في زمن الأحداث الجلل، والوقائع الدامية، والتغيرات المفصلية. في زمن الثورات والانتكاسات التي يواكبها في الوقت ذاته شيء من الانتصار على القديم، في هذه الأوقات يكون الأدب أحد أبطال المشهد الحياتي، لا شيء مثله يستطيع أن ينقل أدق المشاعر والتفاصيل، النظرات والانكسارات. الأحلام والآمال التي ربما تحقق بعضها، وربما تحطم الكثير منها على صخرة الواقع.
في ظل انشغالات برزت على الساحة الثقافية إثر انتفاضات الربيع العربي، برز السؤال حول دور الأدب، وتحديدا الرواية والقصة في تسجيل الأحداث والوقائع اليومية. كانت الرواية على الدوام هي محل الاختلاف. فهل يصح أن تكتب الرواية الحدث، أم أن على الكاتب أن يتريث حتى تنضج الوقائع ويختمر الحدث، ومن ثم تكون الرواية تعبيرا أدبيا يذهب أبعد من الآني.
في هذا السياق برز ما يشبه الاتفاق على أن القصة القصيرة هي الفن الأنسب للتعبير عن الأحداث اليومية التي رافقت الثورات ونجمت عنها، لما تمتاز به القصة من تكثيف واختزال، وقدرة على التقاط اللحظة وتسجيلها.
ولكن، ورغم كونها الأنسب للتعبير، لما تمتاز به من تعدد المستويات الدلالية والتخييل والإيحاء والاستبطان، إلا أن السنوات الأخيرة أثبتت تراجع فن القصة، سواء على مستوى الكتابة أو القراءة أو حتى الاهتمام النقدي. فالكثير من الكتاب باتوا في هجرة مستمرة إلى دنيا الرواية، وصارت الجملة الشائعة "بدأ بكتابة القصة القصيرة، وهجرها إلى الرواية". كأن القصة القصيرة ما هي إلا عتبة وتمرين في رحلة لابد أن تنتهي حكما عند الرواية. علما أن الكثيرين من كتاب القصة القصيرة يرى أن ازدهار الفن أو تراجعه مرتبط حكما بدرجة الاهتمام.
يشبه الكتّاب القصة القصيرة بـ"القيثارة" التي تحتاج باستمرار إلى "نغمة متميزة" تبرز تفرد المعزوفة وتميز صوتها. والواقع يؤكد وجود عدد لا بأس به من المخلصين لفن القصة القصيرة على امتداد الجغرافيا العربية، لم يهجروا كتابتها يوما، وبعضهم لم يكتب من ألوان الأدب سواها. وهو ما أسهم بشكل أو بآخر في تجديد طرق كتابتها، وتنوع في أساليبها وموضوعاتها ومضامينها، وقد استفاد كتابها الجدد من الفنون الأدبية المختلفة وجعلتها تجاربها أقرب ما تكون في كثافتها من فن الشعر.
وبفعل تجارب طليعية لعدد من الكتاب العرب تخلت القصة القصيرة عن شكلها التقليدي الذي كان يقوم على المقدمة والخاتمة والحبكة، والذي رسخ له كتاب الستينات الرواد من أمثال يوسف إدريس وسعيد حورانية وعبدالسلام العجيلي، وزكريا تامر، وانفتحت على تيارات فنية مختلفة، كما اقتحمت عالم الواقعية السحرية في الثمانينات، وبلغت من التجديد الحد الذي جعلها تدخل خطوطا جديدة على أساليب كتابتها، من أبرزها "القصة القصيرة جدا"، التي تعتمد على التكثيف الشديد، ويعتبرها بعض النقاد جنسا أدبيا مستقلا في ذاته، لكنها تدخل في معطف القصة القصيرة.
فرانك أوكونر: صوت الرواية هو صوت تسجيلي للمجتمع، بينما يمكن اعتبار القصة القصيرة صوت الفرد
ونجد بعض الكتاب يمزجون بين القصة والخاطرة، وفي كثير من الأحيان تخفق في القصة أجنحة الشعر، الذي أضاف إلى بنيتها، ووسع من فضاءاتها مع بعض التجارب، في حين انحرف بها بعيدا عن شكلها وبنيتها القصصية في تجارب أخرى، وما يختلف المبدعون عليه يتعلق بحدود التجريب في القص، ومدى قابلية هذا الجنس الأدبي على احتمال الشعري بحيث لا يفقد خصوصيته، أو ينتقل إلى هجنة غريبة.
في كتابه "الصوت المنفرد"، يذهب القاصّ والناقد الأيرلندي فرانك أوكونر إلى أن صوت الرواية هو صوت تسجيلي للمجتمع، بينما يمكن اعتبار القصة القصيرة صوت الفرد. فالرواية وفقًا لأوكونر فن تطبيقي، في حين أن القصة القصيرة فن خالص.
وعندما سُئل يوسف إدريس عن معنى القصة القصيرة طرقع بأصبعه وتوقف قائلا إن القصة القصيرة خاطفة وسريعة وتترك تأثيرها العميق بسرعة. وعرف الناقد الطاهر مكي القصة القصيرة بكونها حكاية أدبية تدرك لتقص، ذات حدث محدد حول جانب من الحياة، طبقا لنظرة مثالية، وهي قادرة على أن توجز في لحظة واحدة حدثا ذا معنى كبير.
أما الكاتبة التشيلية إيزابيل اللندي فقد وصفت القصة القصيرة بأنها "كالسهم، تنطلق مرة واحدة لتصيب الهدف"، في حين وصفها عبقري القصة القصيرة أنطون تشيخوف بأنها "القطفة من الحياة".
من جهة أخرى، فإن القصة القصيرة قادرة على التعبير عن الجماعات المختلفة، إذ ترتبط بما يسميه أوكونر "الجماعات المغمورة"، وهذه الجماعات عند الروسي تشيخوف المثقفون، وعند موباسان هي البغايا، والموظفون عند جوجول، والتي تتكاثر في المجتمعات الحافلة بالأبعاد الاجتماعية المختلفة، وهو ما ساهم في ازدهار فن القصة في روسيا وأميركا وأيرلندا.
عوامل عدة تضافرت وساهمت في بروز الاهتمام بالرواية على حساب الأجناس الأدبية الأخرى، وعلى رأسها القصة القصيرة، فالجوائز الأدبية موجهة بشكل أساسي للرواية وكتابها، ما جعل الكتاب يتسابقون في الكتابات الروائية طمعاً في نيل مثل هذه الجوائز، فضلًا عن اهتمام الناشرين بالرواية بشكل رئيسي، لكن القصة القصيرة تقاوم. وما العدد الخاص المزدوج الذي أصدرته مجلة "الجديد" تحت عنوان "العرب يكتبون القصص" سوى واحدة من العلامات الكبيرة على أن هذا الفن سيبقى ويزدهر.