جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
(جنون حبيبي) ..روعة محسن الدندن.. سوريا
قراءة في قصيدة للشاعرة السورية ميساء زيدان
في أحد الحوارات مع الناقد والشاعر العراقي حسين عوفي
كنا نتداول جمالية موسيقى البحر الكامل وانسيابته على الأذن فقرأ لي قصيدة (جنون حبيبي) فسألته لمن هذه القصيدة؟ كون القصيدة أعجبتني جداً
فكانت قصيدة من ديوان (أراجيح الشعر) وهو الإصدار الثالث لشاعرة ميساء زيدان عن دار ليندا لطباعة والنشر/سوريا. السويداء
هذه القصيدة علقت في ذاكرتي, حتى وقعت بين يدي لأقرائها عدة مرات وأعدت القراءة كلما تاقت نفسي لجميل من الشعر والحسن من الصور والعميق من المشاعر والشفيف من المعاني وكأن الشاعرة تمزج النار بالثلج وتزف مواسما لعشقٍ تمتد جذوره في أعماق قصص العشاق الخالدين
تمهيد..
الغزل والتشبيب والنسيب من الأغراض الشعرية المعروفة منذ العصر الجاهلي ولازال يحتل مساحةواسعة من ذائقة التلقي فلا يكاد شاعر أو اصدار إلا ونظم في الغزل
وهنا أحاول في هذه السياحة النقدية أن أوضح معاير مهمة منها التقليد على صعيد الشكل(الوزن والقافية) والتعبير بصورة متجددة على صعيد المضمون لنوضح كيف تمكنت الشاعرة من تحقيق ذلك. فنجحت شكلاً ومضموناً من خلال ماتمتلكه من أدوات ليكون بالتالي عملاً أدبياً يستحق التقدير والتأمل.
1ـ المستوى البلاغي
استخدمت الشاعرة أدوات الإستفهام (من أين؟.كيف أتيت؟.من أرسلك؟ ماالإسم والعنوان؟ من أي كون أو مدارٍ أو فلك؟)
هذه الإستفهامات دلالة الحيرة والتقرير وفي ذات الوقت تجعل المتلقي في حقل شاسع من التأويل وعلى المستوى الدلالي جسدت الشاعرة صورة عميقة لحالتها والتي تتطلب الإجابة ولا جواب
فجرت مابين الجوارح منهلك
وجرفت سد الجأش في آن هلك
فاض الذهول على معاقل دهشتي
من أين؟كيف أتيت؟ قل من أرسلك؟
فالشاعرة هنا قلبت المعادلة فجعلت النتيجة في البيت الأول لنسير معها نحو البداية
2ـ تحليل القصيدة
ارتكز مضمون القصيدة على الهيام, وهو أعلى درجات الصبابة يتمثل ذلك بما أوردته من استعارات في البيت الثاني.. فجرت مابين الجوارح منهلك....جرفت سد الجأشِ..
ثم تأتي بالإنزياح بالمفردات وبشكل متناسق...فاض الذهول.. على معاقل دهشتي...
ثم تتوالى الإستفهامات من أين؟ كيف أتيت؟ قل من أرسلك؟
بمعنى أنها في حيرة حقيقية وقد استحوذ عليها هذا العشق القاتل, لتعيدنا إلى أشعار مجنون ليلى وعنترة بن شداد وكُثير عزة وجميل بثينة وكثير من العشاق الشعراء
هذه المناجاة وإن انطلقت من الذات الشاعرة قد تكون تجربة شخصية عبر ماحملته من عمق المشاعر والمعاني, وقد تكون من وحي الخيال لكنها ترتبط بواقع العشق ارتباطاَ وثيقاَ وكأن الشاعرة تقول:أن العشاق في أي زمان لا ينفلتون من قبضة العشق وهاهنا يحضرني الشاعر عروة بن حزام قائلا:
وماعجبي موت المحبين في الهوى
ولكن بقاء العاشقين عجيب
وأني لتعروني لذكراك رعدة
لها بين جسمي والعظام دبيب
وهنا أذكر بيتاً يحمل نفس المضمون لشاعر العراقي حسين عوفي
وأنتَ سناء العين مالاح مثله
وأنتَ الذي في القلب نبضي كله
هذا الإرتكاز الذي وقفت عليه الشاعرة كغرض رئيسي تمثل في ألفاظ وعبارات في حقول دلالية :
أليف ـ ألفاظ دالة على ذات الشاعرة (مابين جوانحي ـ سد الجأش ـ معاقل دهشتي ـ أقصيت ـ تحتلني ـ أنا لست شاعرةـ قلبي)
أما على المستوى التركيبي للجمل الشعرية نجد ترابطاً وثيقاً بين الصدر وعجزه مما يؤكد مهارة الشاعرة في النظم بإتجاه نسج المعنى ليكتمل في القافية وبذلك تكون قد اتبعت ما دأب عليه الشعراء الأوائل, وحققت دهشة من خلال هذا العشق المتمكن منها أن يتوالد مواسمَ لربيع عشقٍ دائم
أـ ألفاظ تدل على الشكوى (العيون السابيات,اللبَ, ناداك قلبي ليسألك)
ب ـ تناسق الأفعال(فجرت, جرفت, فاض الذهول, أقصيت, فتمغطَ,تحتلني, هلك, أرسلك, عاد لك, تخللك)
3ـ الإستنتاج
إن المادة اللغوية بحد ذاتها أداة بإيصال مايعتمل في ذات الشاعرة فالحقول الدلالية هنا ترتبط بالعشق وإلى أقصى الصبابة انسابت على شكل تساؤلات قد لا تليها جواب لتمور روح الشاعرة في حقل المعاناة لكنه برغم العناء يبدو جميلاً
لتعيد للأذهان (ومن الحب ماقتل)
القصيدة شكلاً ومضموماً جسدت صوراً عميقة الدلالات لتجربة شعرية تستحق التأمل والتقدير سواء كانت افتراضية من صنع الخيال أو واقعية من نسج الحال وهنا نلتمس نظرة الشاعرة لهذا الشيء العجيب الذي تملك العقول والقلوب فيتبعه راغباً رغم قساوة الرحلة وثقل العناء.
من ناحية الخصائص المعجمية نجد المفردات تشكل معانيها على شكل تساؤلات بإسلوب بلاغي وبمستوى عالي, وألفاظ سلسلة شفافة غير معقدة أدت معانيها بكل رشاقة ودقة
4ـ الإيقاع الخارجي
اختارت الشاعرة الوزن من البحر الكامل فكان اختيارها موفقا لملائمته لموضوع القصيدة وأعانها في التعبير بشكل جميل إضافة لوجود موسيقى داخلية حصلت من خلال تكرار بعض الألفاظ المتضمنة حرف التاء واللام والكاف وكأنها لازمة موسيقية واكبت الموسيقى الخارجية كضربات منعشعة ليؤدي استخدام التوازي الصوتي في أكثر من بيت (فجرت ما.. وجرفت سد, من أنت.. من لاشبيهك في.. هذه الأناقة, والنظارة...ماالإسم ماالعنوان)
5ـ الصور الفنية
استطاعت الشاعرة من خلال تلك التساؤلات أن تجعل الصور مفتوحة من غير إطار يحكمها
أـ استخدامها التشبيه بشكل متقن وجيد
ب ـ استخدام الإستعارة بشكل موفق ومنطقي
الخاتمة ...
اتبعت الشاعرة ميساء زيدان تقاليد القصيدة العربية في المميزات اللغوية والأدوات الفنية والبلاغية وأضفت عليها طابع الحداثة جمالياً حيث لمسناه على مستوى الألفاظ والعناية بالصياغة والإنزياحات كما اعتمدت الشاعرة طريقة التسجيم في الصور الفنية من خلال ربط المحسوس بالمجرد وهذا لا يتحقق دون جهد وعاطفة جياشة وخيال خصب.
أرجو أن تكون هذه القراءة المتواضعة قد نجحت في تقديم عمل أدبي استوفى شروطه ومعايره الأدبية والفنية(جنون حبيبي)
جنونُ حبيبي
للشاعرة:ميساء زيدان
من ديوان:أراجيح الشعر.
1.فجّرتَ مابينَ الجوانحِ منهلكْ
وجرفتَ سدَّ الجأشِ في آنٍ هلكْ
2.فاضَ الذهولُ على معاقلِ دهشتي
من أين؟ كيفَ أتيتَ؟قل من أرسلك؟
3.أقصيتُ عنكَ الفِكرَ نحوَ سديدِهِ
فتمغنطَ الفكرُ السبيُّ وعاد لك
4.أيُّ البقاعِ تركتَ كي تحتلني
يامن جنونك جُلَّ أوردتي سلك
5.من أنت؟ يامن لاشبيهك في الورى
كيف استملتَ الشعرَ حينَ تخللك؟
6.سبحان من جعل الخلائقَ حُلةً
كزجاجةِ العطرِ الرقيقةِ فصّلك
7.هذي الأناقةُ والنظارةُ والعيو
نُ السابياتُ اللبَّ ذي من أين لكْ؟
8.أنا لستُ شاعرةً وذا قلبي الذي
ناداكَ مابينَ الزحامِ ليسألكْ
9.أتراك إنساً في قواميس الورى؟
كلا، فمثلك لايكون سوى مَلَكْ
10.ماالإسمُ ؟ماالعنوانُ؟كيفَ أتيتني؟
من أي كونٍ أومدارٍ أو فلكْ؟
المصدر: الأديبة / روعة محسن الدندن - سوريا
الموقع الرسمى لجريدة أحداث الساعة - رئيس التحرير: أشرف بهاء الدين
ساحة النقاش