صـــــــــابــــــــــــــــــــــــــــــــرة ...
بقلمي د.هبه عبد الغني
في غرفة الجلوس كانت تجلس "صابرة" بين بعض نساء الحارة مرتدية جلبابًا قصيرًا تحول سواد لونه للرمادي من جفاء الزمن ، ضيق كحجرات بيت أبيها الذي تُسجنها فيه زوجة أبيها منذ أكثر من عشرين عامًا وتعاملها كخادمة ، حتى أصبح ذلك الجلباب جزءًا لا يتجزأ من جسدها الهزيل بل واصطبغ جلدها بسواد لياليه القاسية ...
من الحين للآخر تجذب الوشاح على رأسها ذات النتوءات الفارغة .. تنظر لساعة الحائط البالية .. الوقت يمر ببطء .. الصمت يحيط بالمكان يسأل عن المجهول المُنتظر مع الساعات القادمة .. تخرج مغسلة الموتى من حجرة زوجة أبيها بعد أن أنهت مهمتها "..لعلها غسلتها من ذنوبها" هكذا تمتمت إحدى نساء الحارة ... بينما "صابرة" لا تبالي بما يحدث فقط تنظر لمن حولها وللساعة .. تجذب وشاحها .. يدق قلبها باضطراب منتظرة مصيرًا لا تعلمه .. فمنذ أن توفى أبوها وهي في السابعة من عمرها استعــبــدتـــها زوجة أبيها وابنتها من زوج أخر ، حرمتها من التعليم .. لم تكن تخرج من المنـزل إلا لقضاء حوائجهم...
حتى يوم فكرت "صابرة" في الهرب من ذلك السجن إلا أن زوجة أبيها منعتها وصبت عليها من ألوان العذاب ما أنهك جسدها الضعيف ، بل سجنتها بالمنزل وغلّقت جميع النوافذ والأبواب .. أصبحت "صابرة" لا ترى نور الشمس لا تشم رائحة الحياة .. لا ترى طيورًا ولا بشرًا ... فقط سجّانتها القاسية متحجرة القلب حتى أن ابنة زوجة أبيها لم تعًد تزورها بعد زواجها ، عاشت حياتها بعيدًا عن تلك الأم وذلك السجن المظلم الكئيب الذي طالما حلمت "صابرة" وتمنت الفرار منه .. طالما حلمت وتمنت رؤية جسدها بدون تلك الكدمات .. حلمت وتمنت رؤية رأسها بدون تلك الندبات والنتوءات .. رؤية شعرها الناعم الذي كانت تهذبه والدتها كل ليلة وهي نائمة بين أحضانها الدافئة ...
انتبهت "صابرة" لطرقات الباب فأسرعت وفتحته لتجد ابنة زوجة أبيها ترمقها بنظرات الشك وتسرع لغرفة والدتها ، دخلت وأغلقت الباب في وجه الجميع ... جلست "صابرة" مكانها خائفة ترتعش من برد المجهول والمصير المُنتظر .. بعد قليل طلبت إحدى السيدات من "صابرة" الدخول لغرفة المرحومة فالمشيعون ينتظرون في الأسفل لدفنها ، توجهت "صابرة" لغرفة زوجة أبيها وفتحت الباب بعفوية فوجدت الغرفة رأسًا على عقب بينما الابنة تخفي في حقيبة يدها سلسلة ذهبية وبعض النقود .. رمقت "صابرة" بنظرة استهانة وأزاحتها بقوة قائلة : " ليس لي حاجة في هذا البيت الخرب"
وخرجت من المنزل سريعًا وركبت سيارة زوجها الفارهه ورحلت ... ورحلت معها مخاوف "صابرة" دخل عدد من الرجال وقاموا بحمل نعش زوجة أبيها لدفنها .. وخرجت خلفهم سيدات الحارة كلً إلى منزلها وكأن شيئًا لم يكن ..
بينما أخذت "صابرة" تقفز هنا وهناك تدخل وتخرج بين غرف بيت أبيها وكأنها ولأول مـــرة تراها .. اتسعت في عيونها الحجرات غير مصدقة موت السجّان .. ألقت الوشاح بعيدًا .. بعثــرت ما بقي من شعر فوق رأسها .. نزعت ذلك الجلباب عن جلدها .. فتحت النوافذ والأبواب .. صعدت فوق سطح منزلها تتنفـــــــــــــــــــــــــــــس هواء الفجــــــــــر ... تلوح للطيور ، لأول مرة منذ عشرين عامًا ترى نور الشمس تفرد ذراعيها لأشعة الشمس متمنية أن تلسعها بسخونتها .. تدور وتدور تداعب النسائم راغبة أن يحتضنها النسيم ويحملها بعيـــــــــــــــدًا عن ذلك السجن وتلك الذكريات .. تضحك وتضحك ..
تصيح بكل قوتها : "انتصرت ، وانتصرت حريتي"
فيجيبها صدى صوتها :"انتصرت ، وانتصرت حريتي"