تجربة اليابان في التعليم النظامي والتدريب في مواقع العمل
مع التركيز على الأهداف الاقتصادية للتعليم وذلك لأن الاقتصاد في اليابان اقتصاد قائم على المعلومات، ولهذا السبب وضعوا نصب اعينهم وجود تعليم نظامي ممتاز يعول عليه في تخريج أجيال صالحة ومناسبة لسوق العمل ومُعدة لاستيعاب التدريب المستمر في مواقع العمل على كل جديد ومستجد مما يجعلها أهلاً للقيام بما يُوكل إليها من عمل بما في ذلك البحث والتطوير والحصول علىِ براءة اختراع جديدة ومفيدة، وبالتالي احراز قصب السبق في المنافسة العالمية المحتدمة على إنتاج الأفضل والأرخص.
لقد اضحى الهدف الأساسي لنظام التعليم في اليابان هو ايجاد مواطنين مستنيرين ومنتجين. وهذا هو الذي مكنهم من اللحاق بالغرب بل ربما جعلهم يحرزون قصب السبق عليه. ولقد أصبح هذا الهدف أوضح ما يمكن في ظل احتدام المنافسة على الأسواق العالمية، والاقتصاد التنافسي الناجح يزدهر وينمو ويستمر إذا دعم بقدرة القوى العاملة فيه على إنتاج سلع تتصف بالجودة وانخفاض التكلفة، ناهيك عن القدرة على سرعة التكيف مع التقنيات المستحدثة. وهذا كله يتأتى من إسهام التعليم النظامي والتدريب في مواقع العمل بصورة مباشرة في إعداد وتطوير قدرات القوى العاملة، ليس هذا فحسب، بل إن إدراك دور التعليم المدرسي والتدريب أسهم ويُسهم في تطوير قوى عاملة منتجة ويُسهل تطبيق السياسات المستجدة والمستنيرة.
نعم إن التنسيق الوثيق بين التعليم النظامي والتدريب في مواقع العمل في اليابان هو الذي أدى إلى تطوير الموارد البشرية هناك. فالتعليم الالزامي في المدارس لمدة تسع سنوات يضمن للطلاب هناك اتقان المهارات الأساسية من قراءة وكتابة ورياضيات وعلوم. كما أن تلك المدارس تتولى تزويد الطلاب بالمهارات الضرورية للعمل بفعالية ضمن فريق . كما يقوم أرباب العمل بتدريب الخريجين ليصبحوا ملمين بالعمل الذي سوف يُوكل إليهم. هذا بالإضافة إلى تدريب المبتدئين على نوعين من المهارات، الأول تدريبهم على المهارات الفنية والثاني تدريبهم على المهارات اللازمة لعلاقات العمل التي تعزز من الإنتاجية، وهذان النوعان من التدريب يعزز كل منهما الآخر. ولا شك أن هذا الأسلوب في إعداد الشباب لسوق العمل وهو المعتمد على الصلة الوثيقة القائمة بين التعليم المدرسي النظامي والتدريب في مواقع العمل هو المسؤول عن تقليل التباين وتصغير الفجوة بين ما تقوم به المدرسة من تعليم وما يحتاجه سوق العمل من مهارات.
في اليابان تمارس وزارة التربية والتعليم الإشراف المباشر على المدارس المحلية وتستهدي بالمرسوم التعليمي الصادر عقب الحرب العالمية الثانية والذي تضمن خمسة مبادئ وأهداف للمدارس الثانوية وهي:
٭ زرع قيم الاحترام والتقدير للاجتهاد في العمل.
٭ تدريس المهارات والمعارف الأساسية اللازمة للمهن الأساسية في المجتمع.
٭ تطوير القدرة على اختيار المستقبل الذي ينسجم مع الميول الشخصية للمرء.
٭ تطوير العقلية الجماهيرية.
٭ تطوير وتنمية الاستعدادات الضرورية للمواطنة المنتجة.
ولقد ساعد تحقيق هذه الأهداف على ايجاد المواطن المتفتح والمسؤول المستنير. كما أن ذلك ارسى قواعد التدريب الفعال أثناء العمل. إن تجانس المعارف المكتسبة في المدرسة ييسر ويسهل وضع معايير موحدة للتدريب، كما أن تدريب الخريجين على المهارات التقنية يصبح اسهل إذا كان مستواهم في المعارف الأساسية متماثلا.
إن التعليم المدرسي النظامي في اليابان بالإضافة إلى تعليم المهارات الأساسية يسهم في إكساب الطلاب العقلية المنفتحة على العامة وإكسابهم الأساليب التي تجعلهم مواطنين صالحين، حيث يتم تعليمهم مهارات التعامل مع الآخرين وتعليمهم أيضاً الأفكار اليابانية التقليدية مثل مكانة الفرد في المجتمع، كما أن التعليم يكسبهم موقفاً تعاونياً ومن ذلك أن التلاميذ في المدارس يتعلمون ومنذ سن مبكرة كيف يتعاونون مع الآخرين في إنجاز الأعمال المنزلية. حيث يقومون بإحضار وجبة الطعام، ويجمعون الأدوات، ويرمون القمامة، وينظفون المكان بعد الفراغ من الأكل. وفي المدرسة يتناوبون تنظيف وتنظيم الفصل الدراسي في نهاية الدوام، وفي بعض المدارس يُعقد اجتماع في نهاية اليوم الدراسي يضم الطلاب ومدرسيهم وذلك من أجل مناقشة المستجدات كما انهم يتحاورون ويفكرون بصورة جماعية بأحداث وتجارب اليوم الدراسي المنصرم وذلك بهدف تحسين الأداء في اليوم التالي وعدم تكرار الأخطاء. وبهذا الأسلوب يساعد التعليم المدرسي النظامي على خلق علاقات جماعية بين الطلاب مما يسهل عملية التدريب في المستقبل.
أما عند الحديث عن التدريب في مواقع العمل فإننا نجد أن صاحب العمل والموظف المستجد يستثمران في التدريب بغية تعزيز قيمة علاقة العمل. هذا وقد أشرنا إلى نوعين من التدريب وهما التدريب التقني والتدريب على علاقة العمل. أما الأول وهو التدريب التقني فإن الفوائد المترتبة على الاستثمار فيه تؤدي إلى تعزيز الكفاءة التقنية. أما الثاني وهو التدريب على علاقات العمل فإن الاستثمار فيه يؤدي إلى تعليم العاملين كيفية التواصل فيما بينهم وجعل ذلك التواصل فعالاً ومفيداً، كما أن ذلك يعلمهم كيفية تقاسم المعلومات والمسؤوليات بالإضافة إلى تعليم بعضهم بعضاً أسرار العمل. ليس هذا فحسب، بل يتم تعليمهم كيف يتم التصدي والتعامل مع الخلافات التي قد تنشأ بينهم وكذلك حلها بصورة ودية وعقلانية. كما أن التدريب على علاقات العمل يشمل مهارات التعامل مع الآخرين مثل فهم سياسة مكان العمل، وتقاسم المعرفة، والقدرة على فهم الوقت المناسب للتحدث والوقت المناسب لالتزام الصمت.
نعم لقد ادرك اليابانيون أهمية التدريب على علاقات العمل واعتبروها جزءاً من قضية تعزيز الأمن الوظيفي ذلك أن أحد الأهداف الرئيسية للتدريب على علاقات العمل هو التقليل من حالات الفصل أو الاستقالة أو الانفصال غير الفعالة وخفضها إلى أدنى حد ممكن.
نعم لقد ثبت من أرض الواقع أن هذين النوعين من التدريب يعزز كل منهما الآخر. فالمعرفة الأساسية المكتسبة في المدرسة تؤثر تأثيراً ايجابياً في التدريب على المهارات التقنية، كما أن مهارات التعامل مع الآخرين المكتسبة في المدرسة أيضاً تسهم في تطوير مهارات علاقات العمل. وهذا يعني أن التعليم النظامي في المدرسة والتدريب في مواقع العمل عنصران متكاملان لا ينفصلان. والمتتبع لنظام التعليم والتدريب في اليابان يستنتج أن الذي عزز حافز التدريب لدى المؤسسات والشركات في اليابان إلى حد بعيد هو نجاح السياسات الاقتصادية والصناعية بصورة عامة ونجاح التعليم المدرسي النظامي في إعداد الطلاب للتدريب وغرس ثقافة العمل لديهم.
نعم لقد اعتمد الأسلوب الياباني اعتماداً قوياً على التدريب في مواقع العمل لبناء قوة عمل منتجة وذلك منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وهذا الأسلوب تفوق على الأسلوب الأمريكي في التدريب الذي يعتمد على التدريب المقدم من مصادر خارجية مثل مراكز ومعاهد التدريب، والمدارس المهنية والحرفية. لذلك فإن اعتماد اليابان على التدريب في مواقع العمل يعكس الاهتمام المعطى للتدريب على علاقات العمل بدلاً من الاقتصاد على التدريب الفني والتقني فقط.
أما على مستوى العالم فإن التقنية بدأت تغير دور الوالدين ذلك أن شبكة الإنترنت أصبح لها تأثير بالغ في العمل الذي يقوم به كل من الوالدين والأطفال. لذلك فلا بد للمدارس من أن تتبنى أساليب جديدة للتعليم يؤدي فيها التعليم الفردي والمرن دوراً مهماً مع أخذ التجربة اليابانية بعين الاعتبار. نعم إن التقنية ليست وحدها المسؤولة عن التغيرات التي تحدث أو سوف تحدث في قاعة الدراسة خلال القرن الجديد، بل إن النظام الاقتصادي الجديد سوف يحتم على قاعة الدراسة تغييراً يتوافق مع توجهاته المتجددة. لهذا فإن هناك طلبا متزايدا على الحلول التربوية للمشكلات الاقتصادية والأساليب التعليمية التي تسهم في النمو الاقتصادي. ومن هذا المنطلق سوف يصبح هناك تعاون وتنسيق لم يسبق لهما مثيل بين مدارس المستقبل والصناعة والأعمال الاقتصادية الأخرى. وهذا ما سوف يملي على التعليم التوجه المهني الذي يحتاجه مما يجعل التركيز على التعليم شاملا للتدريب بدلاً من التعليم ثم التدريب. وهذا التطور في مفهوم التعليم عالمياً هو الذي حدا باليابان إلى إعادة تقويم نظامها التعليمي الرسمي على الرغم من تفوقه. حيث اصدرت لجنة لدراسة الموضوع عينتها وزارة التربية والتعليم في اليابان عددا من التوصيات تؤطر كيفية إصلاح التعليم من الابتدائي وحتى الثانوي هناك. وقد كانت أهم تلك التوصيات ما يلي:
٭ خفض تغطية المحتوى 30٪ وذلك لكي يتمكن الطلاب من اتقان المهارات الأساسية بشكل أفضل مما هو حاصل الآن.
٭ استحداث برنامج لمدة خمسة أيام في الأسبوع للمدارس من رياض الأطفال وحتى نهاية المرحلة الثانوية.
٭ استحداث مقررات جديدة حول تقنية المعلومات واستخدام الحاسب والعلوم والتقنية كعلوم أساسية.
٭ دراسة أساليب التعليم الجديدة التي تُعوّد الطلاب على التفكير المستقل. وبالطبع فإن هدفهم من هذه الإصلاحات هو انها سوف تسهم في إنتاج خريجين أقل تقليداً وأكثر إبداعاً من الماضي مما يعزز من اسلوبهم القائم على التنسيق الوثيق بين التعليم النظامي والتدريب في مواقع العمل. وعلى العموم فإن اليابانيين يتمتعون بمزايا نسبية طوعوا لها نظامهم التعليمي مما مكنهم من تكييف المعارف والتقنيات الغربية وتعديلها وتطويرها والبناء عليها بحيث تعطي منتجات تجارية ذات أسعار تنافسية. وهاهي اليوم تصبح تقنية يابانية مستقلة تشق طريقها وتتمتع بالقدرة على المنافسة من خلال إنتاج معارف وتقنيات جديدة قوامها نظام تعليمي متميز وتدريب في مواقع العمل متواصل يعتمد على المقولة التي تقول إن بيئة العمل «مدى الحياة» هي التي لا يشكل فيها العامل الحديث العهد بالتخرج والتدريب خطراً على الأمن الوظيفي للمدرب الذي يعلمه مما يجعل المدرب لا يبخل بمهارته، ومعرفته، وتجربته، وقدراته على من يقوم بتدريبهم. ومما يؤكد ذلك التوجه والسياسة العملية، ان القدرة على تعليم وتدريب زملاء العمل تُعد عاملاً أساسياً من عوامل وضوابط الترقية في المؤسسات والشركات اليابانية. وهذه الحوافز والضوابط هي التي تجعل المدرب لا يخشى على مكانته أو وظيفته إذا احسن تدريب غيره. بل ابعد من ذلك فإن تخريج متدرب ناجح يصبح مصدر فخر لذلك المدرب وذلك لأن المدرب سوف تقدره الشركة على جهده ونجاحه كما أنه سوف ينظر إليه على أنه مدرب ناجح ينتج متدربين نافعين.
نعم إن توثيق الصلة بين التعليم النظامي والتدريب في مواقع العمل يعني استمرارية التعليم وهذا ما يطلق عليه هذه الأيام «التعليم مدى الحياة».
وفي الختام لا يعني إلا أن اشير إلى أن هناك عددا كبيرا من الدراسات والبحوث التي تتحدث وتدور حول تجارب الدول المختلفة في مجال التعليم ومن ذلك ما كتبه ماسانوري هاشيموتو عن التعليم في اليابان والذي اشرنا إلى بعض مما ذكره في ذلك الموضوع والمترجم من قبل مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية.
نعم مرة أخرى إن الحريص على تطوير التعليم لا بد من أن يستفيد من تجارب الأمم الأخرى ويأخذ أحسن ما فيها وبما يتناسب مع متطلبات المرحلة والبيئة المحلية والمنافسة العالمية الحادة ومعرفة أن الغلبة في الصراع العالمي لا بد وأن تكون للاقوى في التعليم بجميع عناصره وذلك لأنه المفتاح والأساس لجميع الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وكذلك العسكرية والأمنية.
ساحة النقاش