كيـف نتعامـل مـع الأزمـة الاقتصـاديـة الراهنـة؟

<!heade>
ما يلي لا يزيد علي اجتهاد للتعامل مع الأزمة المالية والاقتصادية العالمية الراهنة التي ربما ستكون أشد الأزمات التي واجهناها خلال العقود والسنوات السابقة‏.‏ فالمعضلة التي نواجهها لها جوانب متعددة‏,‏ فالاقتصاديون علي اختلاف توجهاتهم لا يبدو عليهم أنهم أمسكوا بتلابيبها تعريفا وتحديدا‏,‏ بل إنهم علي الأرجح لا توجد لديهم الأساليب والأدوات العلمية التي تسمح لهم بالتعرف علي أزمة في ظل تطورات غير مسبوقة في تاريخ العالم من حيث حالة العولمة والتغيرات التكنولوجية المذهلة التي أعادت تعريف الزمان والمكان‏,‏ ومعهما بالطبع السوق‏.‏

والمعضلة الأخري أن الأزمة لاتزال مستمرة‏,‏ ولا يعرف أحد متي سوف تصل‏(‏ كما يقال‏)‏ إلي قاعها‏,‏ أو أسوأ حالتها التي تكون هي نفسها النقطة التي يبدأ منها الانطلاق‏,‏ وبات كل ما نعرفه أن الاقتصاد العالمي يسقط في هوة سحيقة لم يظهر لها حتي الآن قاع‏.‏

وفي وقت من الأوقات قيل لنا إن المشكلة هي فقدان الثقة في الأسواق‏,‏ وإن كل ما نحتاجه هو درجة من درجات التدخل الحكومي‏,‏ وكانت النتيجة أن سعت الحكومات فرادي ومجتمعة إلي التدخل‏,‏ ورصدت الأموال كما لم ترصد في تاريخ البشر‏,‏ ومن المليار إلي التريليون‏,‏ ووضعت القواعد وصدرت الأوامر‏,‏ لكن الهبوط استمر‏,‏ وانتقلت الأزمة من العقارات إلي البنوك إلي شركات التأمين والمال والبورصات حتي وصلت إلي صناعات السيارات والطائرات‏,‏ والقائمة بعد ذلك للشركات والصناعات والمنتجات والخدمات طويلة‏,‏ ومنها ما أصيب بالداء‏,‏ ومنها ما ينتظر‏.‏

وسط ذلك كله فإننا نحتاج كمجتمع ودولة‏,‏ حكومة ومعارضة‏,‏ إلي قدر كبير من رباطة الجأش والتواضع في إبداء الرأي‏,‏ وطوبي لمن قال لا أدري فقد أفتي بما لا يضر الناس وأبقي الباب مفتوحا لما ينفعهم‏.‏ وإذا كانت الحالة العالمية غير مفهومة‏,‏ والظرف الدولي غامض‏,‏ والباحث فيه عن الحقيقة كمن يبحث عن قطة سوداء في غرفة مظلمة‏,‏ فإن واجبنا يبدأ من حيث نعرف حالتنا التي باتت واضحة خلال الأسابيع القليلة الماضية والتي تقول إن كل ما له علاقة بالخارج من صادرات‏,‏ بما فيها النفط والغاز‏,‏ وسياحة ودخل قناة السويس‏,‏ وعائدات المصريين في الخارج سوف تتأثر سلبيا وبشدة من الأزمة الحالية‏.‏

وعلي الجانب الآخر إن ما حاولناه خلال الأعوام الماضية من تحقيق معدلات نمو مرتفعة تتراوح حول‏7%‏ من الناتج المحلي الإجمالي سوف تهبط‏,‏ وفي حديث تليفزيوني لوزير المالية الدكتور يوسف بطرس غالي قدر أن معدل النمو المصري سوف يتراوح بين‏5.5%‏ و‏6%,‏ ومنذ أيام أعلن الدكتور عثمان محمد عثمان وزير التنمية الاقتصادية أن معدل النمو خلال الربع الأول من العام المالي الحالي بلغ‏5.8%,‏ لكن الربع الأول من العام المالي الحالي شمل أشهر يوليو وأغسطس وسبتمبر‏,‏ أي قبل أن تبدأ الأزمة في صورتها الراهنة في منتصف سبتمبر‏,‏ واستحكامها خلال ما تلا من أشهر وأيام‏,‏ ومعني ذلك أن معدل النمو ربما يقل عن التقديرات الحكومية التي استندت إلي ما هو متاح من معلومات عن العاصفة في أيامها الأولي‏,‏ بل إن المرجح أن الحقيقة في معدل النمو سوف تكون أقرب لما تقول به مؤسسات دولية مرموقة من أن التقديرات الأولية لمعدل النمو المصري سوف تدور حول‏3%‏ فقط هذا العام‏,‏ وهو ما يشكل انقطاعا وانكسارا لأهم المنجزات الاقتصادية المصرية خلال السنوات الأخيرة‏.‏

لكن كل هذه التقديرات المتشائمة تقوم علي فرضية أساسية‏,‏ وهي بقاء الأمور علي ما هي عليه‏,‏ ووفق السياسات المعلنة حتي الآن‏.‏ وللأسف وبرغم الاجتماعات المستمرة للحكومة والسلطات العامة مع نفسها‏,‏ أو مع المستثمرين المصريين بأشكالهم المختلفة‏,‏ فإنه لم تظهر حتي الآن استراتيجية واضحة للحكومة للتعامل مع الأزمة الراهنة‏,‏ وفيما عدا المبادرة التي ظهرت حول إدارة أصول الدولة‏,‏ التي هجمت عليها المعارضة بشراسة‏,‏ فإنه لم توجد لدي الحكومة ولا المعارضة سياسة لتقليل الآثار السلبية للأزمة‏,‏ أو حتي يكون فيها طموح الحفاظ علي معدلات النمو العالية‏,‏ أو ما هو قريب منها‏,‏ وكان كل ما حصلنا عليه كما إضافيا من الضجيج والأصوات العالية‏,‏ بينما السفينة المصرية معرضة بالفعل لأخطار حقيقية وجسيمة نتيجة ظروف وأوضاع خارجية تعصف بكل دول العالم بأشكال مختلفة‏.‏

وفي العادة فإنه عندما تسود العواصف الرملية المختلفة‏,‏ وتسيطر الأتربة علي الشوارع‏,‏ فإن الناس تلوذ بالبيوت‏,‏ بمعني أنها تذهب إلي حيث تكون المعرفة كافية‏,‏ وحيث هناك ما يكفي من الحوائط للحماية والإنقاذ‏,‏ وتكاد تجمع كل دول العالم علي ضرورة توفير حوافز داخلية قوية للأسواق حتي تتوقف عن تراجعها‏,‏ وهي حوافز تقوم علي إتاحة مزيد من الفرص للإقراض‏,‏ سواء للاستهلاك أو للاستثمار‏,‏ بمعني تحريك جانبي العرض والطلب في آن واحد مع بث الثقة في المؤسسات من جديد‏.‏ ويعول كثيرون في العالم أن تتولي السوق الصينية إنقاذ الاقتصاد العالمي كله من خلال إدخال مئات الملايين من المستلهكين الجدد إلي السوق العالمية بحيث يتولون إنعاش الاقتصاد العالمي من خلال طلبهم علي السلع والخدمات الجديدة التي يطلبونها‏.‏

وربما كان ذلك هو ما نحتاجه في مصر‏,‏ فالأفكار الذائعة حتي الآن تركز علي جانب العرض من خلال الاستثمارات العامة والحكومية في البنية الأساسية‏,‏ أو حتي الاستثمارات العامة المباشرة‏,‏ وتحفيز المستثمرين‏,‏ سواء بإعفاءات ضريبية أو منحهم أرضا رخيصة أو رفع مقت وغضب الحكومة والبيروقراطية عنهم‏,‏ وهو علي عكس ما هو شائع مقت وغضب شديد‏.‏ ومثل هذه الإجراءات كلها لا بأس بها حتي ولو كان ستصاحبها معارضة إعلامية وسياسية كبيرة‏,‏ لأن ثمن الحرمان منها سيكون تراجع الاقتصاد المصري كله‏,‏ لكن جدواها في التنمية الاقتصادية سوف تكون محدودة ما لم تكن مصحوبة بخطوات أخري لتحفيز الطلب علي المنتجات من قبل مستهلكين جدد لم يدخلوا السوق المصرية من قبل‏.‏

وهنا فإن هناك مخزونا كبيرا من المصريين الفقراء أو محدودي الدخل أو حتي من المستوردين الذين يمكن إدخالهم إلي السوق إذا ما أتيحت لهم فرص عمل من الأصل‏,‏ أو فرص عمل أفضل تعطي أجورا مرتفعة‏,‏ أو أتيح لهم التمتع باستهلاك أنواع من المنتجات لم تتح لهم من قبل‏,‏ معني ذلك هو تعميق السوق المصرية بحيث يحل السائح المصري محل السائح الأجنبي‏,‏ وتتاح له الخدمة نفسها وبالأسعار الرخيصة نفسها التي كانت تتاح للسائحين الأجانب‏,‏ وأن يحصل المواطن المصري علي المنتجات المصدرة والجيدة الصنع نفسها التي كانت تذهب إلي الخارج ولا يجدها المواطن المصري داخل مصر إلا بأسعار مستحيلة‏,‏ هذا إذا كانت موجودة داخل السوق المصرية في الأصل‏.‏ ولا يقل عن كل ذلك أهمية أن تتاح للمواطن المصري‏,‏ والفقير تحديدا‏,‏ السلع الأجنبية التي سوف تنخفض أسعارها انخفاضا ساحقا بحيث ينتقل إلي مستويات جديدة من الاستهلاك لم تكن متاحة له من قبل‏.‏

معني ذلك أن حزمة الحوافز المصرية لابد لها أن تشمل المنتجين والمستلهكين معا‏,‏ فلا معني لزيادة إنتاج المنسوجات أو الحديد أو العربات أو المحاصيل المختلفة ما لم يكن هناك من هو علي استعداد لاستهلاكها والتمتع بها‏,‏ ومادامت السوق العالمية كلها في حالة تدهور‏,‏ ولا نعرف علي وجه التحديد متي سوف تستطيع الدول الأخري تحفيز قواها الإنتاجية والاستهلاكية‏,‏ فلابد من الاعتماد بشكل أساسي علي السوق الداخلية‏,‏ ومن بعدها السوق الإقليمية للدول العربية المنتجة للنفط والتي تلقت ضربة موجعة بانهيار أسعار النفط‏,‏ إلا أن الفوائض المالية التي راكمتها خلال الأعوام الماضية ربما تساعدها علي عبور الأزمة‏,‏ وسوف يكون جزءا من هذه العبور البحث عن استثمارات وأسواق مربحة ومجزية‏.‏

وبرغم أهمية هذا الاتجاه فإنه ينبغي لنا ألا نقلل من قدراتنا الذاتية‏,‏ فمن قبيل الخلل الكبير أن يكون حجم الإقراض المتاح من البنوك المصرية‏53%‏ من الإيداعات التي لديها‏,‏ وقد يكون في ذلك بعض من الحكمة في أوقات النمو‏,‏ وبعض من الحصافة في أزمنة التوسع‏,‏ لكنه في زمن الانكماش يصبح معوقا لعملية التحفيز للعرض والطلب معا‏,‏ ومن المؤكد أن المقصود هنا ليس توزيع الودائع علي من يضيعها‏,‏ لكن المطلوب هو إتاحة القروض بسهولة لمن هو علي استعداد لاستثمارها‏,‏ وهو الواجب الأساسي للبنوك والمؤسسات المالية‏.‏ وسواء كان الأمر إجراءات حكومية أو قروضا تقدمها البنوك‏,‏ فإن الأزمات دائما ما تكون مخزنا للفرص الجديدة‏,‏ فالتحفيز الصناعي أو الزراعي أو في الخدمات من خلال تسهيلات إدارية أو بنكية لابد له أن يرتبط بترقية المنتج المصري‏,‏ ورفع مستواه بحيث يكون قادرا علي المنافسة‏,‏ ليس فقط في الأسواق المصرية‏,‏ وإنما العالمية كذلك‏.‏ وبصراحة فإن الأزمة الراهنة يمكنها أن تقوم بدور في عملية إنضاج الصناعة‏,‏ والصادرات‏,‏ والخدمات المصرية‏,‏ وزيادة قدراتها التنافسية ليس فقط في زمن الأزمة‏,‏ لكن في الأزمنة التالية‏.‏

إن ما نحن مقبلون عليه صعب للغاية‏,‏ لكن هناك إمكانية واسعة لتجاوزه بالعمل الحصيف‏,‏ والخيال الواسع‏,‏ والمهارة الفائقة‏,‏ وهي ظروف لا تجوز فيها المزايدة‏,‏ كما لا يجوز فيها تجاهل أي من القوي السياسية الأساسية في المجتمع‏,‏ فربما كان توقف المزايدة‏,‏ ومنع التجاهل جزءا من عملية التعامل مع معضلات كثيرة سوف نواجهها في المرحلة المقبلة‏.‏ ومن يعتقد أنني أطرح ألغازا فمعذرة‏,‏ فالظن هو أن كل الأمور واضحة‏!!‏
elmasrya

من يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب

  • Currently 34/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
11 تصويتات / 255 مشاهدة
نشرت فى 24 نوفمبر 2008 بواسطة elmasrya

ساحة النقاش

م/محمد المصرى

elmasrya
نعمل فى مجال المقاولات والتشطيبات والديكور لدينا مجموعة متخصصة من مهندسين فى جميع المجالات نقوم ببناء وحدات ابنى بيتك (مفاجاة) وبيع وشراء »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

498,958