إن الفساد الإعلامي في الوطن العربي، يُعدُّ أكثر خطورة من الفساد السياسي، فهو إما إعلام مُسيّس ومأجور، لعبته التمويه والتعمية والخديعة، وهذا النوع ظاهر للعين المجردة، ولا يتبعه إلا أصحابه، ومن تتناسب معه مصالحه وأهوائه، بالإضافة إلى أصحاب الفكر المنقاد والمرن. أو إعلام خائف وهزيل، يخشى النظر إلى أبعد من إصبعه، وإن رأى فإنه يدفن رأسه في التراب، وهذا النوع غير مرئي وليس له تأثير أو كلمة. أو إعلام متمرد وخبيث خلط بين حرية الرأي وبين التمادي في خرق حرية الآخرين، فتجاوز حدود الأخلاق وشوّه الحقائق، فقد خالف ليختلف، كي يحصد الشهرة والتأييد والالتفاف حوله من الناس، وهذا النوع من الإعلام هو الأكثر خطورة من النوعين السابقين، لأنه يتلون ويتلوّى، ويتلاعب بعواطف الناس، ويتوغل في فكرهم وأذهانهم، ويؤسس لأوهامهم ويزرع فيهم الشكوك، وبالتالي تضطرب الرؤية، وتتوه الحقائق، ويصعب التمييز بين الغث والسمين.
أما الإعلام النزيه الصادق، وعلى الرغم من أننا نحمد الله على أنه لم ينقرض في وطننا العربي الكبير بعد! إلا أنه وللأسف خجول، مقيد، صوته مبحوح، لا يصل صداه إلا إلى أسماع من يفكر ويحلل ويقارن ويحاسب، ثم يقرر كيف سيتعامل مع المعلومة التي وصلته ويبني عليها أم يرفضها.
أما النوع الأخير من الإعلام، على سبيل المثال لا الحصر، فهو الإعلام الفضائحي الذي يدخل بيوتنا على خلسة منا، فيقدم لنا (فنانات) لم نسمع عنهن من قبل، ولم نكن لنعرف بوجودهن لولا جهود إعلامنا الذي يحرص من خلالهن على نشر ثقافة الفضائح والرذائل والابتذال والإغراء. والذي أهّل هؤلاء (الفنانات) كي يتربعن على عروش الشاشات العربية، هو تماديهن في تقديم فنون العري والإيحاءات الجنسية المبتذلة الرخيصة.. يقدمهن الإعلام في برامج حوارية انتقادية - كأن يقول المحاور للفنانة في عملية استخفاف واضحة للعقول: "أنت تسيئين لصورة المرأة العربية"- وأقول لذلك المحاور وأمثاله والشاشة التي يطلّ منها، بأن صورة المرأة العربية تصبح سيئة وقبيحة حين تقتدي الفتيات اللواتي يرغبن بالأضواء - بفناناتكم اللواتي لا يعكسن سوى صورتكم- فيقلدونهن تقليدا أعمى، وقد يتفوقن عليهن بأساليب مبتكرة! فطالما أن ما يفعلونه يحقق لهن الشهرة السريعة دون أي مجهود أو تعب، ويحصدن به نسبة مشاهدة ذكورية مهولة، فما المانع من خوض التجربة؟ وبذلك تخترق الفكرة رؤوسهن كالبريق المفاجئ الذي يبهر عيونهن فيصيب قلوبهن بالعمى، فتعجزن عن التمييز. فتتم بذلك عملية التنويم المغناطيسي الممنهج للمشاهد. والإعلام بذلك يصطاد عصفورين بحجر واحد، الكسب المادي، والسيطرة على العقول، التي تؤهلهم أن يتلاعبوا بها كالدمى المتحركة. والمثير للسخرية أن المشاهد العربي لتلك البرامج الحوارية، أيضاً يسب وينتقد، ولكنه يستمر بالمشاهدة، وينتظر الحلقة المقبلة علّها تكون أكثر ابتذالاً.
إن كل أنواع الإعلام التي ذكرتها على جميع أشكالها، وقودها المجتمع والناس والمتلقي. وتضخ كل ما تحمله من خير أو شر، حق أو ضلال في عبِّ من يتسع قلبه وفكره لها. وهنا نكتشف أن المسؤولية الكبرى تقع على كواهلنا، وأن الفساد المستشري في معظم أمور حياتنا لنا اليد الطولى فيه... وسيبقى مستمراً إن بقينا نستقبل دون أن نعقل ونعي ونحاسب!!.
لقد تهاون الإعلام العربي في رسالته الأخلاقية والإنسانية والفكرية والثقافية، التي من شأنها أن ترقى بالمجتمعات وتبث في عقول أبنائها وأذهانهم ونفوسهم القيم والثقافة والفكر والانفتاح على الآخر المختلف، بالإضافة إلى الفنون الراقية على تنوعها.
أما الجملة التي نسمعها حين نواجه الإعلام العربي المرئي على وجه الخصوص بما يقدمه، فالجواب الحاضر هو: "هذا ما يريده الناس، وهذا ما يلبي أذواقهم ورغباتهم وثقافتهم".
هل هذا ما يريده الناس فعلاً؟ وهل هذا ما يلبي أذواقهم ورغباتهم وثقافتهم؟
وإن لم يكن فماذا أنتم فاعلون؟
أتمنى أن ينتج عن سكوننا ثورة، وعن سكوتنا حركة، كي تشيح النقاب عن إرادات مشبعة بالرفض ولاءات الاستنكار!