تعتبر الدمى الحريرية الصينية أحد الاشغال اليدوية الفنية التقليدية في الصين. لكن لم يبق من الفنانين المبدعين في صنع هذه الاعمال التقليدية سوى عدد قليل جدا وفيما يلي نعرفكم بأحد هؤلاء الفنانين -- السيدة تسوي سين .تبدو تسوي سين من مظهرها الخارجي متواضعة إذ دائما ما ترتدي الازياء البسيطة وبرغم أنها تناهز الخمسين من العمر ولكن يخيل للآخرين أنها ما زالت شابة نشيطة . وأصيبت تسوي سين في صغرها بمرض عانت خلاله من حمى شديدة أورثتها عاهة في إحدى رجليها.وإذا دخلت الى بيتها فستجد أن الغرفة نظيفة وعادية جدا لم تزين بزينات فاخرة ولكن إذا فتحت تسوي سين دولابا كبيرا في أحد أركان الغرفة وأخرجت منه كثيرا من الدمى الحريرية الموضوعة داخل علب حريرية جميلة خيل لك أنها فتحت كنزا ثمينا حيث تظهر أمامك حسنوات جميلات في أزياء صينية تقليدية، ويظهر أيضا معمر ترتسم على وجهه ابتسامة لطيفة، وبجانبه آلهة الحب الفينيقية/ فينوس وشخصيات أخرى عديدة ، الامر الذي يحول هذه الغرفة الصغيرة الى قصر فني فاخر تبهر كنوزه أنظار الجميع .قالت تسوي سين إن تاريخ فن صنع الدمى الحريرية الصينية يرجع الى عهد أسرة تانغ الملكية الصينية التي إمتد حكمها من عام 618 حتى عام 907 الميلادي ولكن الاسلوب الفني لصنع هذه الدمى لم يصل الى عصرنا الحديث لاسباب عديدة. أما الدمى الحريرية التي أحتفظ بها في خزانتي فأبدعتها الفنانة الصينية الكبيرة قه جين آن في الخمسينات من القرن الماضي عبر الدراسة والاقتباس للآثار التاريخية المعنية. أما تسوي سين فهى من الجيل الثاني لتلاميذ قه جين آن . وحول خصائص الدمى الحريرية تحدثت تسوي سين قائلة :"تصنع هذه الدمى من الحرائر بمختلف أنواعها وعبر عدة عمليات فنية كالنقش والنحت والرسم والصباغة والنسيج والخياطة إضافة الى أشغال الاسلاك والاخشاب. وتستخدم الاسلاك الحديدية لصنع مفاصل الدمى والقطن لحشوها من الداخل والحرير للخارج جلدها والخيوط الحريرية لشعرها أما ملابسها الجميلة فتصنع من الحرائر الزاهية الالوان. وبفضل إستعمال هذه المواد تبدو الدمى الجميلة في أبهى صورة .يتراوح طول قامة كل دمية بين بضعة عشر سنتمترا وثلاثين أو أربعين سنتمترا. ويصنع كل جزء من أجزاء جسمها بالعمل اليدوي وغالبا ما تستغرق عملية صنع دمية واحدة من التصميم الى أن تصبح جاهزة أكثر من شهر، وخاصة أن صنع أصابع الدمية لا يمكن إنجازه إلا بمدة ثلاثة أيام على الاقل.لذلك نقول إن صنع الدمى الحريرية لا يحتاج الى مهارة ممتازة فحسب بل يحتاج أيضا الى الارادة الدؤوبة والصبر الكبير .ولدت تسوي سين في بكين عام 1956 كانت تحب الرسم منذ صغرها. ولهذا السبب أرسلها والدها الى دورة تدريبية للرسم. ومن ثم رشحها معلمها الى الالتحاق بمصنع الدمى الحريرية ببكين بعد تخرجها من المدرسة الاعدادية. وما إن دخلت الفتاة الى ذلك المصنع أعجبت فورا بتلك الدمى الحريرية الجميلة.وكانت الدمى الحريرية تصنع أصلا في خط إنتاج حيث يوزع جميع العمال على مراحل الانتاج المتعددة. منهم من يصنع الرؤوس ومنهم من يرسم الوجوه. وكان معظمهم يؤدي مهمة واحدة أو مهمتين طوال فترة عملهم في المصنع. ومنهم عدد قليل جدا بإمكانه صنع دمية كاملة من البداية حتى النهاية. وبعد أن عرفت تسوي سي هذه الحالة عقدت العزم على صنع الدمى بشكل كامل ." قالت تسوي سين: أحببت صنع الدمى الحريرية منذ دخولي الى المصنع وعقدت العزم على تعلم أسلوب صنعها، كى أصنعها بنفسي في يوم من الايام من التصميم حتى التجهيز بشكل كامل. لأنني أريد التعبير عن عواطفي وأفكاري عبر صنع هذه الدمى بنفسي "ووفقا للنظام القديم في قطاع الاشغال اليدوية التقليدية في الصين يجب أن يتعلم التلاميذ المهارة المهنية وفقا لجدول عمل محدد، ولا يمكن أن يتفوقوا على معلميهم الكبار من حيث المستوى الفني. وبعد أن دخلت تسوي سين الى ذلك المصنع كلفت بمهمة صنع الادوات التي تحملها الدمى بأيديها. ومن أجل استيعاب فن التصميم وأسلوب الصنع بسرعة كانت تسوي سين تقف دائما بجانب معلميها لتشاهد بكل جدية كيف يعملون. وبعد عودتها الى البيت تتذكر ما شاهدته أثناء العمل والى جانب ذلك تعلمت فن رسم اللوحات الزيتية لاستبعاب المزيد من المعلومات المعنية الأخرى .بعد مرور أربع سنوات على تعلم تسوي سين أسلوب صنع الدمى الحريرية نجحت لاول مرة في إنجاز صنع دمية أطلقت عليها إسم: إهداء موسيقى للقمر. وصورة الدمية مأخوذة من صورة دياو تشآن/ إحدى الحسناوات الاربع المشهورات في الصين القديمة حيث تجلس تحت ضوء القمر وبيدها آلة موسيقية تعزف بها موسيقى للقمر، ما إن عرضت هذه الدمية حتى فازت بالجائزة الاولى في مسابقة فنية أقيمت في بكين، ومن ثم أرسلت الدمية الى فرنسا والولايات المتحدة ودول أخرى للعرض .كان نجاح تسوي سين التي ما زالت في ربيع عمرها مفاجئا لنظام ترتيب الاجيال المهني في قطاع الاشغال اليدوية التقليدية، الامر الذي أوقعها في صعوبة وحرج أثناء دراستها للفنون، اذ لم تحصل على فرصة دراسة التصميم الفني التي كانت حريصة جدا علي تحصيلها وبالاحرى تم توزيعها للعمل في خط الانتاج. غير أن هذه الفتاة القوية الارادة لم تفقد الأمل فبدأت تعمل في المصنع نهارا وفي المساء والليل تصنع الدمى الحريرية في البيت، وبسبب عدم وجود الوقت الكافي بعد العمل لذلك لم تستطع صنع دمية واحدة إلا بمدة أطول من غيرها بعدة أشهر. وعندما تجاوزت تسوي سين الثلاثين من عمرها بدأت تتعلم رسم اللوحات الصينية التقليدية لرفع مستواها الفني. وكانت تذهب دائما من المصنع الى المدرسة مشيا على الاقدام، ولكونها معوقة فى رجلها كانت تقطع تلك المسافة بوقت أكثر من الانسان الطبيعي. وبرغم ذلك ثابرت تسوي سين على دراسة الرسم وأكملتها خلال ثلاث سنوات وعندما أستذكر والدها تلك الايام قال بتأثر:" كنت أتألم عندما أرى معاناتها تلك، ورغم أن ظروف عائلتنا حينذاك غير جيدة ولكنني أساعدها بقدر الامكان، كنت أرافقها في طريق الذهاب والاياب الى العمل، وكان أصعب وقت بالنسبة اليها في أيام الشتاء وخاصة أذا نزل الثلج وأصبحت الطرق زلقة جدا وقد سقطت عدة مرات على الارض وأصيبت بجروح في ساقيها. وبرغم ذلك ثابرت على الدراسة حتى أكملتها."وخلال دراستها للفنون بذلت تسوي سين جهودا يصعب على الانسان الطبيعي أن يتخيلها. وبإرادتها القوية وإخلاصها في تعاملها مع الآخرين حالفها الحظ أخيرا إذ قبلتها قه جين آن/ الاستاذة الكبيرة والمبدعة المشهورة في صنع الدمى الحريرية في بكين، وبدأت تتعلم منها أسلوب تصميم وصنع هذه الدمى بعد أن أصبحت أحد أفراد الجيل الجديد من تلاميذها.أستوعبت تسوي سين أخيرا الاسلوب الفني لصنع الدمى الحريرية بكامله, وأصبحت بذلك مصممة ونقاشة ورسامة وخياطة في آن واحدة إضافة الى قدرتها على صبغ الاخشاب واعدادها. والى جانب ذلك حققت تقدما في تصميم تشكيلات جديدة عديدة من الدمى الحريرية ...أبدعت تسوي سين حتى الان تصميم وصنع أكثر من مائتي دمية حريرية معظمها مأخوذة من القصص والاساطير الشعبية التقليدية والاعمال الادبية المشهورة. ومن بين هذه الدمى شخصيات كثيرة منها الأدباء والنبلاء والحسناوات في العهود القديمة والآلهة وصور البوذا والاباطرة والوزراء القدماء اضافة الى الشخصيات الاجنبية المشهورة كتمثال فينوس والسيدة مريم والملائكة وغيرهم. ويخيل للناظر أن دمى هذه السيدة حية تعج نشاطا وجيوية وجمالا .فازت أعمال تسوي سين بجوائز صينية وأجنبية عديدة كما حظيت بترحيب كبير وتقدير عال خلال عرضها في الولايات المتحدة وفرنسا ودول أخرى . ويحفظ بعض أعمالها داخل المتاحف في بعض الدول الاجنبية. وجدير بالذكر أن منظمة اليونسيكو منحت تسوي سين لقب " فنانة بمشغولات الفنون الجميلة الشعبية" كما منحتها مدينة بكين لقب"أستاذة كبيرة بمشغولات الفنون الجميلة". وعند استذكار مشوارها الفني في السنوات الماضية قالت تسوي سين إن حالتها النفسية قد تحولت من اللهفة الى تحقيق الطموح وكسب النجاح والشرف الى الهدوء في الوقت الحاضر:" لم أعتقد في بداية الامر أنني أقل قدرة من غيري. ورغم كوني معوقة ولكنني بذلت جهودا تظهرأنني قادرة على تحقيق أملي. ومع تقدم عمري أصبحت حالتي النفسية هادئة بالتدريج وقل إهتمامي بتلك الالقاب. وكنت متلهفة الى تحقيق ما أرغب فيه ولحفظ ماء الوجه والمكانة. أما الان فأعمل من أجل الفن ... "يذكر أن قطاع الاشغال اليدوية الفنية التقليدية في الصين بما فيها فن الدمى الحريرية يعاني الان من الافتقار الى جيل جديد يستطيع أن يرث هذا الفن من أجياله السالفة. لذلك تقيم تسوي سين التي تقاعدت الان عن العمل تقيم دورات تدريبية للراغبين بتعلم ووراثة فن صنع الدمى الحريرية في العصر الجديد .
|
cri <!--Reporter -->
نشرت فى 25 فبراير 2008
بواسطة ehabsalah
عدد زيارات الموقع
6,349
ساحة النقاش