يعد التفكيك deconstruction أهم حركة ما بعد بنيوية في النقد الأدبي فضلاً عن كونها الحركة الأكثر إثارة للجدل أيضاً . وربما لا توجد نظرية في النقد الأدبي قد أثارت موجات من الإعجاب وخلقت حالة من النفور والامتعاض مثلما فعل التفكيك في السنوات الأخيرة . فمن ناحية نجد أن بعض أعمدة النقد ( مثل ج. هيليس ميلر وبول دي مان وجيفري هارتمن وهارولد بلوم ) هم رواد التفكيك على الصعيدين النظري والتطبيقي على الرغم من تباين أسلوبهم وحماسهم ، ومن ناحية أخرى نجد أن الكثير من النقاد الذين ينضوون في خانة النقد التقليدي يبدون سخطهم على التفكيك الذي يعدونه سخيفاً وشريراً ومدمراً . ولم يخل أي مركز فكري في أوروبا وأمريكا من الجدل في قيمة هذه النظرية الجديدة في النقد .
فهل أن التفكيك مدمر حقاً ؟ إذا كان الجواب نعم ، كيف يكون ذلك ولماذا ؟ وإذا كان الجواب لا ، فلماذا هذا الرعب ؟ لا يمكن الإجابة عن هذه الأسئلة إلا بعد فهم مفاهيم التفكيك الأساسية وتقويمها ، ولعل أفضل موضع ننطلق منه لتحقيق غايتنا هو كتاب ” في علم الكتابة ” (2) Grammatology Of الذي يعد لسان التفكيك … العمل البارز الذي أنجزه جاك دريدا ، الفيلسوف والناقد الفرنسي .
وأنا أعتقد أن البحث الذي يتقصى دريدا ونظريته في التفكيك تواجهه عقبتان رئيستان ، الأولى أوجدها أسلوب دريدا نفسه المتسم بإثارة الحيرة فضلاً عن مصطلحاته ومفاهيمه ، أما الأخرى فهي سلسلة الآراء النقدية التي تعد تأويلات interpretations غير وافية أو سوء تأويلات misinterpretations محتملة ، على الرغم من الضوء الذي تسلطه على بعض المفاهيم الصعبة التي شكلها دريدا . وسأعمد إلى توثيق بعض هذه التعليقات النقدية قبل الشروع بوصف وتقويم مفاهيم التفكيك .
يؤكد م. هـ. ابرامز M. H. Abrams أن أبرز جزء في نظرية دريدا هو : ” 1ـ أنه ينقل بحثه من اللغة إلى الكتابة ، النص المكتوب أو المطبوع ، 2ـ أنه يتصور النص بطريقة محددة غير اعتيادية ” (3) . ولم يعمد أبرامز إلى تبسيط مكانة دريدا بوصفه تفكيكياً من خلال مساواته مع البنيويين الفرنسيين الآخرين حسب ، بل إنه شوهه إلى حد كبير حينما حاول تعريف بعض الكلمات الأساسية في النقد التفكيكي مثل ” الكتابة ” ecriture و ” النص” text . وقد بين أن الكتابة عند دريدا هي النص المطبوع أو المكتوب وأن مفهوم النص محدد على نحو غير اعتيادي .
وسأبرهن في معرض تقييمي لدريدا وتعليقي عليه أن ما جاء به أبرامز لا يتعدى كونه حفنة من سوء التأويلات التي لم يحدثنا فيها عن ماهية التفكيك بل عن أمور لا تمت إلى التفكيك بصلة .
أما نيوتن غارفر Newton Garvar فهو معلق آخر على دريدا ، إذ يؤكد أن دريدا واحد من فلاسفة اللغة ، وأنه يشدد على أسبقية البلاغة على المنطق :
ينضوي دريدا تحت لواء الحركة التي تنظر إلى الأثر الذي تلعبه الملفوظات utterances في الخطاب الفعلي على أنه يمثل ماهية اللغة والمعنى ، والذي بسبب ذلك يعد المنطق مستنبطاً من المسوغات البلاغية (4) .
وقد حظيت المحاجة التي تقول أن التفكيك حقل معرفي بلاغي ، بدعم هيليس ميلر الذي يقول : ” إن التفكيك بحث في الإرث الذي يخلفه المجاز والمفهوم والسرد في أحدهما الآخر ، ولهذا السبب يعد التفكيك حقلاً معرفياً بلاغياً ” (5) . ويعتقد موراي كريغر Murray Krieger أن دريدا ” بنيوي نقدي تغلب على البنيوية وقهرها ، وربما يكون قد أبطلها أيضاً ” وأضاف إن الهجوم الذي شنه دريدا يعد ” شكلاً أكثر حداثة لذلك الهجوم القديم الذي شنه أفلاطون على الشاعر بوصفه خالق أساطير” (6) . ويؤكد فريدريك جيمسون Fredric Jemson أن فكر دريدا ينفي وهم تخطي الميتافيزيقيا والهرب من النموذج القديم لغرض تمحيص الجديد وغير المكتشف (7) .
ومن الممكن أن تكون هذه التعليقات مصدر تضليل إذا عددناها بياناً أو تقويماً سليماً لنظرية دريدا ، على الرغم من فائدتها في سيرورة البحث في التفكيك ، فنحن حينما نعد دريدا مع بقية فلاسفة اللغة الذين يعتقدون أن المنطق مستنبط من البلاغة ، فإن هذا يعني سد الطريق أمام إمكان إدراك حداثة أفكاره ، كما إن مساواة دريدا بأفلاطون والتأكيد أن دريدا يكرر النزاع القديم مع الأسطورة myth يمثل إساءة لمكانة دريدا ، والتأكيد على أن دريدا لم يفعل شيئا سوى نقل الاهتمام من ” الكلام ” إلى “الكتابة ” وبذا فإن حصر النص في حجيرة خاصة ، لهو سوء تأويل حقاً . إذ ينبغي للمرء أن يكون حذراً عند مقاربة المصادر الثانوية الرامية إلى فهم دريدا والتفكيك . وقد انقسم النقاد على فريقين … فهم أما يخفقون في فهم دريدا أو يسيئون تأويل أفكاره ، ولهذا السبب لا يمكن الاعتداد بالمادة الثانوية ، ولا يمكن أن نعدها طرقاً سالكة توصل إلى عالم التفكيك ، لكن مع ذلك يوجد نقاد آخرون أمثال هارولد بلوم Harold Bloom وهيليس ميلر وبول دي مان Paul DeMan وجيفري هارتمن Jeoffrey Hartman الذين هم بقدر أصالة دريدا ، إلا أن كل واحد منهم يشكل مدرسة تقريباً ونادراً ما يفسر دريدا … المعلم العظيم الأول للتفكيك . ويعد فهم دريدا الخطوة الأولى على طريق فهم التفكيك ، ومما لا شك فيه أن الخطوة الأولى تستدعي مماحكة أفكار دريدا .
يمكن القول إن النظرية التفكيكية بحاجة إلى الكثير من التحليلات الجديدة وإن أية محاولة يقوم بها أي ناقد يحاول تحليل هذه النظرية لا تحتاج إلى التعريف بالتفكيك بالضرورة لأن مثل هذه النظرية المعقدة والشائكة تستعصي على التعريف . وعلى العكس من ذلك بإمكان المرء محاولة تفسير المصطلحات الأساسية التي شكلها دريدا لتدمير النقد التقليدي وتسهيل فعل التفكيك … وهذه هي الخطوة الأولى التي سأقوم بها هنا ، وسأنوي بعد وصف المصطلحات وتحليلها التي جاء بها دريدا الإجابة عن السؤال الذي يخص الكيفية التي يتمكن بها التفكيك من إعادة توجيه النقد الأدبي ، وسأبين في المراحل النهائية من تحليلي إن ما وصف بالسخف هو ليس كذلك وإن للتفكيك مضامين روحية .
ومن الجدير بالذكر أن ” الكتابة ” و ” الكلام ” كلمتان محوريتان يمكن أن يبدأ بهما فهمنا . وتتمتع هاتان الكلمتان بدلالة خاصة في المفاهيم التقليدية للغة ، إذ أن هذه المفاهيم تنص على أسبقية الكلام وأولويته على الكتابة ، وإن الكلمة المنطوقة ” صوت” phone كلمة غير خارجية ولها القدرة على المحو الذاتي . كما تُعرف الكلمة المنطوقة بأنها صورة صوتية (سمعية) وظيفتها هي استحضار المفهوم الذي تمثله الصورة الصوتية . وتتلاشى الكلمة المنطوقة أو الصورة الصوتية في سيرورة استحضار المفهوم ، ولهذا السبب فإنها بوصفها دالاً تطفئ نفسها في سيرورة التدليل على المدلول الذي يكون هو الأكثر أهمية من أي شيء آخر . ولا يمكن تصور هذا المدلول إلا من خلال الصورة الصوتية التي هي الدال . ومن الممكن أن نلاحظ هنا أن ثمة شيئا أشبه بالثالوث في هذه العلاقة : الذهن الإنساني ، الدال (الصورة الصوتية ) ، المدلول (المفهوم) .
والآن ، ما المكانة التي تحتلها الكلمة المكتوبة في الفهم التقليدي للغة ؟ انطلاقاً من المفهوم التقليدي للغة تعرّف الكلمة المكتوبة بأنها التمثيل الكتابي للكلمة المنطوقة : وبهذا الصدد فإنها دال الكلمة المنطوقة … وهكذا فإن ” الكلمة المكتوبة هي دال الدال وتعد ثانوية بالنسبة إلى الكلمة المنطوقة ” ولا يمكن أن تقوم الكلمة المكتوبة بأي شيء عدا تمثيل الكلمة المنطوقة في حين أن الكلمة المنطوقة هي الدال . فإذا أردت أنا استحضار مفهوم ” زهرة ” ينبغي لي عندئذ أن أنطق صوت ” زهرة ” (زَهْرَ ة) ، والدال هو هذه الصورة الصوتية أو الصورة السمعية . لكني حينما أكتب كلمة ” زهرة ” فما عليّ سوى تمثيل الصورة الصوتية من خلال بنية كتابية graphic structure . ولا ترتبط هذه الصورة الكتابية بأية صلة بالمفهوم ، بل أن الصورة الكتابية لا تستطيع تمثيل المفهوم لأنها بنية مرئية للصورة الصوتية غير المرئية حسب ، أنها شيء أشبه بالطيف . وهي ثانوية بالنسبة إلى الصورة الصوتية ومن الممكن إهمالها ، بل لا بد من إهمالها .
وتنبغي الإشارة هنا إلى أن الحجج التقليدية التي نسبت مكانة ثانوية إلى الكلمة المكتوبة ومكانة رئيسة للكلمة المنطوقة هي حجج ميتافيزيقية ولاهوتية. وكتب دريدا في تعليقه على الأساس الميتافيزيقي الذي يرتكز عليه مفهوم الكلمة المنطوقة قائلاً :
…. إن فهم الله هو الاسم الآخر للوغوس logos بوصفه حضوراً ذاتياً . ومن الممكن أن يكون غير متناه وحاضرٍ ذاتياً ، كما يمكن توليده من خلال الصوت بوصفه صفة ذاتية . إنه ترتيب الدال الذي يمكن للذات من خلاله أن تستعير من خارج ذاتها الدال الذي تبعثه وتؤثر فيه في الوقت نفسه . وكذا الحال مع تجربة الصوت ، إذ تحيا هذه التجربة وتعلن عن نفسها بوصفها إقصاءً للكتابة ، بمعنى آخر إقصاءً للدال ” الخارجي ” ، ” المحسوس ” ، ” المكاني ” الذي يعيق الحضور الذاتي (9) .
ويؤكد دريدا أن مفهومي الكلام والكتابة التقليديين ” يحيلان إلى خارج المعنى” (10) logocentric ، وهذا مصطلح مهم آخر يستعمله دريدا ليعني به ما هو متجه ميتافيزيقياً أو ما هو متجه لاهوتياً (11) . ولكي أكون أكثر دقة أود أن أوضح أن مفهومي الكلام والكتابة قد شكلتهما واشترطتهما وتحكمت بهما الميتافيزيقا . والحق إن هذا ” التمركز حول اللوغوس ” هو ” تمركز حول الصوت ” phonocentrism .. ذلك الاعتقاد الذي يرى أن الصوت يقارب الواقع المتعالي (12) transcendental . ونجد في نظرية دريدا أن التمركز حول اللوغوس والتمركز حول الصوت هما مصطلحان مختلفان يمثلان ظاهرة واحدة : النشوء الميتافيزيقي metaphysical genesis لمفهوم الكلام والفهم . ويركز التمركز حول اللوغوس والتمركز حول الصوت على الصوت لأن هذين المفهومين يتولدان من الاعتقاد القائل أن الصوت يتوسط بين العقل الإنساني والواقع المتعالي . ويمكن القول أن هذه الحجة مقاربة للمفهوم الهندي لسلطة الـ mantras . الذي يمكن تعريفه ” بأنه صوت أو سلسلة من الأصوات . ونحن نعتقد أن للصوت سلطة لأننا نرى أن بإمكانه إثارة السلطة المتعالية ؛ إذ تعزى الأهمية إلى نبرة الكلمات التي ننطقها … فكيف يمكن لصوت كلمة معينة نطلق عليها اسم ” mantra” أن يكون متمتعاً بالسلطة ؟ إنه يتمتع بهذه الميزة لأننا نرى أن الصوت يعمل وسيطا بين اللوغوس والسلطة المتعالية . وأنا لا أسعى هنا إلى تأكيد أن المفهوم الغربي التقليدي الخاص بالتمركز حول اللوغوس ، التمركز حول الصوت هو المفهوم نفسه الخاص بـ mantra لكني أؤكد وجود أوجه تشابه .
ونلاحظ في التفكيك أن ثمة عنصراً آخر هو ” التمركز حول الكتابة ” graphocentrism ، وهو مصطلح مهم بحاجة إلى التفسير قبل الدخول في صلب نظرية دريدا . ومن الممكن أن نبدأ القول بأن الكتابة writing كتابية graphic ، وأن الجرافيم grapheme هو حرف في الأبجدية أو أنه مجموع الحروف أو المجموعات الحرفية التي من الممكن أن تشير إلى الفونيم phoneme ( الذي يمكن تعريفه بأنه أصغر وحدة كلام تميز ملفوظا ما أو كلمة ما من ملفوظ آخر أو كلمة أخرى في اللغة) . وإذا علمنا أن الكتابة كتابية لذا يمكن القول أن الجرافيم ، تبعاً إلى ما يذكره المفهوم التقليدي ، دال صرف يقصد به أن وحدة الكتابة ليس لها أية صلة عدا كونها تمثل الصورة الصوتية . ولهذا السبب يمكن القول أن المقصود بالتمركز حول الكتابة هو انتقال الأهمية من الكلام إلى الكتابة ، وهو يمثل قلباً للمفهوم التقليدي القائل بأولوية الكلام أو الكلمة المنطوقة على الكتابة أو الكلمة المكتوبة .
وهناك عدد من النقاد يعتقد أن التفكيك الذي جاء به دريدا يعد انتقالاً من التمركز حول اللوغوس إلى التمركز حول الكتابة (13) ، وهذه ليست ملاحظة بريئة ولا بد من التعبير عن دلالتها قبل الاسترسال في التفسير ، وأنا أرى أن أفضل طريقة لتوضيح هذه المسألة هي محاولة تبسيط الأمر من خلال القياس . فإذا كان بالإمكان مقارنة الكتابة والكلام والمفهوم الذي يمثلونه بالجسد والروح والواقع المتعالي فعندئذ يكون التركيز على الكلام هو التركيز على الروح ( والتركيز على الكلام هو التركيز على التمركز حول الصوت والتمركز حول اللوغوس) . أما التركيز على الكتابة فهو التركيز على الجسد ( والتركيز على الكتابة هو التمركز حول الكتابة). فإذا كان التفكيك تمركزاً حول الكتابة ، وإذا كان التمركز حول الكتابة يعني التركيز على الكتابة فعندئذ يمكن تعريف التفكيك بأنه رفض لأولوية الروح وسلطة الوسيط ، وإنه تحد لما هو أخلاقي ، إنه الانغمار في الحياة الدنيوية، إنه يعني اختفاء الرب … فهل من المقنع أن نقول أن التفكيك عدمي nihilistic؟ يمكن القول أن هذه التوكيدات كلها صحيحة ، والجواب عن الأسئلة أعلاه هو ” نعم ” عن كل ما يقوله دريدا ، وكل ما يقصده التفكيك . سأعود لهذه المشكلة بعد دراسة مصطلحات دريدا التي تعمل بصفة أدوات تفكيكية .
فبعد أن عرض دريدا الأساس الميتافيزيقي واللاهوتي لمفهومي الكلام والكتابة ، شرع في فحص مسألة الوصف اللساني للغة والمفاهيم التي يحاول الوصف بناءها . والحق أن دريدا يأتي كرد فعل على نظرية سوسير التي تقول إن العلامة sign اللسانية هي وحدة الدال والمدلول . وتزعم اللسانيات الحديثة ، التي ترتكز على مفهوم الدال والمدلول ، والبنيوية ، التي تدين لذلك المفهوم ، أنهما جعلتا من دراسة اللغة وفعل النقد حقلين معرفيين علميين ، وقد بين دريدا أن هذا الزعم هو خداع حسب لأن مفهوم الدال والمدلول في اللغة الذي جاءنا من اللسانيات هو صورة أخرى لمفهوم الكلام والكتابة التقليدي . وقد لاحظ دريدا في أثناء عرضه للعلاقة المتبادلة بين الميتافيزيقا واللاهوت ، ما يأتي :
دائماً ما يوحي مفهوم العلامة داخل ذاته بالفرق بين الدال والمدلول … حتى إن تم تمييزهما بأنهما وجهان لعملة واحدة ، ولهذا السبب يبقى هذا المفهوم ضمن تراث مفهوم التمركز حول اللوغوس الذي هو في حقيقته تمركزاً حول الصوت : التقارب المطلق بين الصوت واللصوت والكينونة being ، وللصوت ومعنى الكينونة ومثالية المعنى . ( OG, p. 112 )
ولهذا السبب فإن نسق اللغة الذي يقال أن اللسانيات جعلته علمياً وأن البنيوية استعارته بحماس بوصفه نموذجاً للنقد ، هو في حقيقته النسق القديم نفسه ، أي نسق ” التمركز حول اللوغوس – التمركز حول الصوت ” الذي هو نتاج الميتافيزيقا .
ومن الواضح أن دريدا حشر الميتافيزيقا واللسانيات في خانة واحدة وهذا يعني أن الميتافيزيقا فسحت المجال أمام اللساني ليتصور ظاهرة اللغة في ضوء القطبية الثنائية ، بمعنى أن المفاهيم الميتافيزيقية ـ مفهوم الواقعي والمثالي ، مفهوم الجسد والروح ، مفهوم الخير والشر ـ قد فسحت المجال أمام اللساني ومكنته من تصور اللغة في ضوء قطبية ثنائية مشابهة . وتعد الحجة اللسانية ، التي تقول أن الصورة السمعية تستحضر المفهوم ( أي أن الدال يستحضر المدلول) ، تركيزاً على أولوية الكلمة المنطوقة على الكلمة المكتوبة ، وبهذا الصدد فإن اللسانيات البنيوية هي صورة معدلة عن الإهمال التقليدي للكتابة ، ذلك الإهمال الذي نتج عن النفور الفلسفي والميتافيزيقي من الطابع الخارجي والمرئي والمجسد للكلمة المكتوبة ، ويتضح من ذلك أن خلف مفهوم اللغة التقليدي ، وخلف مفهوم العلامة اللسانية عند سوسير كمنت ميتافيزيقا على شكل قوة اشتراطية قوية .
وقد أطلق دريدا تسمية ” المفهوم المبتذل للكتابة ” على مفهوم الكتابة الذي أهمله مفهوم اللغة التقليدي واللسانيات الحديثة ، وعدّه مفهوماً ثانوياً ، أي شيئاً ليس له وجود إلا لغرض تمثيل الصوت الذي تجسده الكتابة . ويضيف قائلاً أن الاعتقاد الذي ساد في التراث الغربي بصدد الكتابة هو أنها “الحرف ” و ” النقش المرئي ” و ” الجسد والمادة ” الخارجية بالنسبة إلى اللوغوس . وهذا هو المفهوم المبتذل تحديداً . وقد نبذ دريدا هذا المفهوم المبتذل الذي كان يوجه فهمنا للغة ، على الرغم من أننا لم نكن واعين به تماماً ، مثلما وجه أداءنا في ميدان النقد الأدبي من خلال دفعنا إلى الاعتقاد بأن كل شيء يستنبط المعنى ويعطيه فقط حينما يرتبط بفكرة ما ، والتي ينبغي أن ترتبط ، بالمقابل ، بفكرة أخرى وهكذا دواليك بحيث أن هذه الأفكار كلها ستتجمع في فكرتنا عن الكينونة المتعالية ، ولهذا السبب أصبحت فكرتنا عن الكينونة المتعالية تعمل بمثابة فكرة تتحكم في أفكارنا عن اللغة ، وأفكارنا في النقد … وهكذا أصبح نقد قصيدة ما اكتشافاً لمعناها… ذلك المعنى الذي يعد فكرة أو مفهوماً يمكن ربطه بفكرة أخرى ، وستتجمع عملية ربط الأفكار بعضها بالآخر في فهمنا للكينونة المتعالية. ومن الجدير بالإشارة أن جميع شذرات الأفكار التي يمكن نسجها في نسق واحد ، يجمعها مركز واحد تمثله فكرتنا عن الكينونة المتعالية وإن احتمالية النسق توحي بوجود المجموع . ويمكن تعريف المبدأ الجمعي بأنه فكرة الكينونة التي هي إبداع الميتافيزيقيا . وقد تمثلت محاولة دريدا بتحرير فهمنا للغة وفعل النقد من هذا التأثير الجمعي الذي مارسته الميتافيزيقا ، وتوصل إلى عملية التحرير هذه من خلال صياغته لمصطلحين جديدين من الممكن أن يبطلا مفهوم اللغة القديم وطريقة النقد القديمة . إلا أن أذهاننا خضعت لاشتراطات الفهم التقليدي للغة سواء كنا واعين بذلك الفهم أم لا . فنحن حينما نزعم إننا صغنا أفكاراً جديدة فإننا لم نفعل في حقيقة الأمر سوى تحويل الأفكار القديمة . فعلى سبيل المثال إن المصطلحات اللسانية التي جاء بها سوسير ـ التي يقال أنها أحدثت ثورة في فهمنا للغة ـ هي نتاج آخر للميتافيزيقا ؛ فنحن نكرر أنفسنا حينما نقول إن نسق اللغة الجديد علمي . والحق أن بالإمكان أن تتولد أفكار جديدة حينما تكون أذهاننا محايدة . وإن القصد من وراء عرض دريدا للأساس الميتافيزيقي للغة والنقد هو دفع أذهاننا إلى الحيادية لأننا ندرك تماماً أن ظاهرة طبيعية تماماً مثال اللغة تخفي في داخلها بذور الميتافيزيقا ، بل حتى التفسير العلمي للغة الذي قدمه سوسير هو في الحقيقة ضحية الميتافيزيقا . وقد شرع دريدا ، بعد عرض الأساس الميتافيزيقي الذي تقف عليه اللغة ، في صياغة مصطلحاته الخاصة التي بإمكانها توليد فهم جديد للغة .. وتشكل هاتان الخطوتان بنية التفكيك . وسأبدأ الآن بوصف المصطلحات التفكيكية وتقويمها .
لقد استند مفهوم الكتابة الجديد الذي صاغه دريدا إلى ثلاث كلمات معقدة جداً ، هي : الاختلاف difference والأثر trace والكتابة الأصلية [الأولى] (14) arche – writing. وسأعمل على تفسير كل مصطلح من هذه المصطلحات الثلاث بأوسع قدر ممكن تسمح به محددات هذا المشروع ، وسأبين الكيفية التي تؤدي بها هذه المصطلحات إلى فعل التفكيك. فالاختلاف يشير إلى فعلينactions : 1 ـ أن يختلف ، أن لا يكون متشابهاً ” differ ” 2ـ أن يرجئ ويؤجل (15) (11) ” defer” . وينبغي الانتباه إلى إن الأول مكاني spatial والثاني زماني temporal . ويرى دريدا أن كل علامة تؤدي هذه الوظيفة المزدوجة : أي الاختلاف والتأجيل ، ولهذا السبب تكون بنية العلامة مشترطة من قبل الاختلاف والتأجيل ، وليس من خلال الدال والمدلول ، بمعنى إن بنية العلامة هي الاختلاف الذي يعني أن العلامة شيء لا يشبه علامة أخرى ، وشيء غير موجود في العلامة على الإطلاق . ويمكن توضيح ما ذكرناه بالمثال الآتي : فنحن نميز بين كلمتيthree [وتعني ثلاثة] و tree [تعني شجرة](16) في الكلام والكتابة ، فهما مختلفتان تماماً وتكشفان عن هويتهما . ويعد هذا الاختلاف إحدى القوتين الموجودتين في كل علامة . أما القوة الأخرى في العلامة فهي قدرتها على الإرجاء ، أي قابليتها على التأجيل . فعلى سبيل المثال إن كلمة ” وردة ” في قصيدة ما لا تبدأ بكشف المعنى إلا حينما ندرك أنها ليست تلك الوردة التي نراها في الواقع ، بل أن لها شيئاً آخر ، ذلك الشيء الذي ينبغي اكتشافه . ولهذا السبب فإن العلامة نصفها واف والنصف الآخر غير وافٍ ، وهذه الحقيقة ضرورية لبداية فهمنا إلا إنها غير كافية بسبب نقصها . ومثلما أكد سوسير فإن العلامة هي ليست ” الدال + المدلول ” بل العلامة هي ” الاختلاف + الإرجاء ” . ويرى سوسير أن العلامة اتحاد في حين يراها دريدا اختلاف .
وبما إن العلامة غير وافية وناقصة لذلك ينبغي أن تفهم على إنها ” تحت الشطب [ المحو] ” under erasure وهو مصطلح صاغه دريدا ليشير إلى عدم كفاية العلامات ونقصها . فهي مكتوبة لكنها مع ذلك مشطوبة ، فنحن نشطبها لنشير إلى نقصها . ولهذا السبب تحمل كل علامة هذه الإشارة عليها . فعلى سبيل المثال إن كلمة ” مرئي ” التي استعملها آنفاً لم تحمل أية إشارة واضحة عليها ، لكنها علامة على الرغم من ذلك . لكن إذا نظرنا اليها من زاوية تفكيكية فإنها ستظهر عندئذ علامة مشطوبة ، على النحو الآتي : ” مرئي ” . وينبغي ألا نأخذ فكرة تشطيب العلامة على نحو حرفي ، بل على نحو إيحائي فقط . فهذه الشطبة توحي بنقص العلامات وعدم كفايتها ، بل عدم قطعيتها . إذ لا توجد علامة يمكن أن نقول عنها انها دال لشيء أزلي ، فهي لا تتمتع بأية قيمة مطلقة ، كما إنها لا تحيل أي شيء متعالٍ .. فالعلامة سياقية contextual ، وهي تخلق سراب المدلول ، وإن جل ما تستطيع القيام به أنها ترسلنا بحثاً عما تحتاج هي إليه وتذكرنا بما هو غير كائن فيها . ولهذا السبب إن العلامة ” أثر ” ، فهي ليست التمثيل المرئي أو الكتابي المحسوس للصورة الصوتية بل إنها الأثر الذي يصفه دريدا بأنه ليس طبيعياً ، ( أي إنه ليس الإشارة أو العلامة الطبيعية أو المؤشر index بالمعنى الهوسرلي ) ، أكثر من كونه ثقافياً ، وإنه ليس مادياً أكثر من كونه نفسياً ، وإنه ليس بايولوجياً أكثر منه روحياً .
إن ما هو كائن في العلامة يحرك الذهن باتجاه ما هو غير كائن فيها ، ولهذا السبب فإن ما هو موجود في العلامة يحمل أثر ما هو غير موجود فيها ، وتستطيع العلامة أسر الذهن لأن بمقدورها أن تذكرنا بما هو غير موجود فيها ، وتستطيع عبر هذا التذكير تحفيز الذهن ودفعه إلى الحركة . وهكذا نقول أن العلامة أثر ، وتحمل في أثرها قوتين هما الاختلاف والإرجاء . لذا صار من الضروري أن يتغير مفهوم الكتابة مع ظهور مصطلحي ” الاختلاف ” و ” الأثر” إذ ما عاد بالإمكان الإبقاء على تعريفها بأنها ” الحرف ” و ” النقش المحسوس ” و ” الجسد والمادة ” الخارجية بالنسبة إلى العقل . وعند محاولة دريدا تعريف الكتابة وضح ذلك قائلاً : “… إنها النقش inscription عموماً ، سواء كان ذلك حرفياً أم غير حرفي حتى وإن كان ما تم توزيعه في الفراغ غريباً عن نظام الصوت…”(OG, p. 9) (17) . وبهذا المعنى يمكن أن نعد التصوير السينمائي والرقص والباليه والموسيقى والنحت جميعها كتابة . وقد لاحظ دريدا عند التوسع بمفهوم الكتابة هذا أن :
قد يتحدث المرء أيضاً عن الكتابة الرياضية ( أي الرياضة عموماً ) أو الكتابة العسكرية أو السياسية في ضوء التقنيات التي تتحكم بهذه المجالات حالياً . وهذا لا يصف نسق الدلالة الذي يرتبط ارتباطا ثانوياً بهذه الأنشطة حسب ، بل يصف أيضاً ماهية هذه الأنشطة ذاتها ومضمونها. ( OG, p. 9
عن مجلة “أفق”
جاك دريدا ونظرية التفكيك (2)
فاللغة بذاتها هي كتابة ضمن ذلك المعنى ( GO, p. 8 ). وقد لاحظ غايتاري سبيفاك Gayatri Spivak أن : ” ثمة شيء يحمل في داخله أثر التغير الأزلي ، أي بنية النفس ، بنية العلامة . ويطلق دريدا على هذه البنية اسم ” الكتابة” (1 . وقد ذكر سبيفاك الملاحظة الآتية في معرض توضيحه لمفهوم الكتابة : ” هكذا نجد أن الكتابة هي اسم البنية التي يسكنها الأثر دائماً . وهذا مفهوم أوسع من المفهوم التجريبي للكتابة الذي يشير إلى نسق دلالة تجريبي على جوهر مادي ” (OG, p. xxxix) .
وقد أطلق دريدا تسمية ” الكتابة الأصلية ” على الفرق بين مفهوم الكتابة هذا ومفهوم الكتابة المبتذل الضيق . وتعمل الكتابة الأصلية في التعبيرات الكتابية وغير الكتابية . والكتابة بمعناها الضيق تعد كتابية graphic تعتمد مفهوم الجرافيم الذي هو في حقيقته دال صرف . أما في النظرية التفكيكية التي حدد دريدا أبعادها ، فقد أصبح لصفة الكتابية معنى مختلفاً عن المعنى الذي كان متداولاً في الاستعمال التقليدي . ويمكن القول أن الشكل الكتابي graphe هو ” أثر متمأسس (19) institutionalized ” ( GO, p. 46) .
وقد أصبح لتوجه النظرية التفكيكية نحو التمركز حول الكتابة دلالة تضمين واسعة بسبب الأثر المتمأسس ، ولهذا السبب فإن التغيير الذي أحدثه دريدا لم يكن تغييرا بالأهمية التي تمتع بها مفهوم الكلام على مفهوم الكتابة ، قدر تعلق الأمر بالفهم التقليدي لهذه المصطلحات . إذ يوحي التمركز حول الكتابة ، بالمعنى الذي حدده دريدا ، بالتوجه الذي يسلكه الفهم على نحو يدفع الذهن إلى تصور وظيفة الأثر في أنواع التعريف كلها التي تسير الوعي أو الإدراك . فالأثر يبدي عمله في صورة البورتريت (الصورة الشخصية) ، والملصق الجداري (البوستر) واسم العَلَم ، والإيماءة والكلمة المنطوقة والكلمة المكتوبة ، وغيرها . ويمثل التمركز حول الكتابة الإدراك الجديد لوظيفة الأثر . فأنا حينما أتصور صورة شخصية يبدأ ذهني أو إدراكي بالعمل رغبة مني في فهم دلالة هذه الصورة ، وتعد عملية اشتعال الذهن غير مادية . فالذهن يتحرك بحثاً عن شيء بعيد عما موجود في الصورة (بمعنى البحث عن شيء خلّف بصماته الشبحية على الصورة) ، وتلك هي وظيفة الاختلاف . في حين أن البصمة الشبحية هي الأثر . لأن الأثر بذاته غير موجود ( GO, p. 167) . ويمكن تعريف التمركز حول الكتابة بأنه هذا الإدراك الحسي الجديد بأن شيئاً ما ، شيئاً غائباً ، قد ترك بصماته ( بصماته الشبحية ) على الموضوعات التي تخلق حركات معينة في الذهن (وتلك البصمات الشبحية هي الأثر) .ويبدأ الأثر بالعمل من خلال الاختلاف والإرجاء (الاختلاف + الإرجاء = الاخـ” ت ” لاف) (20) .
ويتم عرض مفهوم اللغة التقليدي بوصفه أسطورة .. فقد كان ينطوي بداخله على شيء باطني [صوفي] : مثل قرب الصوت من المدلول ، وغيرها . ونلاحظ أن العنصر الباطني هو العنصر الميتافيزيقي ، فقد كانت الميتافيزيقا تسيطر على مفهومنا للغة . وقد صاغ دريدا مصطلحات جديدة وشكل مفاهيم جديدة حتى يتكون فهم للغة متحرر من مفهوم الميتافيزيقا . ولهذا السبب يعد تحرير فهم اللغة من الميتافيزيقا إزالة للغموض والحيرة ، إذ يتم التخلص من العنصر الغامض تماماً . وإن إزالة الغموض هو في حقيقته إزالة للأسطرة (الطابع الأسطوري) أيضاً (21) . ومن الصواب أن نقول أن التفكيك يبدأ بإزالة ما هو باطني وإزالة الأسطرة في الفهم التقليدي للغة.
لقد انطوت دراستنا هذه للتفكيك على ثلاث مراحل ، تمثلت المرحلة الأولى في تسليط الضوء على مفهومي الكلام والكتابة ، واشتملت على مسألتين مركزيتين هما : السبب الذي يكمن وراء الاعتقاد السائد الذي يقول بأسبقية الكلام وأولويته على الكتابة ، وما مدى البعد الذي وصلته الميتافيزيقا في تأثيرها . ودرسنا في المرحلة الثانية الزعم اللساني القائل أن اللسانيات الحديثة أضفت طابعاً علمياً على دراسة اللغة وجعلتها حقلاً علمياً . وتمثلت المسألتان المركزيتان اللتان تناولتهما في هذه المرحلة بتأكيد أن المفهوم اللساني للعلامة هو صورة أخرى للمفهوم التقليدي للكلام والكتابة ، وعلى أن اللسانيات الحديثة هي ضحية الميتافيزيقا ، وتتألف المرحلة الثالثة من وصف مصطلحات دريدا وتقويمها : الاختلاف والأثر والكتابة الأصلية . وقد سلطنا الضوء على دلالة مصطلح التمركز حول الكتابة من منظور دريدا .
وبناء على ما سبق ، لقد تغير فهمنا للغة ، فما مصير النقد ؟ يبدأ الجواب عن هذا السؤال بافتراض أن الأدب هو شكل من أشكال الكتابة ، وإن القصيدة أو القصة أو أي عمل أدبي هو بنية آثار.. تلك الآثار التي نعرف أنها بصمات شبحية لا نعرف ماهيتها إلا إننا واثقون من كينونتها ووجودها . أما النقد ، الذي يعرف بالدرجة الأساس بأنه بحث في كلمة ، وسطر ، ونص ، أو أي شيء يحرك الذهن من نقطة إدراك حسي معينة إلى عوالم البحث بمعية دافع قوي للتأويل ، فإنه يبدأ بالشك ، الشك الذي يستند إلى الإقناع . فالناقد يشك في مظهر العلامة (كأن تكون كلمة ، وسطراً ، وقصة وتمثالاً ، صورة وبورتريتاً ، …إلخ ) لأنه يحمل قناعة مؤداها أن ما يظهر له هو ليس كل شيء ، بل هناك شيء آخر ، فنحن لا نكتفي بالأشياء كما هي ، بل نرغب بالبحث فيها والتوغل إلى أبعد من حدودها لاكتشاف أسرارها لأننا نشعر أن ثمة شيئاً مفقوداً أو شيئاً غائباً عما نتصوره نحن وندركه حسياً ، وإن هذا الشعور الأزلي بأن هناك شيئاً مفقوداً أو غائباً هو الكتابة الأصلية . ويعد الأدب واحداً من أنواع التعبير عن الكتابة الأصلية ، بينما يعد الرسم نوعاً آخر ، والموسيقى نوعاً آخر أيضاً ، وتعمل الكتابة الأصلية بصفة آثار في الموضوعات . فالآثار أشبه ما تكون بطبع الأقدام .. فمن هو الذي مشى على الرمال ؟ لقد مشى أحدهم وخلف وراءه آثار أقدامه في كل مكان ، وإن كل تلك البصمات التي تركها خلفه تذكرنا به إلا أنه مفقود وغائب . ويمكن تعريف الكتابة الأصلية بأنها إدراكنا حقيقة أنه مفقود ، وأنه غائب ، والذي يرافقه الشعور بالمعاناة المتولد عن تجربتنا التي نستشف منها عدم القدرة على اكتشاف هذا الغائب على الرغم من صمتنا المطبق أو عنفنا الصارخ ، فكل البصمات التي يخلفها وراءه هي الآثار لأنها هي التي تؤكد حضور هذا الغائب على الرغم من غيابه ، فياله من موقف غريب حقاً ! (وربما كان التشخيص – أي إضفاء الصفات الشخصية على غير العاقل – صيغة من صيغ التبسيط إلا أنه قد يساعد على الفهم ) .
وقد اعتاد النقد التقليدي الظهور مع فكرة ما عبر المواجهة مع العمل الأدبي ، ولهذا السبب يعد نقد القصيدة اكتشافا لمعناها . ولهذا فإن المعنى فكرة أو مفهوماً يمكن أن يلحق بفكرة أخرى أو مفهوماً آخر والاستمرار بهذا الإلحاق حتى تلتحم هذه الأفكار في فكرة الكينونة المتعالية أو الحقيقة المتعالية . لكننا لا نعي حقيقة أن ما نسميه ” المعنى” هو في حقيقة الأمر فكرة تتخذ من الميتافيزيقا ملاذاً لها . ولم تنج البنيوية ، التي يقال أنها سيرورة ثورية ، من قبضة الميتافيزيقا ، وإن القول أن البنيوية توحي بالنسق ، يعني أن هناك مركزاً في مكان ما ، وذاك المركز هو المفهوم المركزي الذي من الممكن اكتشافه بوصفه مفهوم الكينونة أو السلطة المتعالية . ويوحي مفهوم النسق أن كل شيء مفهوم على أفضل وجه ، أو أنه قابل للفهم في الأقل ، فحيثما وجد النسق ينعدم الإرباك أو التشويش . وسيؤكد التفكيك أن هذه أوهام حسب إذ كل ما نزعمه بأنه الحقيقة أو الكينونة هي ” فبركة ” ليس إلا . فهذه الكلمات تمثل فبركات مهولة تشير إلى الفشل في بحثنا عن المعنى ، وهذا يعني في مرحلة ما من مراحل تاريخ البحث عن المعنى أن الباحثين أعلنوا ، لسبب أو لآخر ، أنهم وصلوا إلى آخر نقطة ممكنة من بحثهم وأنه لا ينبغي القيام بأي بحث آخر يتجاوز هذه النقطة ، ولغرض حماية ما أسموه ” النقطة النهائية ” من الإهانة التي يمكن أن تنسبها إليهم البحوث المستقبلية ، عزوا لتلك النقطة نوعاً من القدسية وأسموها الحقيقة truth أو الكينونة being أو أي شيء آخر . وقد عملت نقطة البحث النهائية أو المفهوم المقدس بصفة مركز للنقد بنوعيه التقليدي والبنيوي . لذلك كان ثمة خداع كبير سار على هداه نشاطنا النقدي وفهمنا للغة .
ألا توحي هذه التعليقات بأن كل ما كتب هو محض خيال ؟ أنا أعتقد إن التفكيك يوحي بذلك . وهذا يشمل كتبنا المقدسة أيضاً ! (والحق أن التفكيك لا يعترف بشيء اسمه كتاب ، بل بالنصوص فقط). فماذا عن مفهوم ” الرب ” إذن ؟ وما مصير المفاهيم الأخرى التي لا تعد ولا تحصى مثل : المصدر origin والحقيقة والكينونة والواقع المتعالي و … الخ ؟ إن دريدا لا ينكر وجود الرب بل إنه يتساءل ، على نحو غير مباشر ، عن مفهومنا للرب ومدى صلته ، ولعلنا كنا نستخدم مصطلح ” الرب ” god للإشارة إلى إله معين كنظام دفاعي لحماية مفهوم المصدر والحقيقة والكينونة وما يشبهها من مصطلحات . فما المصدر الحقيقي أو الحقيقة الحقة اللذان ينبغي البحث فيهما . ربما تكون هذه المفاهيم وراء نطاق فهم الإنسان . فقد يكون عالم الحقيقة ، أو الرب ، عالماً محرماً على الإنسان الذي لا يستطيع أن يفعل شيئاً بإزائه سوى تخيله ، أو تكوين معنىً واهٍ عنه في أحسن الأحوال . إنه يشعر بغياب الكينونة الأسمى Supreme ولاشك ، وإن هذا الإحساس بالغياب و التوق للحضور هو الكتابة الأصلية ، أما بصمات ذلك الحضور الغائب الذي ندركه في كل مكان فهو الأثر . ومن خلال سعي دريدا إلى عرض الأساس الميتافيزيقي الذي يرتكز عليه فهمنا للغة ، ومحاولة تحرير فهمنا من الميتافيزيقا ، شرع دريدا في إطاحة الأديان عن عروشها في ممالك اللغة . فقد مثلت الأديان حصانات وفرت الحماية للمفاهيم الميتافيزيقية . ومع ذلك ينبغي أن نقر بأن دريدا يوحي ، على نحو غير مباشر ، بأن الرب وراء جميع المفاهيم الإنسانية والمعالجات اللفظية . وينبغي التأكيد عند هذه النقطة تحديداً أن دريدا لا يوحي بأي شيء مهول ، فهو يتبنى منهج البحث الحر في مجال المعرفة ، ويحاول تحرير الذهن من الضغوط والضوابط التي فرضت عليه باسم الرب أو الأديان . ويدفعنا دريدا ، بقوة ، إلى إعادة التفكير بالمصدر أو الحقيقة من خلال عرض الذهن على الحرية الجديدة في البحث ، ولهذا السبب تنطوي جدالات دريدا وحججه على مضامين روحية.
وأخيراً ينبغي لي العودة إلى قضية النقد . فقد كان النقد ، بالمعنى التقليدي ، تطبيقاً لأنموذج يرمي إلى فهم العمل الأدبي ، وربما يكون هذا النموذج فلسفياً أو أخلاقياً أو دينياً أو لسانياً . ومن المحتمل أن الناقد غير واع تماماً بحقيقة أنه يطبق نموذجاً معيناً ، فالذي نطلق عليه أسم ” التقويم الذاتي” هو في حقيقته غير ذاتي ، فنحن نلحق ما موجود في العمل الأدبي بشيء ما في سيرورة ذلك الفهم الذي يؤدي إلى التقويم . ومن الممكن أن يكون هذا الـ” شيء ما ” هو النسق الأدبي الذي منح الكلمات والأفعال actions والظواهر إمكانية توليد المعنى . فعلى سبيل المثال ، إذا حاولت تفسير قصيدة The Lake Isle of Innisfree ، سأتمكن من ذلك أما من خلال ربط مضمون القصيدة بالمعلومات المتوفرة التي تتعلق بحياة الشاعر … تلك المعلومات التي تخص مزاجه وكآبته وتأملاته في الطبيعة سريعة التغير ، وسرعة زوال الأشياء الجميلة ، ونفوره من المكاسب المادية وعشقه للحياة الحالمة . ثم أبدأ بربط هذه الأفكار الموجودة في القصيدة بهذه الأفكار الخارجية التي تعمل بصفة نسق لربط الأفكار في القصيدة . ولهذا السبب تصبح الأفكار التي تزخر بها القصيدة ذات معنى فقط حينما أشرع أنا بعملية ربط هذه الأفكار بما هو خارج عن القصيدة . وفضلاً عن ذلك فإني قد أبدأ بالبحث في سبب كآبة الشاعر وأسباب عشقه للحياة الحالمة ، وأسباب دفعه إلى كراهية المكاسب المادية . ونلاحظ في هذا النوع من النقد أن التركيز لا يكون على النسق بحد ذاته لأن التركيز على النسق لدراسة النسق ذاته يؤدي بنا إلى البنيوية . فعلى سبيل المثال : ما المغزى الأدبي من ترك الموطن الرئيس والذهاب إلى جزيرة ؟ هل هناك مغزيات أخرى ؟ الجواب : نعم بالتأكيد . ونجد في بعض شخصيات شكسبير الكوميدية مثل مسرحية ” كما تحبها ” و ” حلم ليلة منتصف صيف” أن الشخصيات تغادر المدينة لائذة بالغابات التي يتم فيها حل الصراعات وانتشار الحكمة ، وعلى هذا الغرار هناك عدد من الشخصيات في القصائد والروايات التي تغادر المدن صوب الجزر المعزولة ، ومثال ذلك شخصية ” بروسبيرو ” في مسرحية ” العاصفة ” وشخصية ” جيليفر ” في رواية “رحلات جيليفر ” . ولهذا السبب نجد أن رغبة الشاعر ييتس باللجوء إلى جزيرة Innisfree تحاكي رغبة الكتاب السابقين . ونحن نقر بأننا نفهم القصيدة لأننا نألف هذه القناعة ، أي الاقتناع بترك المدينة ومباهجها واللجوء إلى الجزيرة ذات معنى كبير في الشعر ، ذلك لوجود قناعة أدبية أو اتفاق أدبي بأن لهذه الفكرة معنى ما وهكذا نجد أن بإمكان التحليل البنيوي أن يركز على العناصر الأخرى للقصيدة بغية دراسة النسق الشعري . وقد طبقت في المثال الأول ، أي مثال التطبيق غير البنيوي ، نماذج معينة متعارف عليها في الأدب على القصيدة فقط من أجل فهم القصيدة . أما في المثال الثاني ، أي مثال التفسير البنيوي ، فقد استعملت القصيدة وعناصرها لدراسة النسق الشعري أو لدراسة نماذج الأدب المتعارف عليها . وينبغي الإشارة هنا إلى أن التفكيك لا يمثل أي من هاتين الحالتين ، أو نقيضهما .
فالتفكيك لا يمنح الناقد أية نماذج ، ولا يطبق أي أنموذج على النصوص الأدبية ، بل أنه يدمر جميع النماذج الموجودة ولا يقدم أي نموذج ، ولهذا تسبب الكتابة التفكيكية حيرة كبيرة . فعلى العكس من النقد البنيوي لا يؤمن النقد التفكيكي بوجود نسق يمكن فهمه . إذ توحي فكرة النسق بأن الأشياء منتظمة أو من الممكن جعلها كذلك ، إلا أن هذه الفكرة مصدر مواساة حقاً ، ونحن نفضل المواساة على الحيرة . وعلى الرغم من أن المواساة قد تنطوي على خداع لكنها أفضل من معاناة الحيرة . وقد أعلن البنيوي ، بعد أن واجهته مشكلة تعقيد الأدب والأذهان التي تكمن وراء الأعمال الأدبية ، أن التعقيد قابل للتحليل ويمكن فهمه ، ويزعم وجود نسق أدبي بإمكانه تفسير التعقيدات . إنه تأكيد الإرادة التي تجعل البنيوي يزعم هذا الزعم . فالبنيوية هي التوكيد لإرادة الإنسان وقدرتها على حل ما هو معقد ، وعلى العكس من ذلك يبحث التفكيك في إمكانية النسق ، ويتساءل عنها وعن الكيفية التي جاءت بها التقاليد والمواصفات الأدبية إلى الوجود . فالمواجهة القائمة بين الوعي الإنساني ونسق العلامة هي من التعقيد بحيث يصعب فهمها . ولهذا السبب ، يؤكد التفكيك ، تبعاً إلى ما يذكره ديفيد اليسون David Allison ، ضرورة إعادة التفكير بمشكلة اللغة كلها (22) . وربما كان من الضروري وجود حقل معرفي جديد يستعمل أصول الكلمات [التأثيل] etymology وعلم النفس معاً بصفة حقل معرفي واحد لأداء هذه المهمة . ونلاحظ هنا أن التفكيك ينبذ الميتافيزيقا والفلسفة بوصفهما من أنماط الإدراك الخادعة ، كما إن اللسانيات التي كانت تخفي الميتافيزيقا في نماذجها الخاصة باللغة ، لا تلائم التفكيك . وكذلك لا يلجأ التفكيك إلى البنيوية التي ترتكز بقوة على اللسانيات .
قد يبدو التفكيك حقلاً تحكمه قواعد وأنظمة ولغة خاصة يصعب على المبتدئ فهمها ، إلا أن الحقيقة مختلفة . فنحن لدينا قواعد وأنظمة ولغة خاصة في النظريات النقدية التقليدية أكثر مما في التفكيك . فالمبتدئ يواجه مصطلحات تقنية كثيرة مثل شخصية، حبكة ، ثيمة ، صورة ، رمز، شعر غنائي ، سونيتة ، و … إلخ ، وقد استعملناها مراراً وتكراراً حدّ أنها أصبحت طبيعية بسبب ذلك . وفضلاً عن ذلك ، فإننا إن لم نفهم المصطلحات التي على شاكلة ” اختلاف ” ، ” أثر” ، ” كتابة أصيلة ” ، … إلخ ، فإننا لا نتمكن من فهم واستيعاب أي عمل مكتوب ينضوي تحت هذه النظرية إذ من الصعب فهم أي شيء جديد . إلا أن المرء سيفيد من تعلم هذه النظرية كثيراً إذا ما تحمل الجهد أولاً . وتتمثل هذه الفائدة في أننا نتساءل في صلة فهم الإنسان وعالمه والمعرفة . ويلقي التفكيك ضياءً جديداً على عملياتنا الفكرية . ويخبرنا أن سلطة اللغة ليست متأتية من سلطة الأدب ولا من نسق اللغة لأن سلطة اللغة ، شأنها في ذلك شأن سلطة الموسيقى والرسم والنحت والطقوس … إلخ ، متأتية من حس بدائي أصيل بشيء مفقود وغائب ، وتوجيه إدراك الإنسان بعد ذلك .هذه المادة مترجمة عن كتاب ( البنيوية والتفكيك ) تأليف س . رافيندران Structuralism & Deconstruction. By: S. Ravindran. (المترجمة)