بعض النقّاد يقلّلون من قيمة الفانتازيا، لكن هذا لا ينفي أنها أداة ضرورية لاكتشاف ذواتنا والعالم من حولنا والعلاقة بين الاثنين.
والسوريالية كانت تستشرف عالم الأحلام والذكريات والروح في محاولة للتعبير عن النفس وعن الوظيفة الفعلية للأفكار.
الرسّامة الاسبانية ريميديوس فارو كانت فنّانة سوريالية مشهورة، وكان أسلوبها يجمع بين الاهتمام العلميّ بعالم الطبيعة والتأثيرات السحرية والدينية في القرون الوسطى.
وفي بعض لوحاتها ثمّة أفكار عن البعث أو الولادة الثانية، وكلّ هذه الاهتمامات كانت انعكاسا لافتتانها بالخيمياء والتصوّف وتحليلات عالم النفس الشهير كارل يونغ. كانت ترى كلّ هذه الأشياء كمصادر لتحقيق الذات وتحوّل أو تغيّر الوعي.
في لوحتها هذه ترسم فارو بومة على هيئة إنسان تجلس إلى طاولة وترسم على الورق طيورا بقلم موصول بآلة كمان تتدلّى من صدرها. الطيور ينيرها ضوء قمر يتسلّل من نافذة جانبية ويمرّ عبر عدسة مكبّرة.
ريش البوم مرسوم ببراعة وبضربات فرشاة دقيقة. وعيناها تبدوان مغمضتين أو نائمتين أو في حالة تأمّل أو تأهّب لاستقبال إشارات الإلهام التي تأتيها من السماء.
وإلى يمينها هناك أجهزة تقطير تستقبل ضوء النجوم وتحوّله إلى ألوان حمراء وصفراء وزرقاء على رقعة تشبه لوحة الألوان التي يستخدمها الرسّام. ويبدو أن الضوء الآتي من القمر والنجوم هو المادّة التي تُخلق منها الطيور وتُنفث فيها الحياة قبل أن تطير بعيدا عبر النافذة.
البومة التي تظهر عليها أمارات الحكمة والوقار تبدو اقرب ما يكون إلى ملامح امرأة بسبب ساقيها الرشيقتين وعينيها الواسعتين. وهي لا تختلف عن ملامح بطلات فارو من الإناث اللاتي يظهرن في رسوماتها.
هذه اللوحة تشهد على الخيال الفنّي الخصب للرسّامة. ويُحتمل أنها تتحدّث عن أصل الحياة عندما يتحوّل ليصبح معجزة حيّة. وبعض النقّاد يرون أن هذه اللوحة تتحدّث عن الكاتب، وربّما عن المبدع بشكل عام، وعن كونه بُوما ليليّا، وأن الإبداعات المكتوبة تشبه الطيور في اللوحة من حيث أنها تكتسب أجنحة ثمّ تطير.
وقد تكون فارو أرادت أن تشير إلى إن الفنّ والطبيعة يعملان يداً بيد وأننا في الحياة نحتاج إليهما معا لدعمنا وبقائنا.
ونظرا لأن الرسّامة تبحث عن إحساس بنفسها أو بذاتها، قد تكون الطيور هي التي تخلق الفنّانة من خلال عملية سيميائية وكلّ واحد منهما يتحوّل إلى الآخر.
معظم أعمال فارو تُفسّر أحيانا كتعبير عن إحباطها من كونها مهمّشة كامرأة وكفنّانة أنثى.
ويقال أنها كانت احد أتباع طريقة صوفية كانت تؤمن بالقوى الروحانية للموسيقى والرقص وبأن ذبذبات الصوت والضوء هي المصدر الذي خُلق منه العالم.
كانت وسيلة فارو لفهم الكون والظواهر تذهب إلى ما وراء المبادئ العلمية. وقد درست عدّة نصوص صوفية وروحانية. وربّما كانت من خلال فنّها تحاول أن تخلق تناغما اكبر بين العلم وبين السحر والأسطورة.
ولدت ريميديوس فارو عام 1913 لعائلة كانت تقدّس الطموحات الفنّية والأكاديمية. وتلقّت تدريبا فنّيا على يد والدها المهندس المعماريّ الذي شجّعها على الاهتمام بالعلم وعلّمها رسم الصور، وهي مهارة استخدمتها طوال حياتها المهنيّة.
في سنّ الخامسة عشرة سجّلت في أكاديمية سان فرناندو المشهورة في مدريد والتي كان يحاضر فيها أشخاص متميّزون مثل ميري كوري وآينشتاين وسلفادور دالي.
ولهذا السبب عرفت فارو الأفكار الجديدة مثل نظريّات سيغموند فرويد التي وسّعت حدود الواقع، وكذلك أفكار اندريه بريتون التي رسمت معالم السوريالية كحركة فنّية وأدبية. كما رأت كنوز متحف برادو وتأثيرات فرانشيسكو دي غويا وإل غريكو وبابلو بيكاسو وجورج براك.
وقد أحضرت معها إلى الرسم معرفة البناء الهندسيّ والاهتمام الكبير بالتفاصيل والخطاب الفلسفيّ وافتتانها بالظواهر الغريبة.
وكانت النتيجة مقاربة شخصيّة للسوريالية ورؤية موحّدة لعالم فانتازي مسكون بمخلوقات خيالية تتحرّك بحرّية داخل وخارج الوعي وتقترح حلولا جديدة وتفسيرات بديلة.
ولوحاتها المبكّرة كانت تتناول أفكارا مثل الجنسانية والقيود المفروضة على المرأة من قبل المجتمع البورجوازي.
في عام 1930 تزوّجت فارو من الرسّام جيراردو ليزراغا، ثم تركته وتزوّجت من الشاعر الفوضويّ بنجامين بيريه.
وفي ما بعد دفعتها الحرب الأهلية الاسبانية إلى الهرب من برشلونة، حيث كانت هناك جزءا من الحركة الطليعية البوهيمية، وذهبت إلى باريس حيث أصبحت جزءا من الحلقة السوريالية وعرضت فيها أعمالها.
وفي باريس أيضا قابلت صديقة عمرها الفنّانة ليونورا كارينغتون. لكن عندما احتلّ النازيّون باريس هربت مع زوجها ومع صديقتها كارينغتون واستقرّوا في المكسيك.
اهتمامات فارو بالاكتشافات العلمية تعكسه عناوين لوحاتها التي تتناول الفضاء والتطوّر والفلك وعلم الوراثة وغيرها. وأبطال لوحاتها يحملون بعضا من ملامحها، كالوجه الذي يأخذ هيئة قلب والعيون اللوزية والأنف الدقيق الطويل والشعر الوفير. وكلّ هذه الملامح تتحرّك في عالم ميتافيزيقيّ.
وبعض النساء في لوحاتها مروّضات وخاضعات ولهنّ اذرع وسيقان وكراسي. أما المشاهد السردية فمليئة بالنباتات والحيوانات الفانتازية.
وفي بعض اللوحات تتحوّر الأشياء لتأخذ خصائص أشخاص ليسوا أحرارا ولا يستطيعون الهرب. وفي لوحات أخرى يبدو الأشخاص مسجونين داخل ملابسهم وأسوارهم وأقنعتهم وكأنهم يتوقون للفرار إلى أزمنة وأمكنة أخرى.
يقول احد النقّاد: مثل الممثّلة التي تلعب أدوارا مختلفة، كانت فارو تستخدم دائما تلك الصور كطريقة لاستكشاف هويّات شخصيّة بديلة بطريقة أصبحت هي سمتها أو ماركتها الخاصّة".
المكسيك، المشهورة بفنّها البدائيّ وبكرم ضيافتها، وفّرت للرسّامة حرّية واسعة لممارسة فنّها السوريالي المتمرّد، وأصبحت وطنها الثاني. وفي السنوات العشر التالية رسمت هناك معظم أعمالها الناضجة. لكن السنوات الأولى هناك اتّسمت بالمصاعب الاقتصادية وبالعزلة الشعورية والإنهاك ومتاعب القلب.
في مرحلة متأخّرة من حياتها أصبحت فارو تعاني من نوبات الاكتئاب. وقد توفّيت في مكسيكو سيتي عن 55 عاما وذلك في الثامن من أكتوبر عام 1963 نتيجة إصابتها بأزمة قلبية.
وبرغم مرور نصف قرن على رحيلها إلا أن فنّها ما يزال يحظى بالرواج والشعبية، خاصّة في المكسيك وفي أمريكا الشمالية.