هندسة الانتباه

العلوم والفنون والآداب

المستقبل في ظل التحولات الشاملة
بقلم : د.باسم عبد الله عالِم - محامِ ومستشار قانوني
تتسارع الأحداث وتتوالى الأفعال وردات الأفعالِ حتى استحالت الصورة معتمةً لا نستطيع إستبيان عناصرها لكثافة الدخان والعتمة الناتجة عنه.  وكأن الصورة تستلهم من واقع الحال وتقتبس منه ذلك الدخان الكثيف الذي تخلفه القنابل والصواريخ.  ولكن المتابع لمجريات الأحداث وتطورها عبر السنون يدرك إن ثمة تحول نوعي خطير بدأ يتشكل على عدة أوجه. فهناك العقلية والحالة النفسية للإنسان العربي المسلم كما ان هناك حالة مستجدة في علاقة بين الشعوب والأنظمة.  أما في معسكر العدو فإننا نجد تحولاً نوعياً آخذ في الظهور إلى العلن والبروز إلى السطح ويكمن ذلك في طبيعة العلاقة التي تربط هذا العدو بالولايات المتحدة الأمريكية.  وليس ما تقدم من قبيل التحليل السياسي المترف ولكنه إعادة صياغة لعناصر المعادلة ومراكز القوى في الصراع العربي الإسرائلي ولست أبالغ إن اضفت إلى ذلك، الصراع القائم بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية الخفي منه والجلي. 
إن أول ما يجب أن نلحظه هو الفقدان الكامل للمصداقية والثقة بين الشعوب والأنظمة في محيطنا العربي والإسلامي.  فلم تعد الشعوب ترجو الأنظمة ولم تعد الأنظمة قادرة أن تخدع الشعوب لتجعل منها مرتكزاً ومتكاءً. إن فقدان الثقة على هذا النحو هو المقدمة الضرورية لنتيجة حتمية الصيرورة، وهي إنفراط العقد الإجتماعي وبداية دخول المنطقة في حالة من الفوضى الأشبه بالمخاض الذي يسبق ميلاد واقع جديد.  وبالرغم من العداء السافر الذي اظهره للعدو الأبدي الذي بينه لنا الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، وكذا العدو المتمثل بالفكر المسيحي المتهود في الإدارة الأمريكية، فإنني أبرئ أعدائي هؤلاء من أن يكونوا وحدهم العامل الفاعل في خلق هذه الفوضى المشار إليها،  فهم اليوم ليسوا سوى سبب طارئ أشعل الفتيل في وضع محتقن أصلاً.  وهذا الإحتقان الذي يمكن أن ينفجر في أي لحظة سيستحيل، ولا شك، إلى فوضى عارمة سببها علاقة الحاكم بالمحكوم وإختيار سبيل تبعية الأنظمة للقوى العظمى في معرض لمداهنة،  والتي إستغلتها القوى العظمى أبشع الإستغلال ووجدت في الأنظمة ضالتها المنشودة لتحقق مآربها.  وبنظرة إستشرافية، نجد أن المستقبل القريب يحمل في خضم الفوضى المتوقعة بذور عالم جديد يعيد صياغة الإنسان العربي المسلم بما يتوافق وطموحه وإرادته بعد أن كسر الأغلال التي فرضها عليه القريب والبعيد. أما على صعيد المتغيرات التي يشهدها أعداؤنا فإننا نرى تتحولاً حقيقياً لمركز إدارة الصراع.  وقد كان هذا المركز من مطلع الخمسينات من القرن المنصرم حتى العقد الأخير منه في الدائرة اليهودية الإسرائلية المتمثلة بدولة العدو.  وبالرغم من التوافق بين هذه الدولة والحكومات الأمريكية المتعاقبة فإن الحكومات الأمريكية ظلت تتعامل مع الصراع من خلال دعمها للعدو اليهودي ومحاولة التفريق بين هذا الدعم المبدئي وكون الولايات المتحدة الأمريكية وسيط محايد في التعامل مع الأحداث ينشد فيها العدالة وتوخي الصدق.  أما اليوم فنجد أن المركز قد إنتقل من محيط دولة العدو اليهودي إلى واشنطن وتسلم راية الصراع اليمين المسيحي المحافظ الذي بلغ سدة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية.  ومن هذا المنطلق نستطيع أن نفسر الموقف الأمريكي تجاه الأحداث ودفع الشريك اليهودي للمرة الأولى في تاريخه إلى عمليات عدوانية بعد أن كان هذا الشريك  هو الملهم والمحرك لهذه العمليات. 
ولعل تزامن الحالتين هو أمر رباني يريد الله به أن يهيئ الأمة للامساك بزمام الأمور والتهيئة لهذه المواجهة على جميع الأصعدة بعد أن تكشفت حقائق الأنظمة من جهة وحقائق الصراع الحضاري وقيادته من جهة أخرى.
إن بداية الفوضى العارمة تنعكس بوجود أشكال متعددة من التنظيمات الفكرية والعسكرية ذات الولاء العقائدي البعيد عن الولاء للدولة والنظام القائم وهو ما سوف يضعف مفهوم الدولة أو السلطة المركزية ويعزز حاجة المجتمع للتمحور حول هذه التنظيمات مع تزايد ضعف السلطة المركزية.  وبأفول نجم السلطة المركزية تخلو الساحة لهذه الكيانات الفتية التي تعتمد في أولوياتها على الفكر العقائدي ولا تنحصر داخل جغرافيا ما يعرف بالوطن.  وهنا بيت القصيد ونقطة التحول فلن يلبث الحال حتى ينشب صراع حقيقي بين مختلف هذه المحاور الفكرية تنشأ معها التحالفات التي لا تعترف بالحدود وما أن تضع الحرب أوزارها سوف تتكشف الصورة عن واقع جديد وحدود جديدة إعيد رسمها لتكون الدولة هي الفكر والفكر هو الدولة.  فإيران ومفهومها الثوري الشيعي سوف تحاول خلق نطاق شيعي مهيمن كما أن التوجهات السنية سوف تحاول القيام بمشروع مماثل وكذا الحال للحركات القومية كالحركة الكردية والحركة الزنجية في جنوب السودان. وهذا غيض من فيض.
والمتأمل لمستقبل الأحداث يدرك تماماً أنه وبالرغم من وجود إستقطابات وطنية وقومية وعنصرية إلا أن المحاور الرئيسية سوف تكون محاور فكرية في المقام الأول على أسس عقائدية وهو ما سيكسر أغلال المواطنة الزائفة بمفهومها الوضعي لينفتح المسلم على رحابة العالم الإسلامي في تحالفاته ومواقفه. 
إن ما يحدث اليوم من حيث تدري أمريكا أو لا تدري ليس إلا دفعا ربانياً للأحداث في أتجاه التحرر من هذه الهيمنة المباشرة وغير المباشرة التي عانى منها العالم الإسلامي طوال قرن من الزمان.
والله ومن وراء القصد....،
  • Currently 105/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
35 تصويتات / 617 مشاهدة
نشرت فى 15 أغسطس 2006 بواسطة elhaisha

ساحة النقاش

محمود سلامة محمود الهايشة

elhaisha
محمود سلامة الهايشة - باحث، مصور، مدون، قاص، كاتب، ناقد أدبي، منتج ومخرج أفلام تسجيلية ووثائقية، وخبير تنمية بشرية، مهندس زراعي، أخصائي إنتاج حيواني أول. - حاصل على البكالوريوس في العلوم الزراعية (شعبة الإنتاج الحيواني) - كلية الزراعة - جامعة المنصورة - مصر- العام 1999. أول شعبة الإنتاج الحيواني دفعة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

2,719,144