى خزانة وبابها مسكر.. المعركة عيله.. والقتيل بيت».. «أنا كنت جلعانة وست الكل.. وصبحت ندمانة وشاربة المر.. أنا كنت جلعانة وست حريم.. صبحت ندمانة وشايلة الطين».
وقد شاهد الجميع ما حدث منذ أيام فى قرية «أبو حزام» التابعة لمركز نجع حمادى بمحافظة قنا، من مجزرة بالسلاح الآلى بسبب مشاجرة مسلحة بين عائلتى السعدية والعوامر، وإطلاق النيران على سيارة ميكروباص، راح ضحيته 11 شخصا بينهم نساء وأطفال وإصابة 6 آخرين بإصابات بالغة الخطورة.إن محاربة الثأر لا تقل أهمية عن محاربة الإرهاب أو محاربة فيروس «سى»، فالمئات بل الآلاف زُهقت أرواحهم ضحية الثأر اللعين، فى اعتقاد خاطئ بأن أخذ الثأر قصاص، فهدر دماء القاتل بالثأر هو الوجه المزيف للقصاص، فوضى دموية تحكمه تقاليد عصبية قبلية.
إن المنوط به أخذ القصاص ولى الأمر من خلال المؤسسات المعنية قضائية وتنفيذية، فنحن لا نعيش فى غابة وكل شخص يأخذ القصاص بنفسه، فمن اعتدى على من قتل أخاه أو ابنه أو أباه بالقتل يكون معتديا وآثما؛ لأنه خوَّل لنفسه أمرا لم يخوّله الله له، وبالتالى أخذ الثأر فيه حالة من تغييب للقانون وتضليل للعدالة، حتى لا تصل العدالة لمن قتل.
وهذه العقلية العصبية لن يكبح جماحها الدواعى الأمنية ولا ألف مدفع أو بندقية فوق رأس الثائر.. بل تحتاج لإرادة سياسية مكتملة الأركان، فالأزهر عليه أن يعد خطته لمواجهة الفكر وليس رد الفعل كما يفعل فى لجنة المصالحات، وأن تكون وزارة الأوقاف «بأئمة المساجد» واعظا للناس لبناء عقلية دينية متفتحة.
بينما على وزارة التربية والتعليم أن تعد مناهجها لتعليم الأبناء قيم التسامح وحب الآخر، وأننا نعيش فى وطن به قانون وليس غابة، كلٌ منا يأخذ حقه بيده، وأن تفتح وزارة الثقافة قصورها ومسارحها لمحاربة العنف الفكرى والعصبية القبلية.
وأن تقوم وزارة الشباب باستغلال الهمم فى تنمية القدرات وليس فى تفريغها فى المنازعات الثأرية، وأن تقوم وسائل الإعلام بدورها لا أن تأخذ من الظاهرة منبعا لنشرها فى المسلسلات والأفلام، فهناك بعض الأعمال الدرامية تنمى العنف من خلال تكريس أهمية امتلاك السلاح وربطه بقوة العائلة والقبيلة.. إن المقاصد السامية لا تبلورها الوسيلة الفاسدة.
أهل الصعيد بعد أن أرهقهم الثأر وكثرة الدماء ولم يجدوا من يوقفه ليس أمامهم الآن إلا أن يتمنوا من الرئيس عبدالفتاح السيسى أن يطلق مبادرة «صعيد بلا ثأر»، صعيد بلا أطفال تُيتَّم أو نساء تُرمَّل، وهناك العشرات من المبادرات الرئاسية التى نجحت مثل «حياة كريمة» والتى تجرى الآن فى كل ربوع الوطن، ومبادرة «سجون بلا غارمات» أو «مصر بدون عشوائيات»، أو القضاء على فيروس «سى»، وغيرها الكثير من المبادرات التى نجحت.
وبالحديث عن المبادرة الرئاسية «حياة كريمة» التى تجرى فى كل النجوع والكفور بتوفير حياة مناسبة لكل مصري، أتمنى أن يكون هناك مشروع قومى ثقافى يتوازى مع تطوير البنية التحتية فى هذه النجوع، فتوعية العقول ومحاربة الأفكار الهدامة ضرورة حتمية يفرضها علينا الواقع الذى نعيشه.فى النهاية أطفال ونسوة الحاجر يطمحون ويحلمون فى النوم واليقظة بقرية متسامحة تعيش فى سلام وهدوء دون طلقات من هنا وهناك وعويل ونواح يكسر حاجز الصمت ويعلو من حاجز الخوف والفزع.. لنبنى صعيدا جديدا بلا ثأر.
المصدر: الصحفي اشرف التعلبي
نشرت فى 1 مايو 2019
بواسطة elsayda
رئيس التحرير: أشرف التعلبي
نحارب الفقر- المرض- الامية -الثأر... هدفنا تنوير محافظات الصعيد- وان نكون صوت للمهمشين »