تستحوذ قضية البيئة على اهتمام مختلف الناس فى جميع أنحاء العالم نظرا لإيمانهم وقلقهم فيما يتعلق بالنتائج السلبية والمغايرة للمشكلات البيئية وآثارها الضارة على حياتهم الاجتماعية وكذلك على كل من : المناخ ، الصحة العامة، الحيوانات ، والنباتات(Hansla et al, 2007,p1).
وفى مصر يتولد عن أنشطة العمل والإنتاج الزراعي العديد من المخلفات الزراعية النباتية مثل : قش الأرز، أحطاب القطن والاذرة ، أتبان القمح والفول، عروش الخضر وغيرها، ويصل حجم هذه المخلفات إلى نحو 23 مليون طن سنويا، يستفاد منها بحوالي 7 ملايين طن علف، 4 ملايين طن سماد عضوي، ويتخلف عنها نحو 12 مليون طن بدون استفادة، تؤدي إلى تلوث البيئة الزراعية وأضرار صحية للمواطنين وإهدار مبالغ مالية كبيرة تعد بالمليارات جنيه سنويا (أرناؤوط،2009،ص84).
ويعد أسلوب تدوير المخلفات الزراعية وخاصة قش الأرز الذي يشكل الجانب الأكبر منها هو أحد أهم محاور إستراتيجية التنمية المتواصلة بيئيا ، كما أنه يعد أحد أهم أوجه استثمار كافة الإمكانيات بالريف، حيث أنه يعد منتج زراعي هام إذا ما أحسن تدويره للاستفادة منه (سلامة، 1988، ص53). ولاشك أن ذلك يستلزم إجراء العديد من التحولات السلوكية البيئية نحو استخدام الأساليب التكنولوجية الحديثة لمنع حدوث الآثار البيئة والاقتصادية الضارة نتيجة الاستخدام الخاطئ لمثل هذه المخلفات ، كما يتطلب تطوير منظومة المعارف واتجاهات الأفراد تجاه الحفاظ على البيئة وتنميتها وصيانتها ، حيث تستهدف التنمية المستدامة تفعيل استثمار جميع الموارد البيئة والبشرية المتاحة بما يحقق تلبية الاحتياجات الراهنة للسكان ودون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها. ونتيجة لأهمية معرفة وتنفيذ الأساليب الحديثة للاستفادة من قش الأرز سواء لتخفيض معدلات تلوث البيئة وصيانتها أو لتحقيق عائد اقتصادي منها جاءت هذه الدراسة.
هناك العديد من المنظورات والمداخل النظرية التى قدمت لتفسير علاقة الإنسان بالبيئة وكيفية استثماره لها وتحقيق تكيفه معها ، ومن أهم هذه المنظورات ما يلي :
1-منظور الحتمية البيئية -الحتمية المناخية-الحتمية الجغرافية(Environmental Determinism):
ومن أهم أنصاره Ellen Semple ، Ellsworth Huntington ، Thomas Taylor ، وهم يرون أن المثيرات البيئية (سلوك البيئة) هي التى تحدد استجابات البشر، فالجغرافيا الطبيعية والمناخ بشكل خاص ، تؤثر على نفسية وعقلية الأفراد ، والتي بدورها تحدد سلوك وثقافة المجتمع الذي يشكل هؤلاء الأفراد. وعليه فإن البيئة الطبيعية وليست الظروف الاجتماعية من وجه نظر هذا المنظور هي العامل الوحيد الذى يحدد ثقافة الإنسان (Andrew,2003,pp813-817) . ومن أهم أوجه تقد هذا المنظور هو أنه بالرغم من أهمية تأثير البيئة فى سلوك الإنسان ، إلا أنها لا تعد العامل الوحيد الذى يشكل هذا السلوك بمفرده ، فهناك العديد من العوامل الأخرى كالعوامل الاجتماعية, الاقتصادية، والتاريخية، تؤثر أيضا فى سلوك الإنسان، لذا فمن غير المنطقي أن نرجع سلوك الإنسان لحتمية عامل واحد فقط، كما أن التطور التكنولوجي يساهم في التغلب على العوائق والمحددات البيئية التى قد تشكل سلوك الإنسان بسلوك معين.
2- منظور الامكانية أو الاختيارية Possibilism :
ومؤسس هذا المنظور هو Paul Vidal de la Blache ، ومن أهم رواده Lucien Febvre ، ويقر فكر هذا المنظور بإمكانية التأثيرات التبادلية التى تربط الثقافة بالبيئة ، ويؤكد على الإمكانيات والاختيارات التى توجد فى الطبيعة فى أماكن وأوقات مختلفة، والتي يمكن أن يستخدمها الإنسان بحرية وبشكل فعال من خلال أنشطته البشرية بما يتناسب مع قدراته وأهدافه وثقافته. بمعنى أن الإنسان فاعل يمكنه التفاعل مع البيئة وتغييرها(Berdoulay,2009,pp312-320). وبالتالي فهذا المدخل يقدم فكرا مغايرا لمدخل الحتمية البيئية حيث يؤكد على أن كل شيء ممكن، كما يؤكد على إيجابية الإنسان وامتلاكه الإرادة والقوة التى تمكنه من اتخاذ القرارات المؤثرة فى كل مجالات حياته وفى بيئته أيضاً مهما كانت الظروف البيئية، وهو قادر على التغلب عليها من خلال المعرفة والمهارات والتكنولوجيا والمال, فالإنسان مخير وليس مسير. وتكمن أهم أوجه نقد هذا المدخل فى مغالاته لأهمية دور الإنسان فى السيطرة والتحكم فى بيئته مما نتج عنه مشاكل عديدة بفعل هذه السيادة شبه المطلقة مثل مشكلات التلوث وتآكل طبقة الأوزون وغيرها من مشكلات عدم التوازن البيئي.
3-منظور التوافقية أو الاحتمالية(Probabilism):
ظهر للتوفيق بين المنظورين السابقين(عبد المقصود،1981،ص ص12-14)،(Flowerdew,2009,pp448-450) فهو لا يؤمن بالحتمية المطلقة ولا بالإمكانية المطلقة وإنما يؤمن بدور الإنسان والبيئة وتأثير كل منهما فى الآخر. واعتمد أنصار هذا المنظور فى تفسير العلاقة بين الإنسان والبيئة على تصنيف نوعية البيئة ونوعية الإنسان من خلال مقياس لنوعية كل منهما، حيث يتفاعل الاثنان معا ليشكلان جوهر العلاقة بين الإنسان والبيئة.
أ- مقياس البيئة : يمثل بالمتصل التالي بيئة صعبة ـــــــــ بيئة سهلة
الطرف الأيمن فى هذا المقياس هو البيئة الصعبة وهى تحتاج إلى مجهود كبير من جانب الإنسان للتكيف معها, بينما الطرف الأيسر تمثله البيئة السهلة وهي تستجيب لأقل مجهود، ويقع بين هذين الطرفين بيئات أخرى متفاوتة من حيث درجة الصعوبة .
ب- مقياس الإنسان : يمثل بالمتصل التالي إنسان إيجابي ـــــــ إنسان سلبي
الطرف الأيمن الإنسان الإيجابي وهو الذي يتفاعل مع البيئة بشكل إيجابي لتحقيق طموحاته وإشباع احتياجاته, أما الطرف الأيسر فيمثله الإنسان السلبي ، وهو إنسان محدود القدرات والمهارات ودوره محدود فى التأثير فى البيئة، ويقع بينهما مجموعات بشرية مختلفة في المهارات والقدرات وفي التأثير على البيئة.
ومن ثم فإن هذه النظرية أكثر واقعية لأنها توضح أشكال عديدة للعلاقة بين الإنسان وبيئته دون أن تميز إحدى أطراف هذه العلاقة دون غيره, وتتمثل هذه العلاقة في التنوع الذي يتضح بالشكل التالي :
بيئة صعبة + إنسان سلبي = حتمية بيئية بيئة سهلة + إنسان إيجابي= إمكانية
بيئة صعبة + إنسان إيجابي = توافقية بيئة سهلة + إنسان سلبي = توافقية
ولقد حدد "أرنولد توينبى" علاقة الإنسان والبيئة في أربع استجابات مختلفة هي: (أ) استجابة سلبية : وتشير إلى تخلف الإنسان علمياً وحضارياً مما يجعله غير قادر علي الاستفادة من بيئته أو التأثير فيها بشكل فعال.
(ب)استجابة التأقلم : وفيها تكون البيئة هي المسيطرة على الإنسان مع توافر بعض المهارات للإنسان التي تمكنه من التأقلم نسبياً مع ظروفها الطبيعية.
(ج)استجابة ايجابية : وفيها ينجح الإنسان في تطويع البيئة بما يتناسب مع رغباته واحتياجاته , ويستطيع من خلال مهاراته وقدراته الايجابية هذه أن يتغلب علي أية معوقات حتى وان كانت البيئة صعبة.
(د) استجابة إبداعية : وهي ارقي أنواع الاستجابات علي الإطلاق, فلا يقف الأمر علي كون الإنسان ايجابياً وإنما يكون مبدعاً يعرف كيف يستفيد من بيئته ليس بالتغلب علي الصعوبة وحلها وإنما بابتكار أشياء تفيده في مجالات أخري عديدة .
4- نظرية الفعل الاجتماعي الارادى:
عرفParsons" " الإرادية على أنها عملية اتخاذ قرارات، ولكنه نظر إلى هذه القرارات على أنها جزئيا نتاج محددات موقفية ومعيارية، فالفعل الارادى يتضمن العناصر التالية: (1)فاعلون ساعون نحو تحقيق أهدافهم. (2)فاعلون لديهم وسائل بديلة لتحقيق أهدافهم. (3)فاعلون مواجهون بعديد من الظروف الموقفية و الاجتماعية والثقافية التى تؤثر فى اختيارهم لأهدافهم وللوسائل المحققة لهذه الأهداف، كل منها مقيد بأفكار وشروط موقفية(روشيه،1981، ص ص66- 67) وتفترض هذه النظرية أن الأفراد يسعون لتحقيق أهداف شخصية فى ظل مواقف وأوضاع معينة يتوفر فيها وسائل بديلة لتحقيق هذه الأهداف وأنهم محدودون بعديد من الظروف الموقفية مثل خصائصهم البيولوجية، وظروف بيئتهم الطبيعية كما أن سلوك الأفراد أيضا محدد بالقيم الاجتماعية والمعايير السلوكية والأفكار السائدة فى المحيط الذى يعيشونه فيه وكل هذه المحددات الموقفية والمعيارية تؤثر على قدراتهم فى اختيار الوسائل التى يمكن أن تحقق أهدافهم من بين الوسائل البديلة(الحيدرى،1990، ص125).
وبتحليل المداخل الثلاث السابقة يمكن القول أن أنسب هذه المنظورات فى تفسير العلاقة بين الإنسان والبيئة هو مدخل التوافقية أو الاحتمالية ، ومن ثم سوف تتبنى الدراسة الراهنة هذا المنظور فى تفسير النتائج التى ستتوصل إليها الدراسة الميدانية. فالزراع الايجابيون تجدهم يتجهون نحو الاستفادة من بيئتهم سواء كانت سهلة أو صعبة لتحقيق أهدافهم.
والمخلفات الزراعية النباتية بصفة عامة وقش الأرز بصفة خاصة تعد ثروة قومية هائلة إذا ما أحسن استثمارها، وهناك عدد من الأساليب التكنولوجية التى يمكن أن يستخدمها هؤلاء الزراع للاستفادة من قش الأرز وتحقق لهم فائدة اقتصادية لما يتحقق من استثمار للطاقات المعطلة وتشغيل الشباب وزيادة دخول الريفيين ورفع مستوى معيشتهم ، كما أن لها فائدة بيئية بما تؤدي إليه من حفاظ على البيئة وسلامتها من التلوث، ومن هذه الأساليب(Beek , 2009) ما يلي :
(1)عمل المكمورات بطريقة الكومبوست (composting ) للحصول على سماد عضوي، وهى عملية طبيعية تتم بفعل تأثير الكائنات الحية الدقيقة التى تحول فضلات الطعام ومخلفات الحقول والحدائق وبعض الموارد السليلوزية كالورق إلى مكونات ثابتة غير ملوثة للتربة تفيد جميع أنواع التربة لاحتوائها على العناصر الغذائية التى يحتاجها النبات.
(2) فرم القش واستخدامه كبيئة زراعية لإنبات الشعير عليه ليصبح علف حيواني عالي القيمة.
(3) فرم القش واستخدامه كبيئة زراعية لإنبات عيش الغراب (المشروم) عليه والذي يستخدم كغذاء للإنسان.
(4) حقن قش الأرز بالأمونيا أو اليوريا وتقديمه كعلف حيواني عالي القيمة الغذائية بعد تقطيعه إلى قطع صغيرة ليرفع نسبة البروتين من 3 إلى 6 %. (5)فرم القش وتحويله إلى علف حيواني والتغذية المباشرة عليه.
(6) كبسه فى بالات وبيعه لمصانع الورق ومصانع الأخشاب..وغيرها.
(7) استخدام بالات قش الأرز كتربة يزرع فيها الخضروات كالخيار والطماطم داخل الصوب وبعد 3-4 سنوات تتحول هذه البالات إلى سماد عضوي.
(8)قولبة قش الأرز (ضغط قش الأرز بدرجة كبيرة ليصبح فى صورة قالب) واستخدامه كمصدر للطاقة فى مواقد وأفران مبتكرة.
(9)استخدام قش الأرز مضغوط بمادة لاصقة تجعله مقاوم للحريق فى صناعة حوائط وأسقف المنازل.
(10) يستخدم كفرشة أرضية فى مزارع الدواجن.
(11) يستخدم فى إنتاج البيوجاز للحصول على طاقة وسماد عضوي.
المراجع
-أرناؤوط ، محمد السيد (2009) ، "أضرار حرق المخلفات الزراعية واقتصاديات الاستفادة منها" ، المجلة العلمية لإدارة المنشآت ، عدد خاص بالمؤتمر العلمي الأول لتنمية البيئة فى إقليم قناة السويس، ، المعهد العالي لإدارة المنشآت الصناعية ، بلبيس ، محافظة الشرقية ، جمهورية مصر العربية، المجلد الأول ، العدد الأول ، ابريل.
-روشيه ، جى (1981) ، "علم الاجتماع الامريكى دراسة لأعمال تالكوت بارسونز"، ترجمة محمد الجوهري وأحمد زايد ، دار المعارف ، القاهرة .
-سلامة، فتحي(1988)،"البيئة مسئولية الإنسان أولا"،مجلة التنمية والبيئة،العدد السادس.
-عبد المقصود ، زين الدين ، "البيئة والإنسان"، منشأة المعارف ، الإسكندرية ، 1981.
-Andrew, Sluyter (2003). "Neo-Environmental Determinism, Intellectual Damage Control, and Nature/Society Science", Antipode 4 (35).
- Beek , Hans van der (2009). "Rice straw seminar, Embassy of the Kingdom of the Netherlands in Egypt", Wageningen University & Research Center , In co-operation with EAGA, , Cairo, Egypt , June 9.
-Berdoulay , V. (2009). "Possibilism", International Encyclopedia of Human Geography .
-Flowerdew, R. (2009). Probabilism, International Encyclopedia of Human Geography.
- Hansla, Andre´; Gamble ,Amelie; Juliusson, Asgeir and Tommy Garling(2007). "The relationships between awareness of consequences, environmental concern, and value orientations", Journal of Environmental Psychology, 28 .
ساحة النقاش