May 06, 2016
بدءاً، أشيع أن المروية فخ محكم اشترعه الراوي عن سابق نية لإيقاع القارئ الشغوف، عبر غوايات وعلائق تشكل يومه المعاش.. تشكيلاً، تخضع المروية لحالة «لوغارتمية» كمعمار يقوم على أسس بنائية، تبدأ من الحكاية التي تخضع لعملية إكساء خارجي وداخلي من خلال حامل اللغة الذي يبدأ سرداً وينتهي حبكة، وصولاً إلى الحالة التزيينية عبر المحسنات التشويقية التي يمارسها الراوي خلال تواتر الأحداث. في «رقصة الجديلة والنهر» للعراقية وفاء عبد الرزاق الصادرة عن مؤسسة المثقف العربي/سدني بالتعاون مع دار العارف للطباعة والنشر والتوزيع، يجتمع كل ما تقدم أعلاه من مفاتيح القول.
تفنيداً أقول: إن عبد الرزاق رسمت خطوط مرويتها بعناية وإحكام في ظل ثلاث مراحل متواترة، لربما يستهجنها القارئ العادي، حين يجد نفسه في لحظة ما أنه جزء من منظومة كان للتو يلعب خارج دوائرها.. بدءاً من الفرش الخطابي الشعري، مروراً بمرحلة الشراكة بين الراوي والقارئ الذي زج طي الحبكة من دون دراية، ليصير لبنة أساسية في السياقات، وصولاً إلى الانفتاح والمواجهة بالأسئلة حيث صار لزاماً الوقوف على أجوبتها.
الدخول إلى جوانية القارئ عبر سردية توثيقية غاية الفجاجة، من هنا كان دأب عبد الرزاق جلياً في المتن الثاني من المروية، بأن لا تقع تحت سطوة المادة التوثيقية الجافة، بل مواربتها ليصار إلى تمريرها بسلاسة متناهية ضمن السياقات بأطر حافظة لميثاقها الزمكاني، وهذا ما حدث فعلاً عندما وثقت جل الجرائم التي ارتكبها «داعش» بهمجية في العراق وسورية، بفرادة استطاعت ليّ ذراع اللغة السردية وتطويعها للوصول إلى الغاية، من دون أن تخضع مرة للنمط البكائي، بل هي وقفت على «سيكولوجية» الواقعة بشكل لافت.
هذه المماهاة الصريحة بين الكاتبة وحبكتها جاءت في أوانها لملء بعض فراغات الواقع وثغراته، من خلال اللعبة الروائية وطاقة المتخيل الخلاقة التي بينت أن التوثيق في المروية لعبة سردية وظفها الروائي لحمل رؤيته إلى المتلقي وتجسيدها عبر واقع روائي جديد يتشكل من خلال صيرورة الكتابة وسيرورتها.
من هنا نلمح أن عبد الرزاق كانت تجدف في تيار آخر مختلف، يجعل مرجعية مرويتها البنية الروائية الفنية كحامل أول، وهو ما جاء إسقاطاً مع مقولة الناقد شكري عزيز الماضي، في كتابه «أنماط الرواية العربية الجديدة»: «إن الرواية العربية الجديدة لا تريد أن يكون الواقع مرجعيتها فهي تكابد كي تكون مرجعيتها بنيتها الروائية الفنية ذاتها. ولهذا فهي تتعامل مع الواقع من منظور جديد وفهم جديد وكيفية جديدة».
وهذا ما يفضي بي الآن للمفارقة بين «رقصة الجديلة والنهر» ومرويات أخرى، للوقوف على الناصية التي انتهجتها عبد الرزاق، فمثلاً حين نقرأ «نيجاتيف» للروائية روز ياسين حسن، التي ضحت بروعة سرد التخييل في مقابل التدوين، أو بمعنى أدق حفظ التجربة، مع العلم أنها كانت تعي تماماً بأن السرد التوثيقي يسير بمسارب محددة لا يحيد عنها، بنهايات منجزة سلفاً وبشخصيات معروفة، في حين آخر كان ثمة تقارب ملحوظ مع مروية الكردي السوري: سيروان قجو «لا شيء سوى الدخان» في رحلة البحث عن هوية ووطن..
كذلك نجد أن تحوير أسماء بعض الشخصيات وتوظيفَها في سياق الأحداث وهي تؤدي أدوارها مثل رمزية اسم «كاوا» وغيرها من الشخصيات ، تجعل القارئ متحفزاً لنبش الإرث التي تركته هذه الشخصيات في الذاكرة كلما مرت في السياق، مما يترك حالة راحة خاصة في نفس المتلقي بعدما أجادت الكاتبة بالتوفيق بين الخط التاريخي والدرامي للشخصية التي تحركها، من دون أن يطغى خط على آخر، بل كانت مرجعية كل واحد منها خادماً مكملاً وبشكل جلي للآخر، هذا التناغم التوافقي الذي جاء بين روح الكاتبة وتماهيها التام مع شخوص مرويتها سهّل في تذويب الحدث الذي ضخته الكاتبة في عروق قارئها كسيل ناري مشتعل بسلطة الحبر، إيهاماً وغموضاً وانزياحاً من خلال اللعب على المفردة وانتقائها، التي قلما تدفع بمضمرها ودوالها كاملة على الورق، ليس لأنها فقط تريده تابعاً لاهثاً وراء المفاتيح، بل جهدت عبر شخصية الطفل الأخرس الذي دأب على حفر الجحور والأوكار في التخوم، أن تشي لقارئها بأنه قيد الاستنطاق كشريك لما يحدث على أرض الواقع، وجزء كلي في الخسارات التي وصلنا إليها جراء حالة السكوت والرضوخ للظلم من دون المطالبة بالحقوق.
لم تستطع الراوية مواراة انكسارنا معاً، لكنها لم تغلق باب القفص على عنقاء أرواحنا، بل ذهبت بعيداً عبر لسان ريحانة المروية بالقول: سيسير الوطن باتجاه صوت الشرف، لقد بشرت السماء بالمعجزة، وسينهض العراق من نومه الطويل».
كاتب سوري