<!--<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"جدول عادي"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-qformat:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:11.0pt; font-family:"Calibri","sans-serif"; mso-ascii-font-family:Calibri; mso-ascii-theme-font:minor-latin; mso-fareast-font-family:"Times New Roman"; mso-fareast-theme-font:minor-fareast; mso-hansi-font-family:Calibri; mso-hansi-theme-font:minor-latin; mso-bidi-font-family:Arial; mso-bidi-theme-font:minor-bidi;} </style> <![endif]-->
حقيقة الإيمان عند الشيخ
-رحمه الله-
المبحث الأول
تعريف الإيمان عند الشيخ الألباني
-رحمه الله-
حقيقة الإيمان عند الشيخ
-رحمه الله-
المبحث الأول:
1- تعريف الإيمان عند الشيخ الألباني -رحمه الله-
1-1 تمهيد
بعد تتبعي أقوال الشيخ -رحمه الله- خرجت بنتيجة لا يختلف عليها اثنان وهي أن للشيخ قولين اثنين في تعريف الإيمان وإن اختلفا في اللفظ والتعبير، فقد اتفقا في المعنى والتأصيل.
ولتحديد وجه الاختلاف والاتفاق لا بد من تقديم منطوق كلامه -رحمه الله- على مفهومه، ومبيّنه على مجمله وإفراد كلّ قول بنصِّه ثم التأصيل بذكر حقيقة الإيمان عند الشيخ ولوازمه مُقَابَلاً بأقوال مَنْ وافقه أو خالَفَه في هذه الحقيقة أصلاً وفرعاً.
1-2 قولا الشيخ -رحمه الله- في تعريف الإيمان
القول الأول:
الإيمان؛ قول (لا إله إلا الله) معرفة وإذعاناً.
قال الشيخ -رحمه الله-: “... فإن الإيمان تسبقه المعرفة ولا تكفي وحدها، بل لا بد أن يقترن مع المعرفة الإيمان والإذعان، لأن المولى -عز وجل- يقول في محكم التنزيل: }فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ{ وعلى هذا، فإذا قال المسلم: لا إله إلا الله، فعليه أن يضمّ إلى ذلك معرفة هذه الكلمة بإيجاز ثم بالتفصيل، فإذا عرف وصدّق وآمن فهو الذي يصدُق عليه تلك الأحاديث التي ذكرتُ بعضها آنفاً ومنها قوله r: “من قال لا إله إلا الله نفعته يوماً من دهره”([7]).
وقال -رحمه الله-: “... لأن قوله: لا إله إلا الله لا ينفعه ما دام لم يوجد في قلبه شيء من الإيمان إلا على مذهب المرجئة الغلاة الذين لا يشترطون مع القول الإيمان القلبي”([8]).
التأصيل:
إن المتأمل في منطوق القول الأول للشيخ -رحمه الله- يخرج بالحقائق التالية:
أولاً: أن تعريف الإيمان عند الشيخ -رحمه الله- هو: قول: (لا إله إلا الله) معرفة وإذعاناً، ولو صغنا ذلك بعبارة أخرى فقلنا: قول واعتقاد لما اختلف المعنى.
ثانياً: لم يعتد الشيخ -رحمه الله- بالمعرفة المجردة، بل أضاف إليها الإذعان القلبي (قول القلب وعمله).
ثالثاً: أما عمل الجوارح فسيأتي موقف الشيخ منه بعد قليل -إن شاء الله-.
اعتراض مقبول:
قد يشكل ما تقدم من تأصيل على بعضهم ويصعب عليهم قبول هذه الحقيقة وهي؛ قيام الإيمان عند الشيخ -رحمه الله- على ركنين اثنين هما: القول والاعتقاد فقط. وعندهم ما يبرر هذا الإشكال، من ذلك:
أولاً: إن الشيخ -رحمه الله- عدّ من أخرج العمل عن ماهية الإيمان من المرجئة، وأنه مخالف للسلف حقيقة وليس صورياً.
ثانياً: إن الشيخ -رحمه الله- بيَّن في مواضع كثيرة فساد قول المرجئة بتقريره؛ زيادة الإيمان ونقصانه، وجواز الاستثناء فيه، وأنه ليس شيئاً واحداً.
وحتى ننصف الشيخ -رحمه الله- ونعدل في قضية طال الجدل فيها في حياته -رحمه الله- وامتدت بعد وفاته لا بُدّ من ذِكر النصوص التي أثارت الإشكال وأن نقابلها مع منطوق القول الأوّل.
القول الثاني للشيخ -رحمه الله- في تعريف الإيمان (الإيمان: قول واعتقاد وعمل).
قال الشيخ -رحمه الله- معلِّقاً على قول الطحاويّ
-رحمه الله-: “والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان”([9]).
قلت (أي الشيخ -رحمه الله-): “هذا مذهب الحنفية والماتريدية خِلافاً للسلف وجماهير الأئمة كمالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وغيرهم فإن هؤلاء زادوا على الإقرار والتصديق: العمل بالأركان وليس الخلاف بين المذهبين اختلافاً صورياً كما ذهب إليه الشارح -رحمه الله- بحجة أنهم جميعاً اتفقوا على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج عن الإيمان وأنه في مشيئة الله إن شاء عذّبه، وإن شاء عفا عنه، فإن هذا الاتفاق وإن كان صحيحاً فإن الحنفية لو كانوا غير مخالفين للجماهير مخالفة حقيقية -في إنكارهم أن العمل من الإيمان- لاتفقوا معهم على أن الإيمان يزيد وينقص وأن زيادته بالطاعة ونقصه بالمعصية مع تضافر أدلة الكتاب والسُّنة والآثار السلفية على ذلك.
ولكن الحنفية أصرُّوا على القول بخلاف تلك الأدلة الصريحة في الزيادة والنُّقصان، وتكلَّفوا في تأويلها تكَلُّفاً ظاهراً؛ بل باطلاً، ذكَر الشارِح (ص385) نموذجاً منها؛ بل حَكى عن أبي المعين النَّسفي أنه طَعَن في صحة حديث “الإيمان بضعٌ وسبعون شُعبة..” مع احتجاج كلّ أئمة الحديث به، ومنهم البخاري ومسلم في (صحيحيهما)([10]) وما ذلك إلا لأنه صريح في مخالفة مذهبهم!
ثم؛ كيف يصح أنْ يكون الخِلاف المذكور صُورِياً، وهم يُجيزون لأَفْجَرِ واحدٍ منهم أنْ يقول: إيماني كإيمان أبي بكر الصِّديق! بل كإيمان الأنبياء والمرسَلين، وجبريل وميكائيل -عليهم الصلاة والسلام-؟!
كيف وهم -بناءً على مذهبهم هذا- لا يُجيزون لأحدهم -مهما كان فاسِقاً فاجراً- أن يقول: أنا مؤمن -إن شاء الله تعالى-، بل يقول: أنا مؤمن حقاً! والله
-عز وجل- يقول: }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً{ [الأنفال: 2-4]، }وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً{ [النساء: 122].
وبناءً على ذلك -كُلِّه- اشتطّوا في تعصّبهم؛ فذكروا أنّ من استثنى في إيمانه فقد كفَر! وفرَّعوا عليه أنه لا يجوز للحَنَفيّ أن يتزوج بالمرأة الشافعية! وتسَامح بعضُهم
-زعموا- فأجاز ذلك دون العكْس! وعلَّل ذلك بقوله: تنْزيلاً لها منزلة أهل الكتاب!!
وأعرِف شخصاً من شيوخ الحنفية خطب ابنتَه رجلٌ من شيوخِ الشافعية، فأبى قائلاً: لولا أنَّك شافعيٌّ!
فهل بعد هذا مجال للشك في أن الخلاف حقيقيٌّ؟!
ومَن شاء التَّوسُّع في هذه المسألة فليرْجِع إلى كتاب شيخ الإسلام ابنِ تيمية: “الإيمان”؛ فإنه خيرُ ما أُلِّفَ في هذا الموضوع”([11]).
وقال -رحمه الله- في معرض ردّه على الطّاعن في مسند الإمام أحمد -رحمه الله-: “إن الرجل حنفي ماتريديّ المعتقد، ومن المعلوم أنهم لا يقولون بما جاء في الكتاب والسُّنة وآثار الصحابة من التصريح بأن الإيمان يزيد وينقص وأن الأعمال من الإيمان وعليه جماهير العلماء سلَفاً وخلَفاً ما عدا الحنفية؛ فإنهم لا يزالون يصرّون على المخالفة، بل إنهم ليصرحون بإنكار ذلك عليهم، حتى إن منهم من صرّح بأن ذلك رِدَّة وكفر -والعياذ بالله تعالى- فقد جاء في (باب الكراهية) من البحر الرائق -لابن نُجيم الحنفي- ما نصُّه (8/205): “والإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ لأن الإيمان عندنا ليس من الأعمال”([12]).
قال الشيخ معلِّقاً في الهامش ص33: “وهذا يخالف
-صراحة- حديث أبي هريرة أن رسول الله r سئل: أيُّ العمل أفضل؟ قال: “الإيمان بالله ورسوله..” الحديث أخرجه البخاري وغيره، وفي معناه أحاديث أخرى ترى بعضها في الترغيب (2/107)، وقد فصل شيخ الإسلام ابن تيمية وجه كون الإيمان من الأعمال وأنه يزيد وينقص -بما لا مزيد عليه- في كتابه الإيمان فليراجعه من شاء البسط.
أقول (والقول للشيخ -رحمه الله-): “هذا ما كنتُ كتبته منذ أكثر من عشرين عاماً مقرراً مذهب السلف وعقيدة أهل السُّنة -ولله الحمد- في مسائل الإيمان، ثم يأتي -اليوم- بعض الجهلة الأغمار والناشئة الصغار فيرموننا بالإرجاء!! فإلى الله المشتكى من سوء ما هم عليه من جهالة وضلالة وغثاء”.
التأصيل:
إن المتأمل في منطوق كلام الشيخ -رحمه الله- يخرج بما يلي:
أ- أن حقيقة الإيمان عنده هي: قول واعتقاد وعمل.
ب- أن العمل داخل في مُسَمَّى الإيمان.
ج- أن من أخرج العمل من حقيقة الإيمان مخالف لجماهير السلف.
د- أن الإيمان ليس شيئاً واحداً.
ه- أنه يجوز الاستثناء في الإيمان.
الجمع بين القولين:
عندما نتحدث عن حقيقة الإيمان عند السلف فإن المتبادر إلى الذهن من أقوالهم، قولهم بركنية كل من القول والاعتقاد والعمل في مسمّى الإيمان.
وإن المتبادر من منطوق كلام الشيخ -رحمه الله- في القول الأول قوله بركنية القول والاعتقاد، وأما قوله الثاني فيفهم منه قوله بركنية كل من القول والاعتقاد والعمل.
وأقدّم منطوق كلامه -رحمه الله- على مفهومه لما يلي:
أولاً: لم يترك الشيخ -رحمه الله- مجالاً لحمل مجمل كلامه على مبينه ولا تقديم مفهومه على منطوقه، بل وضَّحَ موقفه من العمل في مسمى الإيمان كما يلي:
أ- أنَّ العمل داخل في مُسمّى الإيمان حقيقة، ثم رتّب على ذلك قوله زِيادة الإيمان ونقصانه.
ب- أن العمل وإن كان داخلاً حقيقة في مسمى الإيمان فهو لا يعدو أن يكون شرط كمال فيه وليس ركناً كالقول والاعتقاد يستوي عنده جنس العمل وآحاده.
ج- أن ثمرة ذلك شاملة لما عندنا ولما عند الله -جل وعلا- فمن أقرّ بـ“لا إله إلا الله” معرفة وإذعاناً حكم بإسلامه وأجريت عليه الأحكام في الدنيا وبالنجاة له يوم القيامة ولو لم يعمل مطلقاً -كما سيأتي بيانه بنصّ أقوال الشيخ -رحمه الله-.
أقواله -رحمه الله- المؤيدة لذلك
أ- أكتفي بذكر أقواله المدونة في كتبه -رحمه الله-، أما ما سُجِّل له بصوته فأعرض عنه رغم موافقتها لما ثبت عنه كتابةً.([13])
ب- أما أقواله المكتوبة فمنها:
قوله -رحمه الله-: “.. ومنها قوله r: “من قال لا إله إلا الله، نفعته يوماً من دهره”؛ أي: كانت هذه الكلمة الطيبة -بعد معرفة معناها- منجية له من الخلود في النار
-وهذا ما أكرره لكي يرسخ في الأذهان- وقد لا يكون قد قام بمقتضاها من كمال العمل الصالح والانتهاء عن المعاصي ”.([14])
وقال أيضاً: “فإنَّ الأعمال الصالحة كلها شرط كمال عند أهل السُّنة، خلافاً للخوارج والمعتزلة القائلين بتخليد أهل الكبائر في النار مع تصريح الخوارج بتكفيرهم.
فلو قال قائل بأن الصلاة شرط لصحة الإيمان وأن تاركها مخلّد في النار فقد التقى مع الخوارج في بعض قولهم هذا، وأخطر من ذلك أنه خالف حديث الشفاعة هذا كما تقدم بيانه”.([15])
ووافق الشيخ -رحمه الله- على تعليق علي حلبي في هامش كتاب الشيخ (حكم تارك الصلاة) وقوله: انظر لزاماً فتح الباري (1/46).
وأما ما جاء في فتح الباري فتعليق ابن حجر
-رحمه الله- على قول السلف: “اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان” قال -رحمه الله-: “وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله ومن هنا نشأ لهم القول بالزيادة والنقصان”.([16])
الخلاصة:
لو حاولنا أنْ نَخرُج بتعريف موحَّد من قولي الشيخ -رحمه الله- لما استعصى ذلك علينا وبكل يسر نستطيع أن نقول:
الإيمان عند الشيخ -رحمه الله- (قول واعتقاد وعمل والعمل شرط في كماله)([17]).
هذا هو تعريف الإيمان عند الشيخ الألباني -رحمه الله- الذي لا مَحيد عنه عند من يعقل العربية ويعرف كلام العرب.
ولنا مع تعريف الشيخ هذا وِقْفَةٌ مِن ثلاثة جوانب:
الأول: من وافق الشيخ -رحمه الله- في العمل في مسمى الإيمان.
الثاني: مقابلة تعريف الشيخ -رحمه الله- بأقوال السلف.
الثالث: من أين أُتي الشيخ -رحمه الله-؟
الجانب الأول:
من وافق الشيخ -رحمه الله-؟
لم أجد أقرب لفهم الشيخ -رحمه الله- للعمل في مُسمّى وأنه شرط في كماله غير فهم الحافظ ابن حجر
-رحمه الله- من قول أبي عذبة الحسن بن عبد المحسن، حيث قال: “اعلم أن العمل ليس من أركان الإيمان خلافاً للوعيدية وليس ساقطاً بالكلية حتى لا تضر المؤمن معصيته خلافاً للمرجئة”.([18])
وبيّن البيجوري؛ أن المختار عند أهل السُّنة والجماعة (وهم عنده الأشاعرة) في الأعمال الصالحة أنها شرط كمال الإيمان.([19])
الجانب الثاني:
مقابلة تعريفه -رحمه الله- بأقوال السلف.
لقد تنوعت عبارات السلف في تعريف الإيمان، ومع ذلك لم يُنقل عن أحدهم القول إنّ الإيمان قول واعتقاد وعمل والعمل شرط في كماله.
فمِن السَّلف من قال: الإيمان: قول وعمل، ومنهم من قال: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، ومنهم من قال: قول وعمل ونية، ومنهم من قال: قول وعمل ونية وعمل بالسُّنة. فأين نجد قولاً واحداً عن أئمة السلف أن الإيمان: قول واعتقاد وعمل، والعمل شرط في كماله؟!
ولقد وضَّح شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- المقصود من عبارات السلف السابقة فقال: “إن من قال من السلف الإيمان: قول وعمل؛ أراد قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، ومن زاد الاعتقاد رأى أن لفظ القول لا يُفهَمُ منه إلا القول الظاهر، أو خاف ذلك فزاد الاعتقاد بالقلب، ومن قال: قول وعمل ونية قال: القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان، وأما العمل فقد لا يفهم منه النية فزاد ذلك، ومن زاد اتباع السُّنة؛ فلأن ذلك كله لا يكون محبوباً لله إلا باتباع السُّنة وأولئك لم يريدوا كل قول وعمل، إنما أرادوا ما كان مشروعاً من الأقوال والأعمال، ولكن كان مقصودهم الردّ على “المرجئة” الذين جعلوه قولاً فقط، فقال: بل قول وعمل، والذين جعلوه: أربعة أقسام فسّروا مرادهم كما سئل سهل بن عبدالله التستري عن الإيمان ما هو؟ فقالوا: قول وعمل ونية وسُنَّة. لأن الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كفر، وإذا كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق، وإذا كان قولاً وعملاً ونية بلا سُنُّة فهو بدعة”!!([20])
والسلف مع قولهم بركنية العمل في مسمّى الإيمان لا يجعلون ذلك متعلقاً بآحاده وأفراده كما هو الشأن عند الخوارج والمعتزلة([21]) وإنما حصروا ذلك بجنسه وأما آحاده وأفراده فقد فصَّلوا القول فيها؛ فمنها ما هو شرط في صحة الإيمان ومنها ما هو شرط في كماله والفيصل في ذلك نصوص الكتاب والسُّنة وفهم السلف أنفسهم.
مما تقدم نقرر الحقائق التالية:
أولاً: إن للشيخ -رحمه الله- منهجاً مستقلاً في فهم العمل في مسمى الإيمان مغايراً لفهم السلف.
ثانياً: إن موافقة الشيخ -رحمه الله- للسلف في القول بدخول العمل في مسمى الإيمان لا تعدو اللفظ المجرّد، أما في الحقيقة والثمرة فالخلاف قائم لما يلي:
أ- إن القول بدخول العمل في مسمى الإيمان حقيقة لازمه أن يكون جزءاً من الماهية وركناً فيه، وقد التزم السلف ذلك ولم يلتزم به الشيخ -رحمه الله-.
ب- إن القول بالشرطية لازمه أن يكون العمل خارجاً عن الماهية، لكن الشيخ -رحمه الله- لم يلتزمه، بل قال بدخوله (حقيقة) دخول شرط كمال، وهذا مخالف لتعريف الشرط.
ج- إن الشيء إما أن يكون ركناً في ماهية شيء ما وإما أن يكون شرطاً له، فإن كان ركناً فلا يمكن أن يكون شرطاً لذات الشيء الذي هو ركن فيه، وكذا لو كان شرطاً له فلا يمكن أن يكون جزءاً من ذلك الشيء الذي هو شرط له لأن الشرط خارج عن الماهية.
اعتراض مقبول ولكن...
قد يقول قائل: إن الشيخ -رحمه الله- وافق السلف في زيادة الإيمان ونقصانه.
فيقال له: هذا حق؛ فقد قال -رحمه الله- في تعليقه وشرحه على العقيدة الطحاوية راداً على الحنفية الماتريدية: “فإن الحنفية لو كانوا غير مخالفين للجماهير حقيقة في إنكارهم أن العمل من الإيمان، لاتفقوا معهم على أن الإيمان يزيد وينقص وأن زيادته بالطاعة ونقصانه بالمعصية.([22])
لكن ينبغي أنْ يُتَفَطَّن إلى أصل المسألة؛ فإن مبنى القول بالزيادة والنقصان عند الشيخ -رحمه الله- يختلف عن مبنى القول ذاته عند السلف؛ لأن قول كل منهما ناشئ عن فهم العمل في مسمى الإيمان.
إن القول بالزيادة والنقصان من لوازم القول بركنية العمل في مسمى الإيمان، كما أنه لازم من لوازم القول بشرطيته (شرط كمال).
لقد التزم السلف ذلك كما التزم القائلون بشرط الكمال هذا اللازم، ها هو البيجوري يقول بعدما عدّ الأعمال الصالحة من شرط الكمال: “فالتارك لها أو لبعضها من غير استحلال أو عناد للشارع أو شك في مشروعيته فهو مؤمن لكن فوّت على نفسه الكمال، والآتي بها ممتثلاً محصلٌ لأكمل الخصال”.([23])
فقوله -رحمه الله-: “...فهو مؤمن لكن فوّت على نفسه الكمال والآتي بها ممتثلاً محصل لأكمل الخصال” يؤكد ما قلناه.
ثم اقرأ قول الحافظ -رحمه الله- في الفتح (1/46): “اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان فأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله، ومن هنا نشأ القول بالزيادة والنقص”.
الجانب الثالث:
من أين أُتِي الشيخ -رحمه الله-؟
يرى بعضهم أن الشيخ -رحمه الله- في قوله إن الأعمال شرط في كمال الإيمان قد تأثر بما ورد عن الحافظ ابن رجب -رحمه الله- في فتح الباري (1/112) وبما ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام -رحمه الله- في كتابه الإيمان ص66 حيث قال: “فالأمر الذي عليه السُّنة عندنا ما نَصَّ عليه علماؤنا، مما اقتصصنا في كتابنا هذا، أن الإيمان بالنية والقول والعمل جميعاً، وأنه درجات بعضها فوق بعض، إلا أن أولها وأعلاها الشهادة باللسان كما قال رسول الله r في الحديث الذي جعله فيه بضعة وسبعين جزءاً، فإذا نطق بها القائل، وأقرّ بما جاء من عند الله لزمه اسم الإيمان بالدخول فيه بالاستكمال عند الله، ولا على تزكية النفوس، وكلما ازداد لله طاعة وتقوى ازداد به إيماناً”.
أما ما ورد عن ابن رجب -رحمه الله- فقوله: “ومعلوم أنّ الجنة إنما يستحق دخولها بالتصديق بالقلب على شهادة اللسان، وبهما يخرج من يخرج من أهل النار فيدخل الجنة”([24]).
قلت: والأظهر عندي تأثر الشيخ -رحمه الله- بفهم الحافظ ابن حجر -رحمه الله- لقول السلف في الإيمان: "اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان"، قال -رحمه الله-: “وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله”.
وسبب هذا الترجيح يعود إلى:
أ- أن الرأي الأول يقوم على الفهم والاحتمالية.
ب- أن منطوق كلام الشيخ -رحمه الله- يطابق منطوق كلام الحافظ ابن حجر -رحمه الله-.
ج- ثم لمكانة الحافظ ابن حجر -رحمه الله- عند الشيخ في قواعده وأصوله الحديثية.
فهم الحافظ ابن حجر في الميزان:
مهما يكن من أمر فإن فهم الحافظ ابن حجر -رحمه الله- للعمل في مسمى الإيمان ليس فيصلاً في المسألة للاعتبارات التالية:
أ- لمعارضة فهم الحافظ -رحمه الله- فهم السلف فإنهم يرون ركنية العمل في مسمى الإيمان لا شرطيته، ومع قولهم هذا فإنهم لا يجعلون ذلك متعلقاً بأحاده وأفراده كما هو الشأن عند الخوارج والمعتزلة وإنما حصروا ذلك بجنسه، أما آحاده وأفراده فقد فصل السلف القول فيه. فمنها ما هو شرط في صحة الإيمان ومنها ما هو شرط في كماله والفيصل في ذلك نصوص الكتاب والسُّنة وفهم السلف أنفسهم.
ب- ولما عُرِف عن ضبط الحد المنطقي للمحدود بأركانه المميزة له عن غيره لا بشروطه. فأركان البيت في المحسوسات، والإيجاب والقبول في البيع في المشروعات([25])، والقول والعمل في الإيمان -عند السلف- في الاعتقادات.
ج- لما عهد عن شرّاح الحديث المتأخرين عدم تحريرهم -غالباً- لمسائل الاعتقاد على منهج السلف الصالح.
جدول رقم (1)
العمل في مسمى الإيمان
السلف |
الشيخ |
البيجوري ومن معه |
الماتريدية |
العمل داخل في مسمى الإيمان حقيقة. |
العمل داخل في مسمى الإيمان حقيقة. |
العمل من الإيمان. |
العمل خارج عن مسمى الإيمان. |
العمل ركن في مسمى الإيمان، أو شرط صحة. |
العمل شرط في كمال الإيمان. |
العمل شرط في كمال الإيمان. |
العمل ليس ركناً وليس شرطاً في مسمى الإيمان. |
فرقوا بين جنس العمل وآحاده فجنس العمل ركن وفصلوا في أحاده. |
لم يفرق بين جنس العمل وآحاده، فكل منهما شرط في كمال الإيمان. |
لم يفرقوا بين جنس العمل وآحاده، فكل منهما شرط في كمال الإيمان. |
لم يفرقوا بين جنس العمل وآحاده، فكل منهما خارج عن مسمى الإيمان. |
الإيمان يزيد وينقص. |
الإيمان يزيد وينقص. |
الإيمان يزيد وينقص. |
الإيمان لا يزيد ولا ينقص. |
المبحث الثاني
ترك المأمور وفعل المحظور
عند الشيخ -رحمه الله-
المبحث الثاني
ترك المأمور وفعل المحظور
عند الشيخ -رحمه الله-
2-1 تمهيد
بعد أن وقفنا على تعريف الإيمان عند الشيخ
-رحمه الله- وتبين لنا -بنصِّ أقواله -رحمه الله- استقلاله بتعريف مغاير تعريف السلف يجدر بنا أن نذكر ثمرة هذا التعريف على الواقع من حيث الحكم على تارك المأمور وفاعل المحظور.
2-2 ترك المأمور
تمهيد:
لم يفرق الشيخ -رحمه الله- بين ترك العمل بالكلية وبين ترك آحاده الواجبة أو المستحبة، بل الكل عنده سواء من حيث أثر ذلك على الإيمان.
فمن ترك المأمور مطلقاً أو العمل مطلقاً أو ترك واحداً من آحاد العمل الواجبة فهو مؤمن ناقص الإيمان -كلٌّ بحَسْبه- وهذه الثمرة تلتقي مع كون العمل عنده -رحمه الله- شرطاً كمالياً في الإيمان وليس ركناً فيه.
وموقفه هذا يقابل موقف الماتريدية الذين يرون تمام إيمان من ترك العمل مطلقاً.
وإذا كان ترك العمل بالكلية -عند الشيخ -رحمه الله- لا يؤثر على مطلق الإيمان فينقضه فليس عنده من آحاده ما يرقى إلى شرط الصحة فيبطل مطلق الإيمان بتركه، كترك الصلاة، أما القيود التي اعتدّ بها الشيخ -رحمه الله- حتى تكون حاكمة على من قامت فيه بالكفر فسنذكرها في المبحث الثالث -إن شاء الله تعالى-.
أقواله -رحمه الله- في ذلك:
أ- ترك العمل مطلقاً عند الشيخ -رحمه الله-نقص في الإيمان:
استدل الشيخ -رحمه الله- على إثبات مطلق الإيمان لمن ترك العمل بالكلية ونجاته يوم القيامة بحديث أبي سعيد الخدري t قال: قال رسول الله r: “إذا خلص المؤمنون من النار وأمنوا، والذي نفسي بيده ما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له في الدنيا بأشد من مجادلة المؤمنين لربِّهم في إخوانهم الذين أُدخِلوا النار.
قال: يقولون: ربّنا! إخواننا كانوا يُصَلّون مَعَنا، ويَصومون معنا، ويحجُّون معنا ويجاهدون معنا، فأدخلتهم النار!
قال: فيقول: اذهبوا، فأَخرِجوا مَن عرفتم منهم.
فيأتونهم؛ فيعرفونهم بصورهم، لا تأكلُ النَّارُ صورَهم، لم تَغشَ الوجهَ، فمنهم من أخَذَته النار إلى أنصافِ ساقيه، ومنهم من أخذَتهُ إلى كَعبيه، [فيُخرِجونَ منها بَشَراً كَثيراً]، فيقولون: ربَّنا! قد أخرجنا من أمرتنا.
قال: ثمّ يَعودونَ فيتكلمون فيقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال دينارٍ من الإيمان.
فيخرجون خلْقاً كثيراً ثم يقولون: ربَّنا لم نذَر فيها أحداً ممن أمرتنا.
ثم يقول: ارجِعوا فمن كان في قلبه وزنُ نصف دينار فأخرجوه، فيُخرِجون خلْقاً كثيراً، ثم يقولون: ربَّنا لم نذَر فيها ممن أمَرتنا.. حتى يقول: أخرجوا من كانَ في قلبِه مثقالُ ذرّةٍ فيخرجون خلقاً كثيراً.
قال أبو سعيد: فمَن لم يُصدِّق بهذا الحديث فليقرأ هذه الآية: }إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً{.
قال: فيقولون: ربَّنا أخرَجنا من أمَرتنا، فلم يبْقَ في النارِ أحدٌ فيه خيرٌ!
قال: ثم يقولُ الله: شَفَعتِ الملائكة، وشفَعَت الأنبياءُ، وشفَعَ المؤمنون، وبَقِيَ أرحمُ الراحمين.
قال: فيقبضُ قبضةً من النار - أو قالَ: قبضتين- ناساً لم يعملوا لله خيراً قط، قد احترقوا حتى صاروا حِمَماً.
قال: فيُؤتى بهم إلى ماءٍ يُقال له (الحياة)، فيُصبُّ عليهم، فيَنبُتون كما تنبت الحبَّةُ في حميلِ السَّيلِ، قد رأيتموها إلى جانب الصَّخرة، وإلى جانب الشجرة، فما كان إلى الشَّمس منها كان أخضر، وما كان منها إلى الظِّل كان أبيض.
قال: فيخرجون من أجسادهم مثل اللؤلؤ، وفي أعناقهم الخاتم، (وفي رواية: الخواتم)، عُتَقاءُ الله.
قال: فيقالُ لهم: ادْخلوا الجنَّةَ؛ فما تَمَنَّيتُم ورأيتم من شيء لهو لكم ومثله معه، فيقول أهل الجنّة: هؤلاء عُتقاءُ الرَّحمن، أدخَلَهم الجنَّة بغير عملٍ عَملوهُ ولا خير قدَّموه.
قال: فيقولون: ربَّنا! أعطيتنا ما لم تُعطِ أحداً من العالمين!
قال: فيقول: فإنَّ لكم عندي أفضلَ منه!
فيقولون: ربَّنا! وما أفضلُ من ذلك؟
قال: فيقول: رضائي عنكم، فلا أسخطُ عليكم أبداً”([26])
قال -رحمه الله- بعد تخريجه هذا الحديث: “في هذا الحديث فوائد جمة عظيمة منها: شفاعة المؤمنين الصالحين في إخوانهم المصلين الذين أدخلوا النار بذنوبهم، ثم بغيرهم ممن هم دونهم على اختلاف قوة إيمانهم.
ثم تفضَّل الله تبارك وتعالى على من بَقِي في النار من المؤمنين، فيُخرجهم من النار بغير عمَل عملوه، ولا خيرٍ قدَّموه.
ولقد توهَّم بعضهم أنَّ المرادَ بالخير المنفيِّ تجويزُ إخراج غير الموحِّدين من النار!
قال الحافظ في “الفتح” (13/429): “ورُدّ ذلك بأنّ المراد بالخير المنفيِّ ما زادَ على أصلِ الإقرار بالشهادتين كما تدلُّ عليه بقيَّة الأحاديث”.
قلت: منها قوله r في حديث أنس الطَّويل في الشفاعة أيضاً: “فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وقُل تُسمَع، وسَل تُعطَ، وا�
ساحة النقاش