تعد الليبرالية الجديدة Neo-Liberalism الاتجاه الفكري والأيديولوجي السائد في الغرب منذ منتصف السبعينات وحتى الآن، على المستويين السياسي والاقتصادي. وهو اتجاه يدعو إلى اتخاذ مجموعة من السياسات، أهمها الإقلال من دور الدولة في الاقتصاد إلى الحد الأدنى، وتفعيل حرية السوق. وهذا ما أدى عند التطبيق إلى انسحاب الدولة من كثير من مسؤولياتها الاجتماعية السابقة التي كانت تتولاها منذ بداية القرن العشرين. وفي ظل سياسات التحرير الاقتصادي والخصخصة أصبح مفهوم العدالة الاجتماعية مهملاً، إذ تم السكوت عنه وتناسيه لدى بعض مفكري الليبرالية الجديدة، وتمت مواجهته بالإنكار والهجوم والنقد اللاذع من قبل آخرين من ممثلي الاتجاه، وأهمهم المفكر وعالم الاقتصاد النمساوي الأصل البريطاني الجنسية فريدريك أوجست فون هايك (1899-1992)، الحائز على جائزة نوبل وصاحب الإنتاج الفكري الذي يشكل الدعامة الأساسية لاتجاه الليبرالية الجديدة. 
ولا نجد لدى هايك نقدا وهجوما على مفهوم العدالة الاجتماعية وحسب – إذ يصفها بأنها وهم، وهذا هو عنوان أحد أشهر مؤلفاته "وهم العدالة الاجتماعية"- بل نجد كذلك إنكاراً لبعض أهم مبادئ العلم الاجتماعي؛ إذ ينكر وجود شئ اسمه المجتمع من الأساس، ويذهب إلى أن كل ما هنالك مجرد أفراد يرتبطون معاً بعلاقات هي في جوهرها علاقات اقتصادية تُرد في النهاية إلى معاملات السوق. ومع إنكار هايك للمجتمع وتشكيكه في أن يكون مقولة تفسيرية مستقلة للظواهر الاجتماعية، يصبح بذلك المدافع الأيديولوجي الهام والأخطر عن الرأسمالية غير المقيدة وغير الملتزمة بأي مسؤوليات اجتماعية. وقد كانت نظرياته وأفكاره التبرير الأيديولوجي النظري والمتحيز جداً لسياسات الليبرالية الجديدة التي أدت في النهاية إلى ما نراه حالياً من أزمات أصابت مجتمعات العالم. لقد تخلت الرأسمالية المعاصرة عن المجتمع وعن العدالة الاجتماعية، وفريدريك هايك هو من نجد لديه التبرير الإيديولوجي لذلك. 
يعد هايك من أهم وأشهر المفكرين الليبراليين في القرن العشرين. انتمى في بداية حياته للمدرسة النمساوية في الاقتصاد السياسي والتي تعد أحد فروع الاقتصاد النيوكلاسيكي الذي ظهر ابتداء من سبعينات القرن التاسع عشر على يد كارل مينجر في النمسا ووليم ستانلي جيفونس في بريطانيا وليون والراس في سويسرا وفرنسا. وكان هايك تلميذا لعَلَمَين شهيرين في المدرسة النمساوية: فريدريك فون فيزر ولودفيج فون ميسز التلميذين مباشرين لمنجر( 1). أحيت المدرسة النمساوية الاتجاه الليبرالي في الاقتصاد السياسي الذي كان قد ظهر مع آدم سميث لكنه تعرض للاضمحلال نتيجة صعود الاقتصاديات الاشتراكية والماركسية والديمقراطيات الاجتماعية. أعادت المدرسة النمساوية الأفكار الليبرالية القديمة المتعلقة بحرية السوق وبسياسات دعه يعمل دعه يمر وبأفضلية النظام الرأسمالي على الاقتصاديات المخططة والاشتراكية.
انشغل هايك في بداية حياته الفكرية بالأعمال الاقتصادية وأخرج عددا من المؤلفات التي تسير في الاتجاه الليبرالي للمدرسة النمساوية، لكنه من منتصف الأربعينات توجه إلى الأعمال الفكرية والفلسفية ليقيم فلسفة ليبرالية تعيد إحياء التراث الليبرالي القديم وتخدم نظريته الاقتصادية. يعبر التراث الليبرالي الذي يتبناه هايك عن نزعة فردية Individualism . تتمثل هذه النزعة في النظر إلى الفرد على أنه هو الوحدة الأولى المكونة للجماعة، و النظر إلى الجماعة على أنها ليست إلا مجموع أفرادها. و تترتب على هذه النزعة مجموعة من المسلمات:
أ. ينشأ المجتمع بكل نظمه نتيجة اتفاق إرادي و طوعي بين الأفراد.
ب. إن ما يدفع الأفراد للدخول في مجتمع الرغبة في الحفاظ على حقوقهم الطبيعية وممتلكاتهم التي تتعرض للخطر إذا لم يكن هناك نظام يحميها.
ج. يتحقق النظام في المجتمع بطريقة تلقائية و بدون تخطيط مقصود. فلأن المجتمع ليس إلا مجموع أفراده المكونين له، يتحقق الخير العام بسعي كل فرد نحو مصلحته الخاصة.
د. المصلحة العامة هي مجموع مصالح الأفراد و هي في طبيعتها مصلحة فردية معممة على المجتمع كله.
هـ. الآلية التي تحقق النظام و التوازن التلقائي في المجتمع تشبه في عملها طريقة عمل اقتصاد السوق
و. نظرت الليبرالية إلى القيم على أنها ذاتية، أي يمتلكها الأفراد فقط، أما المجتمع فلأنه شئ مصطنع فهو محايد تجاه القيم.
و الحقيقة أن المسلمات السابقة تحبط أي محاولة للتفكير العلمي في المجتمع، ذلك لأنها لا تعطي للمجتمع استقلالا عن أفراده و تنظر إليه على أنه شئ مصطنع، وتستبعد أن يكون المجتمع نفسه مبدأ لتفسير الظواهر الاجتماعية، فالأفراد بأهدافهم الجزئية هم مبدأ التفسير لدى الليبرالية لا المجتمع كمقولة مستقلة. كما أن الذهاب إلى أن النظام يحدث بصورة تلقائية أو بفعل يد خفية أو آلية شبيهة بآليات السوق يستبعد أي تفكير سوسيولوجي في المجتمع، ذلك لأن هذه الطريقة في التفكير تنظر إلى المجتمع على أنه سوق كبير وبالتالي تختزل الظواهر الاجتماعية إلى البعد الاقتصادي. و لهذا السبب كانت العقيدة الليبرالية مناسبة تماما للاقتصاد السياسي النيوكلاسيكي. والحقيقة أن هذا ما يجعل الصورة المتطرفة لليبرالية التي يتبناها هايك تعبر عن نزعة شكية Skepticism تنكر وجود المجتمع مستقلا عن أفراده، وتنكر مفهوم العدالة الاجتماعية في سبيل تصور فردي عن العدالة باعتبارها تكافؤا في الفرص يتيحه اقتصاد السوق. وسنحاول في هذه الدراسة تتبع هذه النزعة الشكية في أعمال هايك مع ما رافقها من نزعات نسبية Relativism ولاأدرية Agnosticism.
الأساس الاقتصادي لليبرالية هايك: 
لا يمكن فهم ليبرالية هايك إلا بالبحث في أساسها الاقتصادي، ذلك لأنها ليست مجرد دعوة فكرية للمبادئ الليبرالية، بل هي امتداد فكري لنظريته الاقتصادية، تلك النظرية التي تعد امتدادا للمدرسة النمساوية في الاقتصاد السياسي التي أسسها كارل منجر بعد أن ألف كتابه الشهير "مبادئ الاقتصاد" سنة 1871 والذي أصبح خيطا هاديا للمدرسة. واجهت هذه المدرسة الاقتصاد الماركسي والمبادئ الاشتراكية بعنف ودافعت باستماتة عن الليبرالية الاقتصادية في عصر شهد صعود الحركات الاشتراكية على نطاق عالمي، وشهد أيضا تبني الدول الرأسمالية للسياسات الكينزية التي كان قد أوصى بها المفكر الاقتصادي الإنجليزي جون مينارد كينز من الثلاثينات والتي تقوم على توجيه الدولة للاقتصاد في الدول الرأسمالية فيما يعرف ببرنامج دولة الرفاهية.
واجهت المدرسة النمساوية كل صور الاقتصاد المخطط، الاشتراكية منها والكينزية، وسواء كانت على خطوط الماركسية أو الشيوعية أو الديمقراطية الاجتماعية أو سياسات الاتفاق الجديد New Deal ابتداء من عهد روزفلت. وفي ظل هذا الجو غير المؤيد مطلقا للصورة القديمة لليبرالية باعتبارها ترك آليات السوق تعمل بحرية على أساس أن هذه الآليات كفيلة في حد ذاتها بعلاج الأزمات الاقتصادية وبتسيير النظام الرأسمالي تسييرا ذاتيا دون تخطيط، ظهرت الليبرالية الاقتصادية للمدرسة النمساوية وللمدارس النيوكلاسيكية المثيلة لها في إنجلترا وأمريكا على أنها غير مناسبة للوضع العالمي الجديد للرأسمالية الذي استلزم تدخل الدولة في الاقتصاد لعلاج أزماته وتناقضاته المزمنة. وفي ظل هذا السياق ظلت المدرسة النمساوية على إصرارها على الليبرالية الاقتصادية ورفض كل صور الاقتصاد المخطط، وظلت متمسكة بالصورة التقليدية لليبرالية الاقتصادية التي ترجع إلى آدم سميث ومدرسته في الاقتصاد السياسي( 2)، حتى مكنت التطورات اللاحقة للنظام الرأسمالي من عودته إلى الشكل الليبرالي القديم بالتخلي عن دور الدولة في الاقتصاد وعن التخطيط الاقتصادي بالعودة إلى مفاهيم حرية السوق وتطبيق سياسات الخصخصة والتحرير الاقتصادي ابتداء من السبعينات. وعند هذه اللحظة لم يجد العالم الرأسمالي سوى فريدريك هايك آخر ممثل للمدرسة النمساوية وللجيل الأخير للاقتصاد النيوكلاسيكي هو وميلتون فريدمان تلميذه الأمريكي باعتبارهما الأساس الفكري الذي يمكن للأيديولوجيا الليبرالية الجديدة من الاعتماد عليهما في ترويج أفكارها كتبرير للتحول الجديد للرأسمالية نحو الشكل التقليدي لليبرالية الاقتصادية وحرية السوق. ولأن هايك هو آخر من بقي على قيد الحياة من الجيل القديم للمدرسة النمساوية ولأنه ظل نشيطا في هذه الفترة فقد كان هذا من بين أسباب رواج أفكاره حتى الآن على مستوى العالم الرأسمالي. 
لكن عندما كان هايك يقاوم مبادئ التخطيط المركزي للاقتصاد في أوج عصر التخطيط الاقتصادي لم يتمكن من الاستمرار في الدعوة لليبرالية الاقتصادية من منطلق اقتصادي، وذلك بسبب أن الاقتصاديات الكلية والاجتماعية كانت تقدم بدائل ناجحة بالفعل لاقتصاد السوق وأكثر قدرة على التفسير الاقتصادي، مما أدى إلى أن أصبحت أصواتها هي المسموعة. وهذا ما دفع هايك نحو التحول عن الدراسة الاقتصادية وإلى الانتقال إلى مستوى الأفكار والنظريات والفلسفات لتبرير ليبراليته، وكأنه أراد هزيمة التخطيط الاقتصادي والاشتراكية على أرضية الفكر والأخلاق والأيديولوجيا. فبعد أن كانت أعمال هايك في الثلاثينات وأوائل الأربعينات تدور حول الموضوعات الاقتصادية البحتة مثل الأسعار وتكاليف الإنتاج والنقود والربح والفائدة والائتمان ورأس المال، أصبحنا نراه ابتداء من 1944 وقد انتقل إلى المستوى الأيديولوجي ليقدم تبريرا أيديولوجيا لليبرالية الاقتصادية بعد أن فشلت كل التبريرات الاقتصادية أمام الاقتصاديات الاجتماعية. وإلى هذا التحول تنتمي معظم أعماله وأشهرها: الطريق إلى العبودية (1944)(3 )، دستور الحرية (1960)(4 )، دراسات في الفلسفة والسياسة والاقتصاد (1967)) (، القانون والتشريع والحرية (1973، 1976، 1979)) (، الغرور القاتل (1988)) 5(. ومن ثم فلأن فلسفة هايك السياسية ليست سوى تبرير أيديولوجي لنظرية اقتصادية خاصة، ولأن هذه الدراسة تركز على النزعات النسبية والشكية واللاأدرية لفلسفته الليبرالية، فسوف نبدأ باكتشاف أساس هذه النزعات في نظريته الاقتصادية أولا، ثم تناولها كما تظهر في أعماله الفكرية. 
الحقيقة أن الاتجاه الليبرالي في الاقتصاد السياسي لم يكن من إبداع المدرسة النمساوية أو الاقتصاد النيوكلاسيكي، بل إن لهذا الاتجاه جذوره لدى بعض المفكرين الاقتصاديين من القرن التاسع عشر، الواقعين بين ريكاردو من جهة ومنجر وجيفونز ووالراس من جهة أخرى، وهي الفترة الممتدة من عشرينات إلى ستينات القرن التاسع عشر. ومن بين هؤلاء صمويل بايلي ورامزاي ومكالوش روشر. وقد تناول ماركس أعمالهم بالنقد وأسماهم "الاقتصاديون المبتذلون" Vulgar Economists. نجد لدى هؤلاء الاقتصاديين معظم مبادئ الاتجاه النمساوي والنيوكلاسيكي) (، ونستطيع القول أن الاقتصاد المبتذل هذا قد سبق هذين الاتجاهين في مبادئهما ونظرياتهما الأساسية كما سيتضح فيما يلي. وما يهمنا في موضوع دراستنا أن النزعات الشكية والنسبية المميزة لليبرالية هايك وللاتجاه النمساوي كله قد سبق ظهورها بالفعل لدى الاقتصاد المبتذل، ذلك الاقتصاد الذي كان مفكروه موضع استشهاد وإحالة دائمة ومتعددة في مؤلفات المدرسة النمساوية من كارل منجر إلى هايك.
إن معظم من أرخوا للاقتصاد النيوكلاسيكي لم ينتبهوا إلى أن لهذا الاقتصاد جذور لدى المفكر الاقتصادي الإنجليزي صمويل بايلي (1791-1870). ألف بايلي كتابا هاما سنة 1825 عنوانه "أطروحة نقدية في طبيعة وقياس وأسباب القيمة، بالإشارة أساسا إلى كتابات ريكاردو وأتباعه". Critical Dissertation on the Nature, Measure, and Causes of Value (1825) وضع بايلي في هذا الكتاب الفكرة الأساسية التي سوف يدور حولها كل الاقتصاد النيوكلاسيكي ويتخذها أساس نظريا له. ففي نقد بايلي لريكاردو رفض أن تكون القيمة عائدة إلى العمل المبذول في إنتاجها، ونقد نظرية العمل في القيمة Labour Theory of Value ووضع بدلا منها نظرية أخرى تقول إن القيمة هي علاقة بين سلعة وأخرى، بحيث تُحدد فائدة كل سلعة وكميتها قيمتها بالنسبة للسلعة الأخرى المتبادلة معها حسب فائدتها وكميتها أيضا. ومعنى ذلك أن القيمة عبارة عن علاقة بين سلعة وأخرى داخلين في علاقة تبادل.
قدم بايلي هذه النظرية باعتبارها وصفا واقعيا للقيمة كما تظهر في اقتصاد السوق. هذا الاختزال للقيمة إلى العلاقة التبادلية بين السلع هو اختزال لها إلى قيمتها التبادلية، وحدد بايلي السعر بناء على ذلك بأنه تعبير عن علاقة سلعة بأخرى، لا تعبيرا عن كمية العمل المبذول في إنتاجها. وذهب إلى أنه ليست هناك قيمة جوهرية واحدة وثابتة للسلع، فالقيمة نسبية وهي ليست سوى ارتباط معين association بين السلع) 6(. وكان بايلي بذلك مكررا لنظرية ديفيد هيوم في المعرفة ومعبرا عنها بلغة الاقتصاد عندما رد هيوم السببية لا إلى خاصية كامنة في الشئ تجعله سببا في ظهور شئ آخر بل إلى مجرد عادة ذهنية تربط السابق باللاحق واللذان يظهرات تجريبيا على أنهما يدخلان في علاقة ترابطية وحسب. وكان بايلي بذلك هو الذي أدخل النزعة التجريبية الشكية في الاقتصاد السياسي، تلك النزعة التي تنظر إلى العلاقات الاقتصادية على أنها علاقات ترابط بين السلع في غيبة العمل الإنساني، والتي تنكر أن يكون للقيمة أي مقياس ثابت مثل العمل أو كميته أو زمنه. وقد أصبحت تلك النزعة هي ما يميز الاقتصاد النيوكلاسيكي كله وبالأخص النظرية الاقتصادية لهايك التي تعد ليبراليته التعبير الفلسفي الأيديولوجي عنها. واعتماد الاتجاه النيوكلاسيكي على هذه النظرية هو الذي مكنه من تجاوز النظرية العمالية في القيمة لدى ريكاردو وماركس. 
وتمثلت الإضافة التي حققها الاتجاه النيوكلاسيكي على بايلي في إدخاله لمفهوم المنفعة الحدية في سياق النظرية الترابطية عن القيمة؛ ذلك لأن المنفعة لديهم أصبحت هي الخاصية الكامنة في السلعة والتي تتمكن بها من إقامة علاقة تبادلية مع سلعة أخرى. وبذلك أخذ النيوكلاسيك المنفعة باعتبارها ذلك الثابت الذي يستطيعون به إقامة ترابط ما أو علاقة تبادلية بين سلعة وأخرى، وكانوا بذلك يهدفون العثور على شئ ثابت غير العمل يضعونه باعتباره الوسيط الثابت الذي على أساسه تتحدد القيمة. إنك لا تستطيع أن تقيم القيمة باعتبارها علاقة تبادلية وترابطية بين سلعة وأخرى ما لم يكن لديك حدا أوسط ثابتا رابط بينهما، وكان هذا الحد الأوسط هو العمل عند ريكاردو وماركس، أو زمن العمل الضروري اجتماعيا كما عبر عنه ماركس بدقة، لكنه أصبح المنفعة. وبذلك لم يكن النيوكلاسيك معبرين عن هيوم ونزعته النسبية الشكية في فكرته عن العلاقة الترابطية باعتبارها حقيقة العلاقة السببية وحسب، بل أعادوا إنتاج نزعته الهيدونية النفعية، ذلك لأن اتخاذهم للمنفعة باعتبارها الثابت الذي يؤسسون عليه العلاقة بين السلع واستبعادهم للعمل الإنساني باعتباره الثابت الحقيقي إنما كرروا هيدونية هيوم التي ورثها عنه بنتام ومالتوس وبايلي الذين يعدون الآباء الروحيين للاتجاه النيوكلاسيكي كله بما فيه هايك. وكان هذا التراث الإبستمولوجي والأخلاقي للنزعة النسبية الشكية هو الذي مكن الاتجاه النيوكلاسيكي من النظر إلى السوق على أنه المجال المحدد للقيمة، بما أن القيمة باعتبارها علاقة بين السلع وباعتبارها منفعة تقاس بالنسبة لمنفعة أخرى لا تتحدد إلا في السوق. وهكذا حل السوق محل الإنتاج وعلاقات الإنتاج باعتباره المحدد الأول والنهائي للعملية الاقتصادية. 
وتظهر النزعة النسبية واضحة في نظرية هايك الاقتصادية والتي تعد استمرارا للاتجاه النيوكلاسيكي وسلفه في الاقتصاديين المبتذلين وعلى رأسهم بايلي، إذ نرى لدى هايك تشابها كبيرا مع رؤية بايلي. ففي الأعمال الاقتصادية الأولى لهايك يتضح أنه يرد القيمة إلى السعر، ولأن الأسعار تختلف دائما بين الارتفاع والهبوط فقد توصل هايك من ذلك إلى أنه ليست هناك قيمة ثابتة، بل ورفض أن يناقش القضايا الاقتصادية من منطلق القيمة وركز على السعر وعلى تكاليف الإنتاج. أما عندما كان مفهوم القيمة بفرض نفسه على التحليل فكان هايك يستعين بمفهوم القيمة لدى النيوكلاسيك، وهو المفهوم الذاتي الذي يفهمها على أنها الفائدة أو النفع الفردي، والذي يردها إلى مجرد تفضيل استهلاكي بين السلع وفق نظرية المنفعة الحدية) 7(. إن الخطأ الذي وقع فيه هايك، ووقع فيه الاتجاه النيوكلاسيكي كله، أنه أخذ أمرا واقعا على أنه معيار وقانون، أي أخذ القيمة باعتبارها شيئا يعبر عنه في السعر، وأخذ واقعة أن الأسعار في تغير دائم على أنها دليل على التغير الدائم للقيمة ومن ثم نسبيتها، ومصدر هذه النسبية أن العلاقة التبادلية بين السلع في تغير دائم؛ صحيح أنها كذلك في ظل أسلوب الإنتاج الرأسمالي، إلا أن السبب في ذلك أن هذا الأسلوب في الإنتاج يخفي المصدر الحقيقي للقيمة وهو العمل الإنساني ويضع بدلا منه العلاقة التبادلية بين السلع التي تظهر في السوق. كي يكون للقيمة سعر من البداية، أي كي تجد السلع تعبيرا عنها في النقود، فهي في حاجة إلى أساس عام تقاس عليه، وهذا هو العمل الإنساني المنتج للسلع ذاتها. ولا تصبح النقود معادلا كليا للسلع إلا بفضل تعبيرها الإسمي والمجرد عن زمن العمل الضروري اجتماعيا لإنتاج السلع. ولا تتمكن السلع من المتبادل مع بعضها البعض بصرف النظر عن اختلافاتها الكيفية والكمية إلا إذا كان بينها شئ مشترك من البداية يتم على أساسه هذا التبادل، والشئ المشترك الوحيد بين السلع المختلفة هو العمل المبذول في إنتاجها. هذه هي النظرية التي استطاع بها ماركس تجاوز النزعة النسبية الشكية للاقتصاد المبتذل والتي أنكرت أن يكون بين السلع قيمة مشتركة أو أساس ثابت وذلك بسبب إنكاره لكون العمل هو القيمة الحقيقية. وعندما عاد هايك متابعا النيوكلاسيك إلى مبادئ الاقتصاد المبتذل كرر نفس عقيدة الاقتصاد المبتذل في النظر إلى القيمة على أنها مجرد علاقة بين السلع وذلك بسبب تجنبه عن قصد لنظرية العمل في القيمة التي هي أساس نظرية ماركس الاقتصادية. 
كان المفهوم النسبي عن القيمة والمنفعة والذي ورثه هايك عن المدرسة النمساوية هو الأساس الذي بنى عليه نظريته الفلسفية الليبرالية القائلة بعدم وجود قيمة عليا لها الأولوية، وأن التفضيل بين القيم يرجع إلى الأفراد وحدهم، بحيث رد القيمة بذلك إلى مجرد اختيار فردي. ومعنى ذلك أنه عزل القيمة عن طابعها الاجتماعي، ورفض أن تكون هناك قيم اجتماعية مستقلة عن المصالح الفردية، ذلك لأن وجود قيم اجتماعية سوف يفتح عليه الباب الذي يريد إغلاقه إلى الأبد، وهو إمكانية وجود مساع اجتماعية نحو قيم وأهداف اجتماعية مما يتطلب التخطيط الاجتماعي، وهذا ما كان يتجنبه هايك بإصرار شديد في سبيل مفهومه عن السوق الحر الذي يسير دون تخطيط والقادر على تحقيق رفاهية الجميع تلقائيا عن طريق إتاحته لكل فرد السعي نحو تحقيق مصلحته الخاصة. فمصلحة الجميع عند هايك ليست مصلحة اجتماعية بل مصلحة فردية معممة على المجتمع كله. 
التبرير الأيديولوجي لاقتصاد السوق: 
إن اقتصاد السوق الرأسمالي لكونه مجرد مجال لتبادل السلع فهو لا يحتوي على علاقات اجتماعية مباشرة، وهذا ما يجعله خال من أي مبررات أو دعائم أخلاقية أو معيارية لأنه ليس في حاجة إليها، إذ هو محايد تجاه هذه الدعائم، ومعياره الأساسي هو التبادل العادل للمتساويات وحسب. ذهب كثير من المدافعين عن اقتصاد السوق إلى أن هذا الحياد القيمي والمعياري للسوق هو مصدر قوته، وأنه ليس في حاجة إلى مبررات معيارية أو قيمية لأنه يستبعد أي معيار خارجي سوى معيار التبادل العادل. وكان هايك في بداية تطوره الفكري مناصرا لهذه الوجهة في تبرير اقتصاد السوق، وظل مصرا طوال كتابيه الهامين: الطريق إلى العبودية (1944) ودستور الحرية (1960) على أن أفضلية اقتصاد السوق تتمثل في حياده القيمي(11 ). لكن مع صعود اتجاهات اليسار الجديد في الستينات وعودة التيارات الاشتراكية إلى الساحة الفكرية العالمية بعد أن تحررت من القهر الأيديولوجي الستاليني لم يستطع هايك الاستمرار في الدفاع عن السوق من منطلق الحيادية القيمية، واضطر إلى الإقرار بأن السوق الرأسمالي الحر يحقق بالفعل قيما وأهدافا عليا مثل الرفاهية والحياة الكريمة، وذلك في كتابه ذي الأجزاء الثلاثة "القانون والتشريع والحرية" (1973، 1976، 1979). وذهب هايك إلى أنه على الرغم من أن نظم السوق الحر لا تضع الرفاهية والحياة الكريمة كأهداف لعملية صنع القرار أو كموجه للتخطيط الاقتصادي إلا أن هذه النظم تحقق بالفعل مستويات معيشية أعلى من نظم الاقتصاد المركزي المخطط. وكان هايك معتمدا في ذلك على واقعة أن الرفاهية والحياة الكريمة كان يوفرها النظام الرأسمالي بأفضل مما توفرها الأنظمة الاشتراكية. لكن هذه مغالطة واضحة من جانب هايك، ذلك لأن مستوى المعيشة العالي الذي تحقق في الغرب الرأسمالي لم يكن بفضل اقتصاد السوق الحر بل بفضل برامج دولة الرفاهية والديمقراطية الاجتماعية التي هي في أساسها برامج في الاقتصاد المخطط.
كما يبرر هايك اقتصاد السوق الرأسمالي بذهابه إلى أنه هو الذي يتيح للفرد أكبر فرصة وأكبر مساحة في الاستقلال الذاتي Autonomy ، ويذهب إلى الربط بين هذا الاستقلال الذاتي والحياد القيمي للسوق، ذلك لأن حيادية السوق وعدم فرضه لأهداف مسبقة على الأفراد هو الذي يمكنهم من تطوير ذواتهم بحرية وفق الوجهة التي يريدونها دون التقيد بقيم وأهداف مفروضة عليهم. كما أن اقتصاد السوق عند هايك يتيح التوصل إلى اتخاذ قرارات عقلانية وذلك لأنه يتيح مجالا للمقارنة بين البدائل المتاحة والفرص القائمة وبذلك يمكن السلوك من تتبع منطق الأهداف والوسائل؛ ونستطيع القول إن السوق الحر عند هايك يقوم بدور "وحدة مقارنة كلية" Universal Unit of Comparison تكون مقياسا للقيام بالاختيارات. والحقيقة أن هذا المستوى العالي من التجريد الفلسفي يمكن ترجمته إلى ما يقصده هايك بالفعل وهو الاقتصادي المرموق في الأصل. إن ما يقصده هايك بهذا اللغو الفلسفي أن اقتصاد السوق لكونه يستخدم النقود وكمياتها باعتبارها تعبيرا عن الربح والخسارة فيستطيع الأفراد في هذا السوق اتخاذ قراراتهم والقيام بتفضيلاتهم بفضل وجود موجه عام يتحكم في أدائهم الاقتصادي، وهو الربح والخسارة المحسوبين بالنقود. وهكذا تهبط ليبرالية هايك إلى المستوى السوقي، لا السوق السلعي بل سوق النقد والأوراق المالية والأسهم والسندات، مستوى رجال الأعمال والمستثمرين ورجال البورصة.
ويأتي هايك بفكرة في غاية الذكاء حول نظام السوق، إذ يذهب إلى أن هذا النظام ليس نظاما اقتصاديا، وليس اقتصادا بالمعنى المعروف للكلمة، ذلك لأنه محايد حتى تجاه الأهداف الاقتصادية. يريد هايك أن يقول من ذلك أنه لا ينظر إلى نظام السوق على أنه نظام مؤسس لأجل غرض اقتصادي معين مثل تأسيس الرأسمالية مثلا، إذ تصل درجة دفاع هايك عن نظام السوق إلى أن يلحق به استقلالا حتى عن النظام الرأسمالي المرتبط به بالفعل. وبذلك يظل نظام السوق لديه محايدا حتى تجاه الأهداف الاقتصادية التي يمكن أن تسمى رأسمالية، إذ لو كان قد تمسك بالطبيعة الرأسمالية لنظام السوق فكأنه بذلك قد وضع له هدفا وغاية وبالتالي لن يبقى نظام السوق محايدا. إن هايك يذهب إلى أن نظام السوق الحر ينتج الرأسمالية تلقائيا وطبيعيا وبدون تخطيط مقصود، تماما كما تنتج شجرة التفاح تفاحا، وشجرة الزيتون زيتونا..إلخ. يريد هايك بذلك أن يتجنب وجهة النظر القائلة أن نظام السوق الحر قد تم وضعه وفرضه عن قصد كي يؤدي إلى ظهور الرأسمالية، ذلك لأن هذه الوجهة في النظر، التي هي بحق الوجهة العلمية التي كشفت عن حقيقة العلاقة بين السوق الحر والاقتصاد الرأسمالي، تؤكد على أن ظهور الرأسمالية جاء نتيجة تخطيط مقصود ومن أجل هدف محدد وهو تأسس الاقتصاد الرأسمالي، وهذا بالطبع ما لا يريده هايك. إن هايك ينظر إلى كل شئ على أنه ظهر تلقائيا وبصورة طبيعية، فالسوق الحر ينتج الرأسمالية لأن من طبيعته أن يفعل ذلك، تماما كما أن من طبيعة البقرة الحلوب أن تنتج حليبا. وهكذا نرى كيف أن هايك يرتد إلى نزعة طبيعية Naturalism و إلى فلسفة في الطبائع. 
والملاحظ على التبرير الأيديولوجي لاقتصاد السوق الرأسمالي من قبل هايك أنه يسير على مستويين. المستوى الأول هو مستوى النظرية الاقتصادية التي يبرر فيها الاقتصاد الرأسمالي بالأفكار الاقتصادية حول التوازن العام للنظام General Equilibrium والعدالة التوزيعية التي يحققها نظام السوق، والكفاءة التي تميزه في تعبئة الموارد والاستثمارات، وتمكنه من الإنتاج الكمي الموسع ومن توفير السلع الضرورية بأسعار رخيصة بفضل التنافس. هذه النظرية الاقتصادية مجرد أيديولوجيا، لكنها من المستوى الأول، المستوى المباشر الذي يتعامل مع المعطيات والوقائع الاقتصادية المباشرة لكنه ينظمها بحيث تخدم تبريره للرأسمالية؛ وكان هايك مركزا على هذا المستوى التبريري في بداية حياته وحتى منتصف الأربعينات، وأخرج في هذه الفترة كتبه الاقتصادية الشهيرة: "الأسعار والإنتاج" (1931)( 13)، "النظرية النقدية والدورة التجارية" (1933)) 12(، "النظرية الخالصة لرأس المال" (1941). أما فلسفة هايك الليبرالية فهي أيديولوجيا من المستوى الثاني، المستوى غير المباشر الذي يتعامل مع الأفكار والمفاهيم والقضايا النظرية والمذاهب. وهذا المستوى الثاني هو ما انشغل فيه هايك ابتداء من 1944 مع كتابه "الطريق إلى العبودية". صحيح أنه ظل يكتب في الموضوعات الاقتصادية طوال حياته ومن منطلق نفس أيديولوجيا الرأسمالية الليبرالية التنافسية، إلا أن أعماله في هذا الاتجاه كانت قليلة وكلها مقالات نشرت على فترات متفرقة، أما شغله الشاغل فكان تأسيس فلسفة ليبرالية تكون خادمة بصفة أساسية لرؤيته الاقتصادية عن الرأسمالية الليبرالية التنافسية، أي أيديولوجيا من المستوى الثاني.
يؤيد هايك فكرته عن أن السوق الرأسمالي ومعه الرأسمالية ذاتها قد نشأت تلقائيا دون تخطيط مقصود، وأن السوق الرأسمالي ذاتي التنظيم وذاتي التسيير، باستشهاده بالدراسات الحديثة في البيولوجيا وعلم السيبرناطيقا والفيزياء بعد نيلز بور. إذ يذهب إلى أن هذه العلوم أثبتت كيف أن نظاما طبيعيا يظهر تلقائيا ينظم في ذاته وبذاته التفاعلات البيولوجية والفيزيائية لظواهر الكون والكائنات الحية. ويقر هايك بأن اقتصاد السوق هو على شاكلة تلك التفاعلات الطبيعية لأنه يحتوي في داخله على مبدأ تنظيمه وتسييره الذاتي( 14). والحقيقة أنه بذلك يرتكب المغالطة التقليدية في النظر إلى ما هو إنساني على أنه طبيعي، وفي رد الظواهر الإنسانية إلى مجرد امتداد للظواهر الطبيعية أو إلى كونها هي ذاتها ظواهر طبيعية لا تتمتع بأي خصوصية إنسانية. وترجع هذه المغالطة إلى محاولات رد العلوم الإنسانية إلى العلم الطبيعي التي سادت المناخ الأكاديمي الغربي في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر كرد فعل على الاتجاهات التاريخية والماركسية في العلوم الإنسانية. وتعد المدرسة النمساوية في الاقتصاد السياسي التي ينتمي إليها هايك من بين المدارس التي تبنت اتجاه رد العلوم الإنسانية إلى العلم الطبيعي أثناء ما يعرف بالنزاع المنهجي Methodenstreit بين أنصار الاستقلال المنهجي للعلوم الإنسانية وأنصار ردها إلى منهجية العلم الطبيعي. وكان كارل بوبر، الذي يكشف فكره عن تقارب كبير مع فكر هايك، هو الذي أعاد فتح هذا النزاع مرة أخرى في أواسط القرن العشرين بكتابيه "المجتمع المفتوح وأعداؤه" و"عقم المذهب التاريخي". إن إنكار هايك لأي استقلال أو خصوصية للظواهر الإنسانية واختزالها إلى ظواهر طبيعية، وسعيه نحو إثبات أن ما يحكم عالم الطبيعة مثل قوانين التنظيم والتسيير الذاتي، يعد جزءا لا يتجزأ من نزعاته الشكية والنسبية واللاأدرية فيما يخص العالم الاجتماعي الإنساني.
ويعود هايك إلى فكرة اليد الخفية التي ترجع إلى آدم سميث ليدعم بها فكرته عن النظام التلقائي Spontaneous Order، وبالتالي يعود إلى فكرة السوق الذاتي التسيير دون سيطرة من المجتمع عليه، ويقول في ذلك: "فنحن مثلا نُقاد، بواسطة نظام التسعير في مبادلات السوق، لكي نفعل أشياء بظروف لا ندري عنها شيئا إلى حد كبير وتؤدي إلى نتائج لم نكن نقصدها"( 15). هذه هي الحتمية الاقتصادية التي يفرضها اقتصاد السوق الرأسمالي والتي تجعل الأفراد "منقادين" خلف قوانينه العمياء، والذي يُنتج من ذاته "نتائج لم نكن نقصدها". هذا هو التبرير المحافظ لاقتصاد السوق الرأسمالي الذي يسلم بنظام "التسعير" Price System باعتباره قدرا مقدورا على البشر لا فكاك منه. وتظهر النسبية والنزعة اللاأدرية في قول هايك: "وفي أنشطتنا الاقتصادية لا نعرف الاحتياجات التي نشبعها، ولا مصادر الأشياء التي نحصل عليها. إننا جميعا تقريبا نخدم أشخاصا لا نعرفهم، بل حتى نجهل وجودهم. ونحن بدورنا نعيش دائما على خدمات أناس آخرين لا نعرف عنهم شيئا. وهذا كله ممكن بفضل إطاعة قواعد سلوك معينة لم نضعها ولم نفهمها قط"( 16)، ويظل البشر أسرى لهذا النظام التلقائي الذي يعمل من خلف ظهورهم وبحتمية مثل قوانين الطبيعة. هذه هي فلسفة الجهل بعينها، تلك التي ترفع الجهل إلى مرتبة الفضيلة وتنظر إلى الطاعة العمياء لقوانين اقتصاد السوق الرأسمالي على أنها الحكمة العليا. والمدهش في الأمر أن يأتي هايك بمثل هذا الكلام وهو العالم الاقتصادي في الأساس، لأنه خير من يعرف أن مجالس إدارات الشركات الرأسمالية تعرف جيدا من تخدمهم ومن سيشتري منتجاتها؛ إنها على معرفة وثيقة بالسوق الذي خلقته بنفسها والذي تحافظ عليه دائما، فما الذي تفعله دراسات الجدوى وعمليات استطلاع السوق؟ كما أن هذه الشركات على معرفة تامة بـ "مصادر الأشياء التي تحصل عليها" وبمن يستفيدون منها ومن تستفيد منهم. يبدو أن هايك يصف لنا سوق السلع الاستهلاكية الذي نعرفه على مستوى الحس الشائع والخبرة اليومية ويحاول إيهامنا أن السوق الرأسمالي مثله مثل ذلك السوق. 
النظام الموسع: 
يقول هايك: ".. حضارتنا تعتمد، لا في نشأتها وحسب، بل وأيضا من أجل الحفاظ عليها، على ما لا يمكن أن يوصف بدقة إلا على أنه النظام الموسع للتعاون الإنساني، وهو نظام يعرفونه بصورة أكثر شيوعا – وإن كانت مضللة إلى حد ما – بالرأسمالية. ولكي نفهم حضارتنا يجب أن يقدر المرء أن النظام الموسع لم ينتج من تخطيط أو قصد بشري، بل بصورة تلقائية، وقد انبثق عن تطابق غير مقصود لعادات تقليدية وأخلاقية معينة إلى حد كبير"( 17). لا يمكن لهايك أن يفهم بقاء الحضارة إلا في ظل الرأسمالية. صحيح أن الرأسمالية خلقت تعاونا إنسانيا، إلا أنه التعاون المفروض على البشر وفق حتميات النظام الرأسمالي، إنه التعاون البشري الناتج عن تقسيم العمل وفق الأسلوب الرأسمالي في الإنتاج. هايك هنا يصف النظام التلقائي للتعاون البشري الذي فرضته الرأسمالية، ويوهمنا بأنه نظام تلقائي، بمعنى كونه حرا لكنه ليس كذلك، بل هو في الحقيقة نظام قسري وقهري. لم يكن هدف ماركس والاشتراكية العلمية الأساسي سوى أن يجعلوا النظام التعاوني الذي أتاحه تطور قوى الإنتاج خاضعا للتخطيط الواعي والعقلاني المقصود للبشر أنفسهم ويكف عن أن يكون نظاما أعمى يعمل من خلف ظهورهم. هذا بالإضافة إلى أن هايك في عبارته السابقة يكرر أطروحة فيبر حول صدور الرأسمالية باعتبارها نسقا معياريا من الأخلاق البروتستانتية، وهو بذلك يرد نشأة الرأسمالية إلى قيم تقليدية تراثية. 
والنظام الموسع عند هايك هو السوق الرأسمالي نفسه، لأنه يضمن التوزيع العادل والكفاءة الإنتاجية؛ ويقول في ذلك: ".. فليست هناك وسيلة معروفة غير طريقة توزيع المنتجات في سوق تقوم على أساس المنافسة لاطلاع الأفراد على الاتجاه الذي ينبغي أن يوجهوا جهودهم العديدة إليه، بحيث يتم توزيع أكبر قدر ممكن من الإنتاج الكلي"( 18). ألا يعلم هايك أن السوق الرأسمالي قائم على العلاقة الطبقية بين رأس المال والعمل المأجور والذي ينفي مسبقا أي إمكانية للتوزيع العادل؟ إن المشكلة الحقيقة ليست في توزيع عادل للإنتاج الكلي عن طريق السوق، بل في علاقات الإنتاج ذاتها التي تمكن فئة واحدة من الاستحواذ على عناصر الإنتاج، كما أن المشكلة ليست في توزيع الإنتاج الكلي بل في توزيع وسائل الإنتاج. عندما تكون وسائل الإنتاج هذه حكرا في يد طبقة فإن اللامساواة بذلك تصبح كامنة في نظام الإنتاج نفسه ولا يمكن علاجها أبدا بعدالة في توزيع المنتج النهائي على أساس سوق حر.
كما يواجه هايك السوق الحر الذي يحقق عدالة في التوزيع تلقائا والسلطة المركزية التي تمارس التوزيع بنفسها( 19). لم يدع ماركس أبدا إلى مثل هذه السلطة المركزية، فالنظام الاشتراكي لديه لا يفرض من أعلى بل ينشأ من أسفل، من تعاون المنتجين المباشرين كي يصبحوا هم المسيطرين على العملية الإنتاجية بدلا من رأس المال. وهايك بذلك يخلط بين هذه الفكرة وبين الأنظمة التي ادعت أنها اشتراكية ومارست توزيعا فوقيا سلطويا بعد أن ألغت السوق الرأسمالي. الحقيقة أن هايك يتناسي في نقده للتخطيط المركزي وللسلطة المركزية التي تباشر التوزيع أن النظام الرأسمالي نفسه الذي يدافع عنه هو هذه السلطة المركزية بعينها، وهو سلطة مركزية لا تباشر توزيعا عادلا في سوق حر بل تباشر عملية إدارة العملية الإنتاجية ذاتها بهدف الربح والتراكم الرأسمالي؛ كما أن الرأسمالية التي يدافع عنها هي التي تمارس التخطيط المركزي للعالم كله عن طريق مجالس إدارات الشركات متعددة الجنسية والحلف العسكري الصناعي في الدول الرأسمالية والمؤسسات المالية لرأس المال العالمي مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. ما هي الوظيفة الحقيقية لمثل هذه المؤسسات سوى التخطيط المركزي السلطوي لحركة النقود والسلع على مستوى العالم؟ أليست هذه هي العولمة الحادثة الآن؟.
ويذهب هايك إلى أن نظام السوق الحر هو الموفر لأكبر قدر من المعرفة التي تمكن الأفراد من السلوك والفعل، أما النظام الاشتراكي فهو لا يتيح هذه المعرفة، لأنه يحتكرها بطبعه) 20(. والحقيقة هي العكس من ذلك تماما، ذلك لأن المعرفة، وهايك يقصد بها معلومات السوق، ليست متاحة للجميع في ظل الرأسمالية، بل هي حكر في يد المؤسسات الاقتصادية صاحبة القرار. إن الهدف الأساسي من قوانين الملكية الفكرية هو منع المعرفة التقنية من الوصول إلى المنافسين واحتكارها في أيدي المؤسسات الكبيرة في الغرب. هذا علاوة على أن المعرفة التي يقصدها هايك هي في حقيقتها معرفة المستهلكين بالأسعار في السوق ومعرفة المنتجين الصغار بأسعار عناصر الإنتاج، فحتى المعرفة تم اختزالها تجاريا في معرفة السعر.
تعني فكرة النظام الموسع عند هايك لا مجرد الاقتصاد الرأسمالي وحده بل المجتمع الملحق به، أي التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية للرأسمالية. وهو عندما يستخدم كلمة النظام الموسع باستمرار فإنه يقصد به المجتمع الرأسمالي الذي أنشأه النظام الاقتصادي الرأسمالي باعتباره ملحقا وتابعا له. صحيح أن المجتمع الرأسمالي القائم ملحق بالاقتصاد الرأسمالي، إلا أن تبريرات هايك لهذا النظام الموسع لا تعني أبدا تناسبا بين الاقتصاد الرأسمالي والمجتمع الإنساني. إن التناسب هو فقط بين الرأسمالية وما أنتجته من نظام اجتماعي ملحق بها، فمن الطبيعي والمنطقي أن يناسب المجتمع الذي خلقه النظام الرأسمالي هذا النظام نفسه. يأخذ هايك هذا التناسب على أنه دليل على تكامل النظام الموسع بشقيه الاقتصادي والاجتماعي، وبذلك يخفي التناقض بين الاقتصاد الرأسمالي والمجتمع الطبقي. لا تخلق الرأسمالية مجتمعا رأسماليا على صورتها وحسب، بل تخلق أيضا مجتمعا آخر طبقيا ينكر هايك وجوده، في حين أنه ظاهر للعيان.
لكن ما معنى قول هايك أن النظام الموسع قد نتج عن النشوء الارتقائي في المجال الثقافي وعن طريق العادات والتقاليد وآلية محاكاتها؟ وماذا تعني داروينية هايك في تفسير نشأة النظام الموسع؟ تعني أنه يرجع تطور الرأسمالية في الغرب إلى تمتع الغرب بصفات متوارثة هي التي مكنته من إبداع الرأسمالية تلقائيا. ومعنى ذلك أن هذه النظرية تنتهي في التحليل الأخير إلى رؤية عنصرية في نشأة الرأسمالية، بحيث ترد نشأة الرأسمالية إلى اكتساب الغرب وحده الصفات الوراثية المناسبة لنشوء الرأسمالية، بما أن الرأسمالية ظهرت في الغرب وحده وشهدت فيه كامل تطورها( 21). ولا تؤدي نظرية هايك التطورية الوراثية إلا إلى هذه النتيجة العنصرية؛ وهي نتيجة يدعمها من ناحية أخرى بنظرية أخرى محافظة تربط بين نشأة الرأسمالية في الغرب بالتراث البروتستانتي، مكررا بذلك حجة ماكس فيبر في "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" القائلة أن أخلاق الزهد والتقشف والعمل لدى البروتستانتية هي التي أنتجت النظام الأخلاقي والقيمي المناسب للرأسمالية والممهد لها، وذلك في مقابل تفسير آخر أكثر علمية يرد الأخلاق البروتستانتية ذاتها إلى ظهور الرأسمالية. ومعنى هذا أن فلسفة هايك تضم جانبين: جانب عنصري في نظريته التطورية الوراثية، وجانب ديني محافظ في نظريته عن الأصل التراثي القيمي للرأسمالية. والمدهش في أمر هايك أنه لا يبحث في الأصل الاقتصادي للرأسمالية وبدلا من ذلك يأخذ في إلقاء التفسيرات القيمية وهو عالم الاقتصاد في الأساس.
تحتوي نظرة هايك لتاريخ السوق منذ العصر القديم لدى اليونان والرومان على مغالطات عديدة، منها قوله إن الإمبراطورية الرومانية وضعت نظاما قانونيا يضمن الملكية الخاصة وبالتالي كان سندا قويا للمعاملات التجارية. ومعنى هذا أن هايك يعترف بضرورة وجود سلطة سياسية تفرض نظام الملكية الخاصة وتضمن عمل اقتصاد السوق، فالأمر إذن ليس مسألة حرية مطلقة ونشوء طوعي وتلقائي لاقتصاد السوق. لكن هايك يعتنق الفكرة القائلة إن السلطة السياسية لا تفعل شيئا سوى وضع علاقات الملكية الخاصة وقواعد اقتصاد السوق في شكل قانوني، أي تنقل ما كان تطورا تلقائيا للمعاملات التجارية إلى مستوى التشريع السياسي كي تضمن عمل السوق بحرية. إلا أن الذي حدث فعلا هو أن السلطة السياسية التي تشرع للملكية الخاصة واقتصاد السوق عملت بالفعل على إدخالهما بقوة القانون وفرضهما على المجتمعات التي لم يظهر بها اقتصاد السوق. يقول هايك: ".. لم تنشأ حضارة متقدمة حتى الآن بدون حكومة ترى أن هدفها الرئيسي هو حماية الملكية الخاصة"( 22). كان يجب على هايك أن يلاحظ أن حماية الملكية الخاصة هذه لا تنشأ طوعيا وتلقائيا إذا ما تُرك السوق وحده وفق آلياته، بل هو في حاجة دائمة إلى سلطة تفرض حق الملكية الخاصة؛ "التطور والنمو التالي.. يتوقف على حكومة قوية، فالحكومات القوية تحمي الأفراد من عنف أقرانهم وتجعل من الممكن نشوء نظام من التعاون التلقائي والاختياري.."( 23). الحقيقة أنه بمجرد وجود حكومة قوية تفرض حق الملكية الخاصة يجعل النظام التعاوني التلقائي للسوق ليس تعاونيا ولا تلقائيا بالمرة، لأنه في هذه الحالة يكون مفروضا من الحكومة ولن يكون اختياريا أيضا لأن السلطة السياسية هي التي اختارته ابتداءً. نرى هنا كيف أن حجة هايك تنطوي على اضطراب وعدم اتساق واضح ومغالطات صريحة، إذ هو يناقض نفسه في سياق الحجة الواحدة.
النزعة اللاأدرية: 
ولأن هايك يواجه كل صور التخطيط الاقتصادي أو الاجتماعي، فإن مواجهته هذه تطلبت إنكاره لفكرة الصالح الاجتماعي أو الهدف الاجتماعي، ذلك لأن الاعتراف بأن هناك مصالح اجتماعية يتبعه بالتالي القول بإمكانية إحداث تخطيط عام للوصول إليها. التخطيط يفترض المصلحة الاجتماعية، وإنكار التخطيط يعني إما أنه ليس هناك ما يسمى بالمصلحة الاجتماعية وأن كل ما هنالك مصالح أفراد، أو أن المصلحة الاجتماعية موجودة بالفعل لكن يمكن أن تتحقق دون تخطيط. ويعتنق هايك وجهة النظر الأولى القائلة بعدم وجود شئ إسمه المصلحة الاجتماعية، ذلك لأنه أنكر وجود المجتمع باعتباره كيانا مستقلا عن الأفراد. 
وهذا ما أدى بهايك إلى نزعة لاأدرية متطرفة، نزعة تنظر إلى الحياة الإنسانية على أن ما يحكمها لا يمكن فهمه ولا يمكن استيعابه بالعقل، وبالتالي لا يمكن التحكم فيه، أي تخطيطه. يقول هايك: "إن كثيرا من نظم المجتمع التي لا غنى عنها في الحصول على أهدافنا الواعية هي في الحقيقة نتيجة التقاليد والعادات أو الممارسات التي لا هي مخترعة ولا مصممة للقيام بتحقيق هذه الأهداف. إننا نعيش في مجتمع يمكننا أن نوجه أنفسنا فيه وتكون لأفعالنا فيه فرصة جيدة لتحقيق أهدافها، لا لأن أقراننا تحكمهم أهداف معروفة أو صلات معروفة بين الوسائل والأهداف، بل لأنهم أيضا محكومون بقواعد لا نعرف هدفها أو مصدرها في العادة ولا نعي كذلك بمجرد وجودها") 24(. يشير هذا النص بوضوح إلى فلسفة هايك في الجهل؛ إنه يصنع من الغموض واللاتعين فلسفة ويجعل منه شرطا إنسانيا عاما وكليا ومبدأ يبني عليه قواعده التشريعية. إنه يرفع من شأن العادات والتقاليد والتي يؤكد على طابعها التلقائي والعفوي، وهو بالتالي يجعل الفرد خاضعا لها ومتحكمة فيه دون وعي منه أو حتى قدرة على الفكاك منها.
ويذهب هايك إلى أن الأفراد جاهلون بأغلب الوقائع التي تحدد أفعال أعضاء المجتمع الآخرين، وهذا ما يجعل قدرة الفرد على التأثير في أفعال الآخرين محدودة والتأثير في المجتمع ككل معدوم. إن هايك المفترض أنه الليبرالي الذي يعلي من شأن الفرد يعمل على العكس من مبادئه ويخيف الفرد بتوضيح جهله بوقائع مجتمعه وتفاصيله ومحدودية تأثيره ومعدومية هذا التأثير على مستوى المجتمع الكبير؛ أليس من المفترض أن تكون الليبرالية داعية إلى قدرة الأفراد على تغيير مجتمعهم؟ إن الحديث عن جهل الفرد ومحدودية تأثيره من قبل مفكر ليبرالي يجعله مقتربا للغاية من كل تفكير شمولي يبرر السلطة بنفس مبررات هايك: عجز وجهل الفرد ومحدودية تأثيره.( 25) يقول هايك: "إن التبصر بدلالة جهلنا المؤسسي في المجال الاقتصادي وبالمناهج التي تعلمناها كي نتغلب على هذه المعضلة كانت في الحقيقة نقطة الانطلاق لتلك الأفكار المطبقة نسقيا في هذا الكتاب على مجال أوسع بكثير") 26( وهو يقصد كتاب "القانون والتشريع والحرية" ذي الأجزاء الثلاثة والذي يمثل آخر عمل فكري جاد أصدره هايك. يريد هايك أن يقول إن مبدأ الجهل هذا مصدره جهل الفرد بتفاصيل العملية الاقتصادية وحركة السوق وتغييرات الأسعار، تلك العقيدة التي دعا إليها الاقتصاديون النمساويون، وهو يأخذها من مجال النظرية الاقتصادية النمساوية ليوسعها على المجال الاجتماعي كله ويجعل منها مبدأ شاملا ويصنع منه ركيزة للتشريع وسندا لمذهبه الليبرالي. والحقيقة أن عقيدة جهل الأفراد بحركة السوق في النظرية الاقتصادية النمساوية هي في حقيقتها نزعة شكية لاأدرية ورثتها من ديفيد هيوم وصامويل بايلي كما رأينا.
تحييد المعرفة واختزالها إلى معلومات:
والمعرفة عند هايك ذات طابع فردي، وليس هناك ما يسمى بالمعرفة الاجتماعية، وهايك في الحقيقة يختزل المعرفة إلى مجرد معلومات يحوز عليها أفراد، ذلك لأن الأفراد هم منتجو المعلومات. كما ليس عند هايك ما يسمى بمجموع معارف الأفراد المرتبط عضويا. لكن ما يسميه الحضارة هي التي تمكن الأفراد من الاستفادة من معارف كثيرة ونتائجها لا يعرفونها شخصيا( 27). وهذا ما يؤدي إلى الق�

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 131 مشاهدة
نشرت فى 14 ديسمبر 2014 بواسطة eladala

عدد زيارات الموقع

32,206