إعادة تأهيل أمريكا
بقلم : د.مقبل صالح أحمد الذكير - أستاذ الاقتصاد، جامعة الملك عبد العزيز
يحق للسيد " بول كاريج روبرت " وهو نائب وزير خزانة سابق ورئيس تحرير سابق لجريدة " وول ستريت جورنال " أن يصرح في مقال صدر له مؤخرا بأنه يخجل أن يكون أمريكا ! ففي الوقت الذي يتجه فيه العالم إلي مزيد من الديمقراطية وتتلاشى الحكومات السلطوية والدكتاتورية ويزداد فيه المستوى التعليمي وتُقّّرب ثورة الاتصالات بين ثقافات الشعوب في أطراف الأرض، وتنجح بعض دول العالم الثالث في برامج التنمية، وتأمل البشرية أن تتجه إلى مزيد من الاستقرار والتعاون البناء، تنحدر الولايات المتحدة إلى مستوي وضيع من السلوك العدواني والممارسات الدولية اللاديموقراطية ، وتستسلم لخطط أكثر انحدارا لا تليق بحضارتها مما يستدعي – ويا للمفارقة المخجلة – إعادة تشكيل وتأهيل أمريكا نفسها من أوهام حكومة متطرفة.
إن الولايات المتحدة تنحدر بقوة تحت سكرة غطرسة القوة عن القيم الإنسانية العامة في الحرية والعدالة والمساواة. وإرهاصات ذلك أخذت تظهر عند عدد غير قليل من المفكرين الاستراتيجيين. إن تغير مراكز القوي في العالم لا يحدث بين ليلة وضحاها، إلا أن علاماته تبدأ في الظهور شيئا فشيئا. أمريكا تنحدر أخلاقيا وأيدلوجيا و تتراجع اقتصاديا مقابل تماسك اقتصادي للاتحاد الأوروبي واليابان وتصاعد قوى جديدة كالصين والهند. وهذا أصاب دوائر صنع القرار الأمريكي بقدر متزايد من التوتر والقلق حملها مؤخرا على انتهاج سياسيات دولية متخبطة ومنهكة وضارة لها وللعالم. أمريكا تريد أن تحصل من العالم بقوة السلاح ما لم تستطع الحصول عليه بالمنافسة والإنتاج.
في أواخر القرن العشرين، توهم بعض المفكرين الأمريكيين تحت نشوة انهيار الاتحاد السوفيتي، بأن سيطرة أمريكا على العالم دنت وأصبحت قاب قوسين أو هي أدني من ذلك، إلي الحد الذي دفع بعضهم إلي الاعتقاد أن العالم بلغ نهايته وهو بسبيل الانخراط تحت الزعامة الرأسمالية الاستحواذية الأمريكية ! ( فوكوياما: نهاية التاريخ ) . ولكن عندما يختار عضو استراتيجي من أعضاء المسرح العالمي هدفا أكبر من طاقة، فضلا عن كونه هدفا مصلحيا ذاتيا ضيقا يتعارض بقوة مع مصالح الأعضاء الاستراتيجيين الآخرين، ويتسم في نفس الوقت بقدر كبير من عدم المساواة والعدالة، فإنه يهيئ لردود فعل مناسبة من قبل الأعضاء الآخرين.
يبدو أن قادة أمريكا أصبحوا أُسراء وضحايا لحالة عدم اليقين المتعلقة بوضعهم الاقتصادي، فالقوة الاقتصادية الحقيقية لا تقاس بضخامة الاستهلاك وهو ما يتصف به الاقتصاد الأمريكي، وإنما بحجم وقوة الإنتاج وهو الذي أخذ يتراجع في الاقتصاد الأمريكي مقارنة بغيرها من المنافسين ! ونظرا لعدم قدرة أمريكا السيطرة على القوى الاقتصادية والعسكرية الحقيقية في العالم ، فإنها تتخبط في ممارسة الضغوط العسكرية والدبلوماسية علي عالم الضعفاء وخاصة على دول العالم الإسلامي. فتفرض الحظر على دول لا تستطيع الدفاع عن نفسها، أو تقصف جيوشا لا وزن لها، أو تعتدي على دول بدعوى امتلاكها لأسلحة دمار شامل لا وجود لها ! في استعراض مسرحي يعلم الأقوياء في العالم انه تصرف هستيري يكشف عن قلقها ورغبتها في السيطرة على الموارد وخاصة الموارد النفطية المتراجعة بحدة في وطنها، لكنه في نفس الوقت يعري قوتها المتراجعة، ويدفع القوى الإستراتيجية الأخرى في العالم للتفكير في التكتل والعمل معا لمواجهة هذه الإستراتيجية المؤذية لها.
هذا السلوك العدواني الأمريكي على الدول الصغيرة والذي اتخذ من محاربة الإرهاب ستارا له، قد يكون في نظر الأمريكيين ضئيل القدر من حيث المجازفة العسكرية، لكنه في الواقع شديد الخطر بالنسبة للمصالح الأمريكية حول العالم أو حتى سلامة المواطنين الأمريكيين، كما بينت أحداث الحادي عشر من سبتمبر في العام 2001م.
من الناحية الإستراتيجية لا تزال للولايات المتحدة قوة ووجود عسكري في أطراف متعددة من العالم، وستتقلص هذه القوة خلال العقود الثلاثة القادمة. لكن من الناحية الاقتصادية لم يعد لأمريكا تلك القوة الاقتصادية التي كانت تتمتع بها غادة انتهاء الحرب العالمية الثانية، بل إن اعتمادها اقتصاديا على العالم الخارجي أضحى يتزايد. في الوقت الذي ليس فيه لأوروبا واليابان والصين وروسيا مشاكل خاصة مع بقية دول العالم، فهي تتعامل تجاريا مع بقية دول العالم بسلاسة ولذلك فمصلحتها الإستراتيجية في الأجل الطويل تقوم على تثبيت السلام، على عكس الولايات المتحدة التي أخذت سياستها الخارجية تتجه أكثر نحو الصدام وإثارة القلاقل في بعض المناطق الضعيفة لإرهاب المنافسين. لقد بدأت هذه السياسة الأمريكية العدوانية تتعارض تدريجيا مع مصالح أوروبا وروسيا والصين، مما يدفعها عاجلا أم آجلا إلى عدم قبول هذه الفوضى التي تغذيها الولايات المتحدة في العالم وتغذيها كذلك إسرائيل في عالمنا العربي.
إن الأذى الأمريكي على العالم الإسلامي يزداد حدة وخطرا، وردود فعله ستكتوي منها أوروبا قبل أمريكا، ليس بسبب القرب الجغرافي فقط، بل أيضا من أجل سلامها الداخلي، نظرا لوجود جاليات إسلامية كبيرة في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا. ومن ناحية أخرى، فقد بدأت أوروبا تشعر أنها ليست بحاجة للمظلة الأمريكية التي طالما شعرت بحاجتها لها بعد الحرب العالمية الثانية. أوروبا أصبحت أكثر قوة واقرب للتفاهم والتعاون مع الروس خاصة في مجال النفط والغاز التي تزخر بهما الأراضي الروسية. لذلك لم يكن غريبا أن تسكت الولايات المتحدة، على مضض في ظل غياب التهديد السابق للاتحاد السوفيتي، عن مقاومة مشروعين أوروبيين يمثلان تحديا لها، أحدهما اقتصادي وهو الخاص بالعملة الموحدة ( اليورو ) ، والآخر عسكري وهو مشروع غاليلو ( Galileo ) الذي كسر الاحتكار الأمريكي في مجال نظام الرؤية العسكرية للأرض باستخدام الأقمار الصناعية المسمي
( GPS ).
أن ما يحتاجه العالم هو أمريكا جديدة لا شرق أوسط جديد ! فالشرق الأوسط الجديد قادم، لكن على عكس الهوى الأمريكي. العالم بحاجة لمن يعيد أمريكا إلى صوابها كمجتمع منتج ودولة ديمقراطية داعمة للحريات الحقيقية لا المزيفة، وهذا لن يكون إلا بظهور طبقة سياسية حكيمة، تتدارك السقوط الأمريكي وهي مسؤولية الناخبين الأمريكيين. أما الاستحواذ عن طريق القوة والظلم والعدوان والحروب المسرحية على الضعفاء، فهذه لعبة قذرة قادت غيرها في القرن الماضي إلى خسائر محققة. ويبقى على الضعفاء أن يتخلصوا من حب الدنيا ويحسنوا استغلال قدراتهم وتجميع طاقاتهم وتوحيد جهودهم وتقوية نسيجهم الاجتماعي وتصالح قادتهم مع شعوبهم، فالتحديات جسام وعالمنا لا مكان فيه للضعفاء المتخاذلين ولا يعترف إلا بالأقوياء.
محمود سلامة محمود الهايشة
محمود سلامة الهايشة - باحث، مصور، مدون، قاص، كاتب، ناقد أدبي، منتج ومخرج أفلام تسجيلية ووثائقية، وخبير تنمية بشرية، مهندس زراعي، أخصائي إنتاج حيواني أول. - حاصل على البكالوريوس في العلوم الزراعية (شعبة الإنتاج الحيواني) - كلية الزراعة - جامعة المنصورة - مصر- العام 1999. أول شعبة الإنتاج الحيواني دفعة »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
2,716,064
ساحة النقاش