مشاهد حية من حياتنا وحياة من حولنا (1)
المشهد الأول: بعنوان "انقطاع المياه عن السكن في يوم من أيام الصيف":
· في يوم من أيام الصيف الحارقة والملتهبه وبالأخص بالكويت، وبالتحديد في نهاية شهر يونيه، ودرجة حرارة الجو تقارب 55 درجة مئوية، وأي إنسان في هذه الأثناء يحتاج للمياه العذبة النقية، للاستحمام وللطبخ وللغسيل وللشرب، تنقطع المياه عن العمارة التي نسكن فيها، ونحن جالسون كمجموعة شباب مغتربين عن وطننا للعمل وزيادة مستوى المعيشة، والبناية التي نسكن بها ما يزيد عن 40 شقة (وحدة سكنية)، ويسكنها جميعا مجموعات من الرجال أو النساء بشكل جماعي أي دون أسر كاملة، حيث لا يوجد عائلات بالعمارة، وتعد البناية نموذج للأمم المتحدة، فيسكن بها عشرات الجنسيات والألوان والأعراق والملل، فيوجد الهندي والباكستاني والسوري والمصري والفلبيني والبنغالي...؛ ومن جميع المهن والوظائف.. فمن الطبيب والمهندس والمدرس مروراً بالفنيين والنجارين والحدادين وحتى نصل لعامل النظافة..!!
· تصور أنه يوجد بالبناية أكثر من 350 إنسان، حيث يوجد في الشقة الواحد ما بين 5 أشخاص حتى 15 شخص. وسبب زيادة تلك الأعداد في الوحدة السكنية هو ارتفاع سعر تأخير المساكن بالكويت، كباقي دول الخليج. وكذلك لأن كل هؤلاء البشر أتوا من بلدانهم من أجل المال، فكل يريد التوفير..
· ونحن مجتمعوا داخل شقتنا رقم (29) بالبناية رقم (29) بالدور (9) في ذلك مساء اليوم الصيفي والمياه غير موجوده بالبناية، حيث أنها مقطوعة منذ الصباح، كسابق عهدها منذ بداية فصل الصيف، خرج علينا أحد الأخوة المتواجدين بالشقة ويدعى (محمود شحاته) بنكته (قفشطة).. كعادة المصريين في السخرية والتهكم على أي حدث أو موقف يتعرضون له، فالإنسان المصري المطحون بالدنيا أحيانا والمغلوب على أمره في أوقات وظروف كثيرة .. يسخر دائما من تلك المحن بالتهكم عليها والسخرية منها، فهي وسيلة سريعة وسهله للخروج من الهموم النفسية، فسبحان الذي أضحك وأبكى.. فقال صديقاً محمود: "لو استمر وضع المياه كما هو.. فأحنا لابد أن نصلي صلاة استسقاء!!!".. وهي صلاة يصليها المسلمون في السنوات القاحلة عندما يتأخر نزول المطر، سائلين الله عز وجل المغيث نزول الغيث.
· وكل يوم يقوم الشباب الذين يسكنون بالشقة بالدور العاشر وفوق شقتنا مباشرة، هم مصريين، بالصياح على حارس العمارة (أبوإبراهيم)، وهو مصري الجنسية من صعيد مصر، حيث يقومون بفتح الشباك المطل على غرفة الحارس، ويبدأوا في الصياح كفقرة يومية وذلك خلال الفترة من 6 إلى 7 مساءً بعد رجوعهم من أعمالهم، فلا يجدوا ماء فيجن جنونهم!!؛ وفي أحد المرات وأنا نازل في مصعد (اسنسير) العمارة قابلت أحدهم فسألته لماذا لا تتحدثوا بالتليفون على الهاتف الجوال لأبوإبراهيم الحارس بدلا من الصياح، فقال لأنه الآن قد عرف وحفظ جميع أرقام الناس المتوجدين بالشقة، لذلك فهو لا يريد علينا عند اتصالنا به؛ وعندها فلا نجد أمامنا إلا الصياح!!!
المشهد الثاني: "دينار وخمسين فلس":
في صباح يوم الأربعاء 22 أكتوبر، وأنا جالس بأحد مقهي الإنترنت، أتصفح بريدي الإلكتروني، وأتحدث إلى زوجتي على الياهو مسنجر.. رن تليفوني الجوال فالتقطت الهاتف لكي أعرف من المتحدث.. فوجدته زميلي بالسكن، فستأذنت من زوجتى حتى تسمح لي بالرد على المكالمة التليفونية..
وفتحت التليفون وقلت: السلام عليكم هلا أبو مازن
رد خالد (أبو مازن): وعليكم السلام كيف حالك يا أبو عبدالرحمن
قلت: بخير والحمدلله، هل أنت في العمل؟
قال: نعم بالعمل، وحتى هناك شغل كثير عندي اليوم.
قلت: الله معك ويوفقك، هل تريد شيء أفعله لك يا أبو مازن
قال: أنا بتصل بك، حتى اتشاور معك فيما نأكل اليوم على الغداء.. أيه رأيك تطبخ أنت اليوم؟
قلت: لا بأس، فأنا موافق.. ماذا تحب أن تأكل؟
قال: ما رأيك في أن تذهب أنت وتشتري دجاجة طازجة متوسطة الوزن في حدود كيلو ونصف الكيلو.. وتشتري من البقال أرز وخضار مشكل!!
قلت: وأنا موافق على هذا الاقتراح.
قال: أبوعبدالرحمن، ياريت تتصل على زميلنا أشرف تعرفه أنه سوف يأكل معا اليوم حتى يعمل حسابه ولا يشترى أكل جاهز من المطعم وهو جاي من عمله. وكمان يشترك في تكاليف هذه الوجبه.
قلت: خلاص يا أبومازن، أنا هخلص حديثي مع زوجتى على الإنترنت وبعدها سوف اتصال بأخونا أشرف ثم أذهب لصلاة الظهر، وبعدها أذهب لمحل بيع الدجاج الطازج.
قال: باراك الله فيك، هل تريد شيء مني الآن؟
قلت: شكرا جدا يا أبومازن، أشوفك على خير إن شاء الله.
قال: في أمان الله.
وانتهت المكالمة، وبالفعل بعد أن انهيت مكالمتي على النت مع زوجتي وذهابي للمسجد لأداء صلاة الظهر.. قمت بالاتصال على "أشرف" أكثر من مرة فتليفونه مشغول باستمرار.. وبعد نصف ساعة من المحاولات رد أشرف على التليفون.. وأبلغت بإقتراح خالد أبومازن فوافق على الفور، وشكرني في نهاية المكالمة.
فتوجهت لمحل بيع الدجاج الطازج وهو يبعد عن البناية التي أسكن بها حوالي 150 متر فقط.. فدخلت المحل متحدثا للبائع وهو "أبوخالد" فهو رجل مصري يعمل بائع بالمحل حيث لا يعمل بالحل غيره وأنا زبون دائما عنده..
قلت: السلام عليكم يا أبو خالد
قال: وعليكم السلام، كيف حالك يا أستاذ، تفضل
قلت: أريد دجاجه في حدود كيلو ونصف الكيلو، أي في حدود واحد دينار (حيث أن كيلو الدجاج الطازج يباع بـ 650 فلس أي 0.650 دينار حيث أن الدينار الكويتي 1000 فلس).
فقال: حاضر .. أجلس على الكرسي أرتاح.
قلت: شكرا يا أبوخالد.
وبدأ يبحث داخل القفص الحديدي وبين الدجاج على دجاجة في حدود كيلو ونصف كما طلبت منه، فيمسك هذه ثم يتركها لأنها خفيفه ثم يمسك بأخرى فيجدها ثقيله، وفي المرة الثالث أمسك بدجاجه أخذها ووضعها على الميزان...
فقال: يا أستاذ حساب هذه دينار وخمسين فلس (1.050 دينار).
قلت: خلاص يا أبوخالد.. أنا موافق، توكل على الله أذبحها.
وبالفعل قام بذبحها على الفور وتنيظفها من الريش الخارجي وتنظيفها من الداخل من الأحشاء الداخلية، وقام بتقطيعا دون أن يسألني إلى أربعة أجزاء (أربعة أرباع) حيث ان هذا طلبي الدائم في كل مرة أذهب لأشتري منه دجاج، بالرجل يحفظ طلبات زبائنه.
فحملت الكيس البلاستيك الموجود به الدجاجه الطازجة وخرجت من محل أبوخالد متواجها مباشرة إلى البقالة، البقالة تسمى "أفراح أصفهان" وذلك لأنها مجاوره لمطعم إيراني يسمى كذلك مطعم "أفراح أصفهان"، والبقالة تبعد مسافة 50 متر فقط عن محل بيع الدجاج، فدخلت البقالة وألقيت تحية الإسلام على بائع البقالة : السلام عليكم يا غلام، "غلام" هذا اسمه حيث أنه بنغالي الجنسية.. وأني زبون دائما عنده..
قلت: غلام هل يوجد أكياس خضار مشكل مجمد؟
قال: موجود داخل "الديب فريزر"
فتوجه غلام وفتح الثلاجة وأخرج كيس خضروات مشكلة (وهي عبارة عن بسلة خضار، جزر مقطع قطع صغيرة، وفاصوليا خضار- ووزن الكيس 450 جرام).
فقال لي: أتريد كيس واحد أم أكثر
قلت له: كيس واحد فقط.. ونظرت فوجدت أمامي حبات البطاطس الطازجة، فسألته، غلام بكم تبيع كيلو البطاطس؟
قال: الكيلو بـ 300 فلس.
فذهبت وامسكت بحبة واحدة من البطاطس.. فوضعتها على الميزان..
فقلت له: كم وزن تلك الحبة
فقال: نصف كيلو
فذهبت مرة أخرى وامسكت بحبة أخرى، وتوجهت للميزان فوضعتها بجوار الأول، وسألت غلام: كم وصل الوزن الآن..
قال: كيلو بالضبط، ونظر لي نظرة إعجاب وتعجب!!! وقال ما شاء الله أنت يدك ميزان فحبتين البطاطس كيلو بالتمام والكمال.. ثم قال: هل تريد شيء أخر
قلت: اه اه أريد كيلو أرز مصري، بكم كيلو الأرز؟
قال: بنصف دينار (500 فلس)، هل تريد شيء بعد
فقلت: لا، كم وصل حساب الآن؟.. على الرغم أني قد حسبت مع أخذت في رأسي قبل أن أسأله!!!
فسكت لحظة وقال: الحساب دينار وخمسين فلس (1.050 دينار)
فبتسمت، وشكرته، وقلت لنفسي سبحان الله نفس سعر الدجاجة دينار وخمسين فلس!!
بقلم
محمود سلامة الهايشة
كاتب ومهندس وباحث مصري
ساحة النقاش