موقع مزيف احذر الدخول فيه

موقع مزيف احذر الدخول

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 غناء ناءٍ يتردّد الآن.. والآن أيضاً ينفرط.

ينبعث صدى احساس قديم في نفسي، قديم أو مبهم، لا فرق، فالمكان هو المكان نفسه مهما تغيّرت الأشكال.. لكنني أتحرك في قلب الظلمة مستعيناً باللمس، أتحرك بمنتهى البطء خوف أن يصدمني ما هو صلد، أخطو كما لو في فراغ أو مكان مجهول، سيان سواء كان مكاناً أو لا مكان، والنقطة التي أروم الوصول إليها لن تتحدد أبداً. إنها أمامي مباشرة، ولكن أمامي على الدوام، أتقدم إليها بتؤدة، فتتبدد باستمرار، إن ما هو أمامي يختلف بالتأكيد، ولكن مقياسه ليس واضحاً، ففي الظلام لم تعد لي جهة أمامية، إلا أنني أدفع بجسدي نحوها، ومن الممكن أن تصبح الجهات كلها، ودون أي تحديد، هي جهتي الأمامية.
أفترض أنّ الآخرين يراقبونني في هذه اللحظة، ويسخرون مني لأنّ الجهات منعدمة عندي.. أغلب الظنّ أنهم يرونني أسير إلى الوراء وكأنّ كلّ واحد منهم لا يبصرني أيضاً، ولكنّه يسمع صوت خطواتي التي تبتعد وراءه.. الألوان والأنوار هي ذكريات، كذلك الملامح، ولكنني مع مرور الوقت، وبقدر ما أصل إلى معرفة ما هو ورائي فإنني أزداد جهلاً لما هو أمامي، فأسعى إليه ولو حدث لي وأن عدت فسأركض في طريق عرفت خباياه، ولكن، ذلك مماثل للوي العنق، ثم إن الظلمة تبتلع كل الأشياء التي تندفع روائحها إلى الوراء، ولهذا فإنني أسير إلى أمام فقط ودون أن أسرع الخطى.. المكان مظلم كلياً، وليس هناك أي فعل خارق أو مدهش للشمس، إنها سوداء وداكنة أيضاً، ولولا هذه الخيوط الدقيقة المشعة التي تتراقص وهماً أمامي لقلت: إني لم أبصر أي شيء منذ بدأت أسير، بل منذ قررت أن لا أتوقف عن المسير، لقد مللت من قطع الأمتار المحدودة التي تصنع لي حركتي اليومية داخل البيت، حيث كنت أتعلّم أن أخطو بحذر شديد بين الأرائك والمناضد، أو أنتقل من غرفة إلى أخرى، محاولاً أن أحفظ دربي الذي لم أعد أراه..
الآن أريد أن أتقدّم مستمتعاً بحرية الأشكال وبرودتها، دون أن أستنتج منها ما هو عدا ذلك، فلتكن ما تكون، دوائر أو مربعات أو مكعبات ليس لذلك أي أثر..
عشرات المرات كان النور خادعاً، إذ أنه زيّن لي أشكالاً وصوراً تأسرني بحدودها أكثر من ملامحها، وتضيّق عليّ الخناق، ففي البيت، كما في مقر عملي كما على الرصيف، كانت حركتي محددة سلفاً، لأنني في الحقيقة كنت أتفادى ما يمكنني أن أصطدم به، بمعنى أنني كنت أسلك درباً بين الركام..
أما الآن حيث لا أرى بل أتحسّس، فإنني سعيد جداً، رغم أنّ بعض الموجودات قد يصدمني. إن طريقي نظيف لأنه خال مما قد أراه. (لو كنتُ أرى) فإنّك لا تتصوّر كرسياً إلاّ إذا تصوّرت مكاناً تضعه فيه.. ولكن من أنت؟!.
إنّ الأمر مستحيل في نظري، لأنني غادرت الأمكنة التي أعرفها، وأسير هنا متحسّساً هذا الطريق دون أن أكون قد مررت به سابقاً، فليس بوسعي تخيّل أيّ شيء، إنه فارغ تماماً إلاّ مما قد يصدمني، وحتى هذا سيذهب إلى الوراء الماضي، وسيتعين عليّ أن أنساه في الخطوات اللاحقة أو في المكان الجديد.
يتحتّم عليّ أن أكون أكثر صفاء ووضوحاً، ولكن ذلك يبدو شبه مستحيل، خاصة وأنّ الآخرين يسيرون في النور الساطع عكسي، فلأقل: إنّ الضوء غرب في عيني، أو لا يشبه ذلك وضع من يقف أمام الأفق، ثم يشهد غروب الشمس تدريجياً، أو حتى يشهدها تنطفئ في مكانها؟!.
لقد أدركت ذلك منذ الوهلة الأولى، أو بالأحرى منذ أن لم أعد أرى، أنّ ما حولي أصابه الليل الداكن، فلم تعد عيناي هما عصاي، بل خيالي.. هكذا وببساطة فرحت بهذه الهبة الجديدة.
جلست في البيت لأقرّر على مهل كيف سأعيش منذ تلك اللحظة، وفي النهاية اكتشفت أنّ الأمر سهل جداً، فعندما كنت أريد أن أتفادى شيئاً معيناً قبل ذلك الوقت كأن يكون مرعباً ومشوّهاً كنت أسارع إلى إغماض عيني، أما الآن فلا أفعل ذلك، والأمر واحد سواء أغلقتهما أم فتحتهما، بل انني أحتاج إلى معالجتهما لأرى ما هو محدد وصغير، أو حتى لأبصر ما يدفعني إلى اغلاقهما من جديد، فعلام أفعل ذلك؟.
ثم إنني لا أستطيع أن أندم على رؤيتي لما هو جميل، وذلك لسبب بسيط، هو أنّه لا قيمة له الآن فبالقياس إلى أيّ شيء آخر هو كذلك.
إنّ أيّ جمال منصرم هو جمال زائف لأنه معروض.. ذكرياتي تقول ذلك، وخاصة ما يتعلّق منها بغرفتي، فقد جلست أرتّب معالمها قرابة شهر كامل.. نزعت عنها خيوط العناكب، وأزلت التراب الراكد في أجزائها، وأعدت توزيع الأثاث فيها، عندئذ نظرت إلى اللوحة الجميلة التي كانت قد جلبتها، والتي دفعتني إلى بذل ذلك الجهد كلّه وقت أن كانت موضوعة وسط الفوضى والإهمال كتحدّ لرغبتي فيها..
نظرت إليها من جديد بعد تجميل الغرفة.. فبدت أقلّ سحراً وجمالاً مما سبق، الأمر الذي جعلني أتألم ألماً كبيراً من أجلها.. إنّ حيّزاً أجمل من هذا أو أكثر ترتيباً سيجعلها عادية وربما قبيحة، أما الجمال الخالص، الجمال الذي أريده فهو ما يظهر بعدئذ، أو بالأحرى في داخلي الآن، وقد كان حقيقاً بي أن أفطن إليه منذ وقت بعيد.. وخاصة في إحدى المرّات، عندما خدعني المسرح في إحدى زياراتي المتكررة له، وزيّن لي منظراً يكاد يكون مجرداً وقريباً من هذا، فقد اطفأ أنواره كلّها ما عدا ضوءاً كاشفاً واحداً راح يسلّطه على جزء صغير فقط، بدا رائعاً وفاتناً حتى غمر النور المنصّة كلّها ففقد بهاءه وسط الأشياء الجميلة الأخرى.. وكان لابدّ لي أن أعرفه في لحظة أخرى من الماضي، وبالذّات عندما جاءت إحدى الصديقات، ربما كانت صديقة طفولة أو دراسة، ومدّت يدها لتصافحني، اثلجني منظر قفّاز اليد الشاحب والعتيق الذي ترتديه وأوشكت أن أتراجع، لكنها خلعت القفاز، وكشفت عن كفّها البضّ الجميل والدافئ كما لم أتصوّر، كان القفاز القبيح يغطي جمالاً بحجمه، ولهذا السبب فإننا نصنع الجمال لأنفسنا بصورة من الصّور ثم نضعه في الموجودات التي تحيط بنا دون أن نفطن إلى أنه موجود في مكان آخر مختلف كلياً..
أجل كان ينبغي لي أن أكتشف ذلك منذ البداية، ولكنني لم أكن مهيّئاً بشكل لائق، لقد حبستني الذكريات وهي تنشط بفعل أية صورة تقع عليها عيناي كنت أرى وأتذكر، وهذا هو خطئي، أما عندما خبت عيناي فقد أمسكت بهذا كله.. هكذا اذن أحثّ الخطى، وقد عقدت العزم على أن أوسع فضاء مشواري إلى أبعد أفق ممكن قد أسقط في حفرة أو نهر، وقد تدهسني إحدى العجلات السريعة لكن ذلك مستحيل، فلا يوجد منه شيء على دربي.
ما أجمل هذا الاكتشاف البسيط للأرض تحت قدمي كل خطوة أخطوها تفتحها أمامي، كلما دفعت بقدمي إلى الأمام، وأنزلتها إلى الأسفل، نبع تحتها قدم مماثل من الأرض.. الأرض التي بحجم خطواتي.
لا أعرف إلام سيؤول الأمر غير أنني لا أرى نهاية مشواري، ولن أراها أبداً بل لن أدركها.. إن الوضع لذيذ على هذا النحو فقط، ولكنه لم يكن كذلك نهائياً، فقد كنت أجرّب أن أفعله فيما سبق، وخاصة في الطفولة، حيث ألجأ إلى إغماض عينيّ أثناء السير، أطبقهما بقوة وأخطو بحذر، لكنهما تنفتحان تلقائياً، فينفتح فيهما النهار أو الضوء، وتتبدى تلك الأقنعة الوهمية المنعكسة على مرايا من النور، كأنك لا تراها، بل ترى النور نفسه وقد استحال إلى انعكاس أو شكل ولكن من أنت؟!.
الآن ها أنذا أفتح عينيّ كلياً، وأعاود إغماضهما دون أن يختلف وقع الأمر عليّ.
ولكن ما هذا الصوت الذي يشوّش ظلامي ويخدشه؟.
لعله صوت قطار يتحرك في الخارج.
إنّه يعكّر صفوي وصمتي على كل حال، سواء كان قادماً نحوي أو لا، إنّه يعيدني إليه مرة أخرى وهذا هو أسوأ شيء بودّي لو أنني لا أسمعه لاستمتع بمشواري أكثر، فعندئذ لن أخشى، أو بالأحرى لن أغير اتجاهي عن الجهة الأمامية، لن أحيد بسبب قطار كبير أو مركبة صغيرة ولو أنني ذهبت بهذا الغروب إلى أبعد من هذين الأمرين، فلربما استطعت الوصول إلى حالة أخرى بحيث لا أتألّم من أيّ كرسيّ أو حائط قد يصدمني على الطريق.وسأسير ملء حريتي..
ها هو ذا صوت القطار يعلو..
نامي إذن.. أيتها الأصوات.


  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 74 مشاهدة
نشرت فى 26 إبريل 2016 بواسطة dsdsdsfffssff