هذه اللوحة، التي تصوّر امرأة جميلة مع أطفالها، قد توحي بعائلة سعيدة ومستريحة. لكن ما لا يعرفه الكثيرون هو أن الثورة كانت على وشك أن تعصف بكلّ هذا وتُعرّض للخطر كلّ ما كان بحوزة هذه المرأة وعائلتها من سلطة وثراء.
وقريبا سيزحف الناس لاقتحام قصر فرساي في باريس عنوة، ومن ثمّ سيُودَع الملك لويس السادس عشر والملكة ماري انطوانيت وأبناؤهما وأقاربهما السجن تمهيدا لمحاكمتهم ومن ثمّ إعدامهم.
بعبارة أخرى، تستطيع أن تقول أن هذا بورتريه مثاليّ لعائلة تسير نحو مصير مأساوي. ومع ذلك فالصورة نفسها تخلو من أيّ نوع من المشاعر أو الدراما أو العنف.
كان عمر الملكة ماري انطوانيت عندما رُسمت لها هذه اللوحة اثنين وثلاثين عاما. وهي هنا تظهر بصحبة أطفالها الثلاثة في غرفة الجلوس. وكان من المفترض أن تضمّ اللوحة أيضا ابنتها الرابعة الرضيعة الأميرة صوفي لولا أنها توفّيت قبل ذلك بفترة وجيزة، ما دفع الرسّامة لأن تكتفي برسم مهدها أو سريرها الأزرق بدلا منها.
الملكة ترتدي فستانا بنفسجيا نفيسا وتسند قدميها إلى أريكة، في إشارة إلى مكانتها الرفيعة. والأطفال أيضا ملابسهم مترفة، كأن الرسّامة تريد أن تلفت انتباه الناظر إلى ثروة الملكة الأمّ وأطفالها ومكانتهم الاجتماعية.
وأنت تتأمّل اللوحة، لا بدّ وأن تستنتج أن الرسّامة بذلت جهدا كبيرا وقضت وقتا طويلا في رسم التفاصيل الصغيرة الظاهرة على الأريكة والقماش والملابس والسجّاد، ما يؤكّد براعتها كرسّامة للبلاط.
ثم لاحظ أيضا كيف أنها أضفت على الشخصيّات طابعا مقدّسا باختيارها توليفا شبه هرميّ يذكّر بلوحات عصر النهضة التي تصوّر العذراء والمسيح والقدّيس يوحنّا.
الابنة الكبرى الأميرة ماري تيريز تميل باتجاه أمّها متأبّطة ذراعها، بينما يجلس الأمير الرضيع شارل في حضنها، وإلى اليمين يقف الأمير لويس جوزيف مشيرا بيده إلى السرير الفارغ لشقيقته الراحلة.
في عام 1788، عندما فتح صالون باريس أبوابه، لم تكن هذه اللوحة قد اكتملت تماما. ولأيّام ظلّ الإطار المخصّص لها فارغا. كان ذلك عشيّة ما أصبح يُسمّى بالثورة، وكان الناس يتحدّثون علانية عن مشاكل البلاد المالية وعن الإفلاس الذي كانت بوادره تلوح في الأفق.
لكن في اللوحة تبدو الملكة ماري وكأنها جاهلة أو غير مكترثة بالاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت تهزّ فرنسا آنذاك.
وفي الواقع، هناك احتمال أن يكون هذا البورتريه رُسم لأغراض الدعاية ولإصلاح سمعة الملكة المغضوب عليها وتصويرها باعتبارها أمّا رحيمة ومتعاطفة تهتمّ بأطفالها أكثر من الموضة. ورسالة اللوحة هي أننا في حضرة ملكة، هي أوّلا أمّ؛ ليس لأطفالها فحسب وإنّما لعامّة الناس أيضا.
علاقة الملكة ماري انطوانيت بأطفالها تلعب دورا مهمّا في العديد من تفاصيل قصّة حياتها. فكلّ هؤلاء الأطفال كانوا أبناءً بالتبنّي. والمحزن أنهم واجهوا مصيرا مشئوما بعد إعدام والديهم الملك والملكة. فمنهم من قُتل في ظروف غامضة في نفس تلك السنة، ومنهم من قضى في السجن أو توفّي في ما بعد لأسباب ما تزال إلى اليوم مجهولة.
المعروف أن فيجيه لوبران رسمت للملكة ماري انطوانيت حوالي ثلاثين بورتريها. وهذا البورتريه الموجود اليوم في إحدى غرف قاعة المرايا في فرساي هو آخر تلك البورتريهات الايقونية التي رسمتها الفنّانة للملكة القتيلة.
كانت ماري وقتها في ذروة شبابها وجمالها. وكانت هي والرسّامة ترتبطان بعلاقة شخصية حميمة. وفي مذكّراتها، تتحدّث الرسّامة بانبهار وحنين عن علاقتها بالملكة، وعن الحساسية والاحترام التي كانت تعاملها بهما ماري انطوانيت.
ويبدو أن الملكة والفنّانة اكتشفا أن هناك الكثير ممّا يجمعهما، فهما زوجتان غير سعيدتين، كما أنهما مادّة للكثير من الافتراءات والشائعات. ومع ذلك، كان يجمعهما عشق الموسيقى، ولوبران نفسها كانت تتمتّع بصوت غنائيّ جميل.
كانت لوبران أشهر رسّامة امرأة في القرن الثامن عشر. والدها كان هو أيضا رسّاما، وهو الذي اشرف على تعليمها. وقد بدأت عرض أعمالها وهي في السادسة عشرة من عمرها. ثم أصبحت عضوا في أكاديمية الفنّ في عمر الثالثة والعشرين.
وبعد ذلك أصبحت عضوا مهمّا في الحياة الاجتماعية للطبقة الارستقراطية الباريسية. وكان لها ابنة واحدة هي ثمرة زواجها من فنّان وناقد يُدعى بيير لوبران.
وقد أنتجت الفنّانة خلال حياتها ما يربو على ثمانمائة لوحة. وساعدتها علاقتها بـ ماري انطوانيت في العثور على زبائن من ذوي السلطة والغنى آنذاك. لكن مع اندلاع الثورة فإن علاقتها الوثيقة بالملكة أصبحت تشكّل خطرا على حياتها في باريس. لذا هربت هي وابنتها من المدينة في نفس اليوم الذي سُجنت فيه الملكة وعائلتها.
في السادس عشر من أكتوبر عام 1793، أي بعد أشهر من إعدام زوجها الملك لويس السادس عشر، اُعدمت ماري انطوانيت بالمقصلة. وكانت آخر كلماتها قبل قتلها "سامحني يا سيّدي، لم أكن اقصد ذلك". وقد قالتها للجلاد عندما تعثّرت بقدمه أثناء صعودها إلى المقصلة.
وبعد إعدامها، اُلقي بجثّتها في قبر مجهول. لكن بعد ذلك بعشرين عاما، استُخرجت رفاتها ورفات زوجها واُقيمت لهما جنازة حسب التعاليم المسيحية، ثم دُفنا في مقبرة ملوك فرنسا.
أما الرسّامة فقد ظلّت تعيش في المنفى خارج فرنسا لاثني عشر عاما، متنقّلة ما بين ايطاليا وروسيا والنمسا. وكانت تُعيل نفسها من عوائد رسمها لصور العائلات الثريّة في تلك البلدان. لكن في عام 1802 سمح لها النظام الجديد بالعودة إلى باريس استجابة لالتماس قدّمه زملاؤها الفنّانون.
غير أن مكانتها كفنّانة كانت قد تلاشت. وبسبب صلتها بـ ماري انطوانيت، دخلت لوبران عالم النسيان وأصبحت شخصية مهمَلة تقريبا في تاريخ الفنّ، رغم أنها عاشت أربعين سنة أخرى في ظلّ حكم نابليون.
ومذكّراتها توحي بأنها كانت امرأة مهتمّة بالأضواء وأخبار المجتمع أكثر من اهتمامها بالفنّ. لكن ممّا لا شكّ فيه أنها كانت تملك إصرارا قويّا على تحقيق النجاح في عملها رغم العقبات الكثيرة التي كانت تواجه عمل النساء في القرن الثامن عشر.
أما الملكة ماري انطوانيت، فعلى الرغم من مرور أكثر من مائتي عام على موتها، إلا أنها ما تزال شخصية تاريخية مهمّة ارتبطت بالأفكار المحافظة وبالكنيسة الكاثوليكية وبالثروة والموضة. كما أنها كانت وما تزال موضوعا للعديد من الأعمال الفنّية والأدبية والسينمائية.
وبعض المؤرّخين يرون أنها كانت تجسيدا للصراع الطبقيّ، وأنها كانت السبب الأساس في نشوب الثورة الفرنسية. والبعض الآخر يرون أنها ذهبت ضحيّة طموحاتها العائلية والوضع العام في فرنسا. لكن الكثيرين يعترفون بخصالها الفريدة كأمّ، وبشجاعتها وهي تواجه الموت.
وقد نُسبت إليها العبارة المشهورة "فليأكلوا الكعك" عندما قيل لها إن الناس لا يجدون ما يكفي من الخبز ليأكلوه. لكن لا يوجد دليل مؤكّد على أنها تلفّظت بتلك الجملة فعلا، وعلى الأرجح كانت تلك كذبة ذات دوافع سياسية نشرتها وروّجت لها بعض الصحف في ذلك الوقت.