جاءت التفكيكية كتمرد علي أنساق الحداثة, فبعد أن سقط الوعي الأوربي المعاصر في حالة من الصورية والشكلانية مع البنيوية, كان سقوطه الثاني في التفكيك المروع مع جاك دريدا ورفاقه في مرحلة ما بعد الحداثة التي تنكرت لكل مرجع, وألغت كل مركز, ونفت كل جوهر, ودعمت اللامركزية والتشظي.
إن التفكيكية مدرسة تقويض ونقد شامل دون أية محاولة لإعادة البناء, وهي تنكر وجود أية قيمة مطلقة, وتقوض فكرة الحقيقة الموضوعية, وتحطم فكرة التمركز حول العقل, وتزعزع الفكر الغربي- بل والإنساني- الذي يقوم علي مفهوم' المركز الثابت للفكر' مثل المعني أو الذات أو الحقيقة أو السببية. وتنظر إلي' النص'باعتباره ممزق المعني ومفكك الدلالة, فليس له وحدة معني وليس له مركز ثابت. أما الشخصية الإنسانية فقد ذهبت هباء; فلا وحدة لها, ولا ذات تلم شتاتها!
وتتجلي النزعة التفكيكية في'ما بعد الحداثة' في تأكيدها علي عجزاللغة عن أداء المعني, ووجود تفسيرات غير محدودة ممكنة للنص, مع غياب القدرة علي الترجيح بين المعاني; ومن ثم ضياع النص; يقول جاك دريدا:' لا يكون النص نصا إن لم يخف علي النظرة الأولي, وعلي القادم الأول, قانون تأليفه وقاعدة لعبه. ثم إن نصا ليظل يمعن في الخفاء أبدا. وليس معني هذا أن قاعدته وقانونه يحتميان في امتناع السر المطوي, بل أنهما, وببساطة, لا يسلمان أبدا نفسيهما في الحاضر لأي شيء مما تمكن دعوته بكامل الدقة إدراكا..'. ومن ثم فكل قراءة ليست مطلقة, وكل تأويل هو نسبي, وكل محاولة لإدراك النص ليست نهائية; فالنص يظل يمعن في الخفاء أبدا! والإنسان' سجين اللغة', ولا يستطيع عبورها إلي الواقع, بل إن اللغة هي مرآة غير دقيقة للواقع الذي نعرفه من خلالها, والإنسان لا يستطيع تجاوز ذاته إلي حقيقة ما خارج الذهن, فالموضوعية غير ممكنة; ولا شك أن في هذا عود من جهة للذاتية المفرطة المنكرة لوجود المعني الموضوعي, وعود من جهة أخري للاأدرية التي نعتبرها أيضا أحد جذرور النزعة العدمية.
ومن وجهة نظرنا فهناك بالفعل جانبا غامضا في اللغة, يترك مساحة لتأويلات عديدة, لكن لاشك أيضا أن هناك جانبا يحمل معني محددا, ولولا هذا الجانب لما استطاع البشر التواصل, ولولاه لما استطاع دريدا أن يعبر عن أفكاره هو شخصيا! ولولاه أيضا- لما استطعنا فهم دريدا نفسه! ولو لم يكن للكلام أي معني دلالي لما فهمنا معني أي خطاب, ولما أمكنا فهم التفكيكية ذاتها, ولما استطعنا قراءة أعمال أنصارها وفهمها, ولشككنا في دلالة النصوص, ومنها نصوص دريدا شخصيا! وسؤاليإلي دريدا: إذا كنت متأكدا من ضياع المعني فلم تكتب؟! وأليس' فعل الكتابة'يستلزم أنك تقصد إيصال' معني ما' إلي القارئ؟!
وعوضا عن أن تقضي ما بعد الحداثة فقط علي سجن الأنساق المغلقة عند ديكارت وليبنتز وهيجل, وتنقذ الذات, فقد قضت علي الاثنين معا! وبدلا من أن تنقض بعض شطحات العقل الحداثي وانحرافاته عن مبادئه الأولية وتهوره, عن طريق العقلانية النقدية مثلما فعل كانط في' نقد العقل الخالص', أقول بدلا من ذلك قامت التفكيكية الما بعد حداثية بنقد العقل وتفكيكه ثم إعدامه! فالتفكيكيون يرفضون موضوعية ووحدة أي' معني'; وينكرون الوجود الموضوعي للعالم الخارجي; ويعتبرون الأديان والعلوم مجرد تشكيلات وبنيات ثقافية اجتماعية ليس لها حقيقة موضوعية, والأشياء مشتتة لا يوجد نظام موحد لها. وتنسي النزعة التفكيكية أن الإنسان لا يستطيع غالبا أن يعيش الحياة بدون مركز, مثله في ذلك مثل الكواكب, والأقمار, والإلكترونات, في الطبيعة. وكثير من الناس- رغم مفاسدهم الأخلاقية- لا يمكنهم أن يواصلوا الحياة دون وجود وشائج بينهم وبين' مراكز' المعني المطلق لحياة الإنسان الروحية: الله, الروح, إمكان العدالة المطلقة في لحظة ما في المستقبل. فلولا وجود تلك المراكز للحياة الواقعية لكان كل شيء مباحا, ولانهارت منظومة القيم, ولانعدم معني الحياة نفسها. ومن ثم فالتفكيكية تخالف الموقف الإنساني الطبيعي; فالإنسان لا يستطيع أن يعيش بدون اعتقاد( بالمعني الواسع).
ويقوم التاريخ الإنساني كدليل علي خطأ النظرة ما بعد الحداثية إلي الإنسان باعتباره سجين ثقافته, فالتحولات في التاريخ الإنساني معناها أن هناك أشخاصا تمردوا علي ثقافتهم ومجتمعهم, ونجحوا في الثورة عليه, ثم نجحوا في تحويله, ومن ثم فالإنسان ليس سجين ثقافته ومجتمعه.
وفي الحقيقة لم تقدم التفكيكية بديلا مذهبيا يمكن الارتكان إليه, بل قدمت عدم اليقين, ودعت إلي الفردية المطلقة والنسبية المفرطة, وقلب نظام القيم والأخلاق, وفقدان الثقة في العقلانية وكل نظام أخلاقي يدور علي مركز أو محور ثابت مثل الضمير أو الله أو الواجب, الخ! فهي فلسفة هشة, وموقف يضيع معه الإنسان في هاوية لا قرار لها. وينسحب علي التفكيكية كل نقد تم توجيهه للفلسفات السوفسطائية والشكية واللا أدرية, فهي تحطيم للتمركز حول العقل, وقضاء علي القانون والنظام, وتكريس لضياع الفعل الغائي, وسيادة للامعقول, ووقوع في رمال متحركة يستحيل معها وجود حد أدني ثابت للمعني أو القيم أو الغاية القصوي