منذ عامين بدأت قضية تطوير الثانوية العامة تشغل قسطا كبيرا من هموم وزارة التربية والتعليم. وخلال تلك الفترة لم تنقطع مقترحاتها المحيرة ومفاجآتها العجيبة, وقد أصابني الملل
كما أظن أنه قد أصاب كثيرين غيري من المعنيين بمصير تعليمنا ومستقبل أبنائنا وبناتنا من أجيال المستقبل. وقد ظن قلمي أنه سوف يتوقف عن متابعة هذا الشأن بعد مقالي الأخير الذي تفضل الأهرام بنشره في2/28. بيد أن مفاجآت الوزارة لم تتوقف مع تولي وزير جديد قيادة وزارة التربية والتعليم. ويبدو أن سيادته وفقا لمنهج ريما في العودة إلي عادتها القديمة قد حرص علي المبادرة بترك بصماته علي جسم التعليم الهزيل والمهترئ من فيض التغييرات الحداثية. ونود أن نؤكد هنا أننا لسنا من أنصار المصادرة علي التغيير والتجديد, بل إننا نطالب به, شريطة أن يكون مستندا إلي أسس واضحة سديدة رشيدة, بعد أن يلقف الوزير أنفاسه علي كرسي الوزارة بما يمكنه من الدراسة الشاملة والعميقة والمستوعبة لمشكلات الواقع ومطالب التطوير.
وهذا يقتضي بالضرورة الاستقصاء والتدبر لما يراد ويشاد, واحتياجاته التنفيذية ومدي إسهامه في تصحيح المسيرة الراهنة, وعوائده النهائية في مخرجات التعليم. ومما لا يقل عن ذلك أهمية التقدير والتدبير للتكلفة المالية من ميزانية للتعليم هزيلة ومتدنية للغاية.
وفي هذا الاطار أتساءل حول خبر مقلق ورد في إحدي الصحف, والذي اعتبره صحيحا حيث إنه لم يرد أي تعليق بعدم صحته من المسئولين حتي الآن.
ومفاد هذا الخبر أن الوزارة سوف تعقد امتحانا تجريبيا لطلاب الثانوية العامة هذا العام. ويستهدف التجريب تمكين الوزير من الوقوف علي السوابق في مقومات هذا الامتحان, وتحديد مستويات تحصيل الطلاب, ونوع الأسئلة التي يتضمنها وتوزيعها علي مختلف المناهج الدراسية, مما سوف يعينه علي أن يكون الامتحان النهائي هذه المرة محققا للأهداف التي ينشدها, ومتفاديا لما تتسم به الامتحانات السابقة من صور العوار الفني والاجرائي.
وجاء في ذلك الخبر الصحفي أيضا أن السيد الوزير سوف يوقف ما جرت به العادة الاعلامية من أن أسئلة الامتحان النهائي سوف تكون في مستوي الطالب المتوسط, وكان ذلك من قبيل طمأنة الممتحنين من الطلاب وأولياء أمورهم.
وقد استدعي هذا الخبر الصحفي بشقيه تساؤلات تقتضي إبداء الرأي حولها. وأري في شقه الأول أن مشروع امتحان تجريبي لطلاب الثانوية العامة جهد لا لزوم له علي الاطلاق في ضوء مبرراته من رغبة الوزير للتعرف علي سياقات وإجراءات مضامينه ومستوياته. ويقيني أن ذلك يمكن أن يتحقق من خلال مناقشته داخل الوزارة بالاستعانة بنماذج الامتحانات السابقة, وعلي تفاصيل الاجراءات والصعوبات التي ينبغي تجنبها مع مستشاري الوزارة وخبرائها, والمركز القومي للامتحانات والتقويم, ومستشاري المواد الدراسية, إلي جانب العديد ممن أشرفوا علي إدارة هذا الامتحان أو شاركوا في وضع الاختبارات السابقة, انتهاء بعناصر الأمن لضمان سرية الامتحانات وسلامة انتظامها.
ثم إن أي امتحان تجريبي لا يكون بالضرورة هاديا لاجراء الامتحان النهائي, فقد يستهتر به الطلاب لأنه لن يقدم أو يؤخر فيما ينتظرهم من تقديرات نهائية.
وربما قد تحدث مفارقات بينه وبين أسئلة وأجواء الامتحان النهائي مما قد يثير صخبا وجدلا لا داعي له. ومع هذه المشكلات الفنية والاجرائية وغيرها يبقي التساؤل حول التكلفة المالية لاجراء الامتحان والتي أحسب أنها تكلفة باهظة قليلة المردود, ومن الأفضل توظيفها في تحسين أحوال بعض المدارس. هذا فضلا عن هدر جزء من وقت التعليم في المدارس وفي الادارات التعليمية, خاصة في هذه الظروف الخنزيرية.
وكذلك يتساءل المرء في هذا الصدد عن الشق الثاني أيضا حول عدم الاعلان عما جري عليه العرف من تأكيد الوزارة في ملاءمة مستوي الأسئلة للطالب المتوسط ونحن مع رأي السيد الوزير في هذا الصدد. لقد أكدنا في مقالات عديدة سابقة أنها بدعة لا مثيل لها فيما نعرف عن أي نظام امتحان في الدنيا. وقد دعونا بأنه يتوجب الاقلاع عن أية مناقشة مع الطلاب أو أولياء الأمور حول ما يتردد عادة من دعاوي وشكاوي كطول الامتحان أو صعوبته أو كون بعض أسئلته خارج المقرر, أو غير ذلك من حجج واهية, ويؤدي الالتفات لها إلي هدر الوقت والجهد, وعلينا تأكيد قدسية الامتحان ومهمته الرئيسية في التمييز بين قدرات الممتحنين, وهو امتحان عام للجميع.
لكن الحيرة المقلقة والتي تدعو للتساؤل اقتران عدم الاعلان عن مستوي الوسطية في أسئلة الامتحان مع قرار الامتحان التجريبي مما يشي ببعض الظنون حول حقيقة ما يراد ولما يستقر في بطن الشاعر لكل من هذين الاعلانين معا!!
والخلاصة إننا نواجه مع ذلك الخبر الصحفي ـ الذي أرجو أن يكون غير صحيح ـ امتحانا تجريبيا للثانوية العامة لا سابقة له, ولا جدوي من ورائه, مهدرا للمال وللجهد وللوقت. ومعه إعلان عن عدم التزام الأسئلة بوسطية المستوي نري أنه كان من الأجدي ممارسته في أوراق الامتحانات دون تصريح إعلامي به لما يثيره من مخاوف وتداعيات سلبية لدي الطلاب.
لذلك كله أدعو مخلصا إلي العدول عن مشروع الامتحان التجريبي حتي لو صدر قرار به, وعدم التركيز علي الشق الثاني. والرجوع إلي الصواب فضيلة, بل هو منتهي الشجاعة والحكمة مما عهدناه في مواقف السيد الوزير. هذا إلي جانب الافصاح عن حقيقة ما قد يترتب علي هذا القرار والاعلان من توجهات جديدة مستترة وجوبا أو جوازا في سياسة الوزارة وفيما نستقبل من استقرار أحوال الثانوية العامة.
والله من وراء القصد.
ساحة النقاش