مقاصد الشريعة الإسلامية وضرورات التجديد
صدر في الشهر شوال 1424هـ – ديسمبر 2003م كتاب بعنوان " مقاصد الشريعة الإسلامية وضرورات التجديد " تأليف الأستاذ الدكتور محمود حمدى زقزوق – وزير الأوقاف المصري، والكتاب ضم سلسلة "قضايا إسلامية" يصدرها المجلس الأعلى للشئون الإسلامية فى غرة كل شهر عربى وهو العدد رقم (104) ، وتم الطبع بمطبعة وزارة الأوقاف ، والكتاب من القطع المتوسط (13.5 × 19.5 سم) وعدد صفحاته 110 صفحة.
والكتاب يتكون من مقدمة وكلمة ختامية ، وقد قسم المؤلف هذا البحث إلى قسمين جعل أولهما بمثابة مقدمات عامة تحدث فيه عن الشريعة الإسلامية وخصائصها وصلتها بالفقه الإسلامى وضرورة التجديد المستمر للفقه الإسلامى. أما القسم الثانى فقد خصص للحديث عن مقاصد الشريعة الإسلامية وفصل القول فيها تأكيداً على أهميتها القصوى لمصلحة الإنسان فى كل زمان ومكان.
ويفتتح المؤلف بحثه بمقدمة بديعة تجذب القارئ لقراءة الكتاب حتى آخره ، ويبدأ بقوله : يتعرض الإسلام فى عصرنا الحاضر لموجات عاتية من التشويه لحقائقه والتزييف لتعاليمه. وتأتى هذه الموجات التى اشتدت حدتها بصفة خاصة بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر عام 2001م من جانب خصوم الإسلام فى المقام الأول ، وذلك فى محاولة لإبعاد الإسلام عن التأثير فى حياة المسلمين ، وعزله عن تيار الحياة بصفة عامة حتى ينزوى فى النهاية فى أركان المساجد بلا فاعلية أو تأثير فى حياة الناس الخاصة أو العامة ، هذا إذا لم يمكن القضاء عليه نهائياً.
ولكننا فى الوقت نفسه لا نعفى أنفسنا نحن المسلمين من مسئولية انتشار هذه النظرة السلبية للإسلام. فهناك فريق من أنباء المسلمين يشارك فى هذا التشويه لتعاليم الإسلام بشكل أو بآخر ، سواء كان ذلك عن طريق بعض التصرفات الحمقاء التى تسىء إلى هذا الدين أو بتقديم نماذج سيئة عن الإسلام والمسلمين من حيث الشكل أو المضمون. وقد يكون ذلك عن غير قصد أو بحسن نية مثل الدبة التى قتلت صاحبها بحجر كبير ألقته فوق رأسه فى حين أنها أرادت بذلك أن تبعد ذبابة حطت على وجهة أثناء نومه .
وكلا الفريقين بعيد عن الفهم الحقيقى لتعاليم الإسلام ، وبعيد عن إدراك المقاصد الحقيقية للشريعة الإسلامية. ومن هنا تأتى ضرورة التوضيح لحقائق الإسلام والتعريف بقيمه وتعاليمه ، والكشف عن مقاصد الشريعة الإسلامية وما ترمى إليه من خير كثير للبشرية جمعاء.
ولا شك فى أن المسئولية عن ذلك كله تقع على عاتق كل قادر على تحمل هذه المسئولية والقيام بحقها من علماء الإسلام ومفكريه . فهم حماة هذا الدين والحراس على شريعته . وعليهم تقع مهمة تصحيح الأفكار الخاطئة والمفاهيم المغلوطة عن الإسلام ، والقضاء على الأحكام المسبقة فى عقول خصومه والتى تنبنى على أوهام وظنون وشائعات عن هذا الدين وترجع كلها إما إلى جهل أبنائه أو ظلم خصومه .
ولن يكون ذلك أمراً ممكناً وفعالاً دون أن يكون هناك لدى من يتصدى لهذه المهمة سعة فى الأفق ومرونة فى الفكر ، ووعى حقيقى بمقاصد الشريعة الإسلامية وغاياتها العليا ، وإدراك سليم لطبيعة العصر ومتغيرات الحياة ، وقراءة صحيحة للواقع المحلى والعالمى ، واقتناع بضرورات التجديد المستمر للفكر الإسلامى بصفة عامة والفكر الفقهى بصفة خاصة .
ومن شأن ذلك كله أن ينتج لنا خطاباً دينياً جديداً مفيداً ومثمراً لمجتمعاتنا الإسلامية يساعد على تطوير الحياة الإسلامية والدفع بها إلى آفاق التقدم والنهوض ، وفى الوقت نفسه يثرى علاقات العالم الإسلامى بكل شعوب العالم .
ويأتى هذا البحث فى إطار التعريف بالإسلام – بمثابة إسهام متواضع فى الكشف عن جانب هام من جوانب هذا الدين ، ونعنى بذلك فى المقام الأول الكشف عن مقاصد الشريعة الإسلامية ، فى محاولة نرجو أن تكون فيها فائدة لقارئ أو نفع لباحث أو حفز لهمة من يريد السير على الدرب فى طريق البحث عن أفضل السبل للذود عن حياض الإسلام .
مقاصد الشريعة الإسلامية :
ويمكن إجمال المقاصد الشرعية من الأحكام التى جاءت بها الشريعة الإسلامية فى كلمة واحدة تعد عنواناً على الإسلام ذاته ، ونعنى بذلك "الرحمة " ، التى جعلها القرآن الكريم الهدف الأسمى من الرسالة الإسلامية كلها ، وذلك فى قوله تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء آية: (107)] ، والتى تعد على قمة منظومة القيم الإسلامية .
ومن منطلق هذه "الرحمة" بالعباد جاءت الشريعة الإسلامية – بما تشتمل عليه من أحكام – ترجمة حقيقية لهذه القيمة الأساسية. ومن هنا اتجه الإسلام فى أحكامه إلى تأكيد أمور ثلاثة تنبع كلها فى النهاية من ينبوع الرحمة . وأول هذه الأمور يتمثل فى العبادات التى شرعها الله تعذيباً للنفس الإنسانية لتجعل من الفرد مصدر خير للمجتمع . أما الأمر الثانى فهو إقامة العدل بين الناس دون استثناء بأى حال من الأحوال . وهذا ما يؤكد عليه القرآن الكريم تأكيداً واضحاً لا لبس فيه فى قوله تعالى : (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة آية: (8)] .
أما الأمر الثالث فإنه يتمثل فى تأكيد المصلحة الحقيقية للعباد . وهذه المصلحة – كما سبق أن أشرنا – لا صلة لها بالأهواء والأغراض ، ولا بالمصالح الفردية وإنما تعنى الخير كل الخير بأشمل معانيه للناس جميعاً .
ومقاصد الشريعة الإسلامية منها ما هو فى مرتبة "الضروريات" ومنها ما هو فى مرتبة "الحاجيات" ، ومنها ما هو فى مرتبة "التحسينات" .
وقد عرف الإمام الشاطبى الضروريات بقوله : إنها تعنى "ما لابد منه فى قيام مصالح الدين والدنيا ، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة ، بل على فساد وتهارج وفوت حياة ، وفى الآخرة فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين"
ومن هنا شرع الإسلام من الأحكام والتكاليف ما يحمى هذه المصالح التى تبلغ الحاجة إليها مبلغ الضرورة ، ولا تقوم حياة الناس بدونها. وهذه المقاصد الضرورية خمسة هى : حفظ النفس والعقل والدين والمال والنسل. وحياة الإنسان فى هذه الدنيا تقوم على هذه الأمور الخمسة التى تعد ضروريات لازمة للإنسان من حيث هو إنسان ، كما تعد أصولاً راسخة لحقوق الإنسان العامة التى ينادى بها المجتمع الإنسانى فى العصر الحديث ، والتى لا تتوافر الحياة الإنسانية الرفيعة إلا بها.
ولاشك فى أن تحقيق هذه المطالب الخمسة تحقق للإنسان مصلحة حقيقية فى دينه ودنياه. ومن هنا جاءت الشرائع السماوية للمحافظة عليها ، كما أن الشرائع الوضعية تحاول أن تحققها.
أما الحاجيات والتحسينات فإنها بمثابة الأمور التكميلية. وليس معنى ذلك أنها غير مطلوبة ويمكن الاستغناء عنها ، وإنما هى فى مرتبة دون مرتبة الضروريات . فالحاجيات هى الأمور التى لا يكون الحكم الشرعى فيها لحماية أصل من الأصول الخمسة المشار إليها ، بل يقصد بها دفع المشقة أو الحرج أو الاحتياط لهذه الأمور الخمسة.
أما التحسينات فهى فى مرتبة الكماليات وهى الأمور التى لا تحقق أصل هذه المصالح (الخمسة) ولا الاحتياط لها ، ولكنها ترفع المهابة وتحفظ الكرامة وتحمى الأصول الخمسة. ومن ذلك بالنسبة للنفس حمايتها من الدعاوى الباطلة والسب وغير ذلك مما لا يمس أصل الحياة ، ولا حاجيات من حاجياتها ، ولكن يمس كمالها ويشينها .
وفى الخاتمة ؛ يقول المؤلف : من خلال هذا العرض الموجز لمقاصد الشيعة الإسلامية يتضح لنا أن هذه الكليات الخمس التى تشكل مقاصد الشريعة الإسلامية تستوعب حياة الإنسان كلها. وإدراكها على وجهها الصحيح من شأنه تمكين المسلم من بناء حياته أسرته ومجتمعه على الوجه الصحيح ، والإسهام فى بناء المجتمع الإنسانى والمشاركة فى بناء الحضارة الإنسانية ، وإرساء دعائم الأمن والسلام فى العالم.
إن الإسلام من خلال هذه المقاصد يريد مسلماً يشعر بانتمائه إلى الإنسانية ، ويتفاعل مع الآخرين ويتعايش فى سلام مع كل الناس من كل الأعراق والأديان والحضارات.
يريد مسلماً متفتح العقل متيقظ الوعى له من الإدراك لمسئولياته والفهم لذات ولمن حوله ولمجتمعه الإنسانى ما يجعله عضواً فعالاً فى المجتمع يعمل على تقدمه وتطويره متسلحاً بالعلم والوعى بمتغيرات العصر. يريد مسلماً يعيش دنياه ويعيش عصره ، ولكنه لا ينسى صلته بخالقه ، بل يظل موصولاً بأصله الروحى. يريد مسلماً صاحب نظرة تكاملية للأمور : نظرة مرتبطة بالأرض التى يعيش عليها ، ولكنها فى الوقت نفسه مرتبطة بالسماء ، وهذه النظرة المرتبطة بالسماء تصحح له مساره على الأرض .
يريد الإسلام من المسلم أن يكون متديناً عن وعى ، وليس متديناً ساذجاً يرتمى فى أحضان الخرافة والكسل العقلى والفكرى الذى يجعل منه عضواً غير فاعل فى المجتمع ، لا يسهم فى تطويره ، بل يشكل عبئاً عليه .
يريد الإسلام نسلاً قوياً يستطيع أن يتحمل مسئولية خلافته لله فى الأرض ، لا يعتمد على الكثرة العددية غير الفاعلة ولكنه يعتمد على الكيف والنوعية أكثر من اعتماده على الكم الكبير الذى لا فاعلية له . فالإسلام لا يريد غثاء كغثاء السيل يصل تعداده اليوم إلى أكثر من خمس سكان العالم ولكنه ضعيف وغير فاعل ويتحكم الآخرون الأقل عدداً فى مصيره ، بل فى مصير العالم كله .
يريد الإسلام من المسلم ألا يحتقر العمل للدنيا ، بل يدرك أن مهمته الحضارية فيها هى بناؤها وتعميرها مادياً وروحياً. وأن هذا البناء يتطلب عقلاً واعياً ويتطلب مالاً وثروة تساعد على هذا التعمير.
يريد الإسلام أن يسابق السلم غيره فى عالمه الذى يعيش فيه فى "الخيرات" بشتى ألوانها من علوم وآداب وفنون ، وذلك من أجل توفير حياة حرة كريمة لنفسه ولمجتمعه وللعالم الذى يعيش فيه ، استجابة للأمر الإلهى : (فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ) [البقرة آية: (148)].
نحن فى حاجة ماسة إلى إدراك مغزى هذه المقاصد الضرورية وما تمثله من منهج حياة للمسلم إذا سار عليه أمكنه أن يصل إلى غاياته النبيلة وأهدافه السامية.
ومن هنا نعتقد أن الإدراك الواعى والتطبيق السليم لهذه الغايات والمقاصد للشريعة الإسلامية يشكل صمام أمان للمجتمع الإسلامى وحماية له من الواقع فى براثن التطرف أو التعصب أو الإرهاب .
ولكن غياب الوعى بهذه المقاصد والانشغال بالأمور الثانوية والقضايا الهامشية يجعله يتوه فى دوامة من اللاوعى تبتلعه وتبتلع نشاطه العضلى والفكرى وتجعل منه فريسة لكل الظواهر السلبية التى تجعله فى النهاية لقمة سائغة فى فم الآخرين.
ومن هنا نقول: إن إدراكنا الواعى بمقاصد الشريعة الإسلامية من شأنه أن يحرك المياه الراكدة، ويحيى الأمل فى النفوس المحبطة ، ويحفز الهمم ، ويوقظ الغافلين ويدفع الكسالى إلى العمل المثمر.
والأمل كبير فى عودة الوعى إلى جماهير المسلمين وعلمائهم وقادتهم ليخرجوا بعالم الإسلام من النفق المظلم الذى حوصر فيه ، والأخذ بيده إلى مستقبل مشرق يستعيد فيه المسلمون أمجادهم وعزتهم وحضارتهم ويسهمون إسهاماً فعالاً فى تقدم وسلام البشرية جمعاء.
قراءة وعرض
محمود سلامة الهايشة
ساحة النقاش