الحلاج: الصوفى والشاعر
إبراهيم عوض
هو الحسين بن منصور، وكنيته أبو مغيث (أو أبو عبد الله)، ولقبه الحلاج. ونشأ بواسط (أو تُسْتَر)، وقَدِم بغداد حيث اختلط بالصوفية، ومنهم الجنيد وأبو الحسين النوري وعمرو المكي. وقد حج ثلاث مرات، وساح في البلاد فذهب إلى خراسان وما وراء النهر والهند. وكان يلبس أحيانًا زي الصوفية، وأحيانًا زي الجند. واختلف الناس فيه ما بين مُثْنٍ عليه وعلى دينه وتقواه، ومشكّك فيه مُتَّهِم له بالشعبذة والحيل والخداع. وكان يَدَّعِي حلول الله فيه، وأُثِرَتْ عنه أقوال يتحدث فيها عن نفسه والله بوصفهما شيئَا واحدًا. كذلك قيل إنه دعا إلى إسقاط فريضة الحج والاستعاضة عنها بالدوران حول حجرة طاهرة في البيت والقيام ببعض أعمال الخير تجاه الفقراء،كإطعامهم وتوزيع الأموال عليهم.
ويحكى عنه من لهم اعتقاد فيه أشياء لا تقبلها عقليتنا الإسلامية المستنيرة التي ترى أن الله سبحانه قد نظَّم الكون على قوانين صارمة، وأنه إذا كان هناك خرق لهذه القوانين فلا سبيل إلى التصديق بها إلا عن طريق الوحي الإلهي. من ذلك قولهم إنه كان يمد يده في الهواء ثم يستردها وقد امتلأت بالدراهم، وكان يسميها "دراهم القدرة". كما رؤى أنه أحيا عددًا من الطير، وأنه كان يأتى بالفاكهة في غير إبانها، ويقرأ ما في نفوس الناس. أما من كان رأيهم فيه سيئا فقد كانوا يَعْزُون ذلك إلى ما تعلّمه في الهند من السحر والشعوذات، وإلى الحيل التي كان يُعِدّها سَلَفًا ويموّه بها على السذَّج.
وقد حُكِيَ عن واحد من هؤلاء الأخيرين أن الحلاج لما قال له: "تؤمن بي حتى أبعث إليك بعصفورة تطرح من ذَرْقها وزن حبة على كذا مَنًّا من نحاس فيصير ذهبًا؟" رد عليه متهكما: "بل أنت تؤمن بي حتى أبعث إليك بفيلٍ يستلقي فتصير قوائمه في السماء. فإذا أردتَ أن تخفيه أخفيته في إحدى عينيك؟"، وأن الحلاج قد بُهِت عندئذ وأُفْحِم.
كما ذكر واحد آخر منهم أن الحلاج لما أرسل إليه يدعوه إلى الإيمان به ومتابعته على ما يقول قال للرسول: "هذه المعجزات التي يُظْهِرها قد تأتي فيها الحيل، ولكن أنا رجل غزل، ولا لذة لي أكبر من النساء وخلوتي بهن. وأنا مبتلًى بالصلع، ومبتلًى بالخضاب لستر المشيب. فإن جعل لي شَعْرًا ورَدَّ لحيتي سوداء بلا خضاب آمنتُ بما يدعوني إليه كائنًا ما كان: إن شاء قلت إنه باب الإمام، وإن شاء: الإمام، وإن شاء قلت إنه النبي، وإن شاء قلت إنه الله!" وأن الحلاج لما سمع جوابه يئس منه وانصرف عنه.
وقد حُكِيَتْ حكايات عن زهده وعبادته لا أظن الإسلام يستسيغها، فقد قالوا مثلا إنه لما كان في مكة مكث سنة في صحن المسجد الحرام لا يبرح موضعه إلا للطهارة أو الطواف، غير مبال بالشمس أو المطر. وكان إفطاره على ماء وأربع قضمات من رغيف. وقد عاب بعضهم عليه تعذيبه هذا لنفسه وتنبأ له بأن الله سوف يبتليه بلاء لا يطيقه.
وكانت نهاية الحلاج أن سُجِن في عهد المقتدر بالله ثماني سنوات غير مضيَّقٍ عليه، حتى إنه كان مسموحًا للناس أن يزوروه ويسمعوه ويأخذوا عنه. ثم حوكم على ما نُسِب إليه من ادعاء النبوة والألوهية وقوله بسقوط الحج إلى مكة. وشهدت عليه زوجة ابنه بأنها كانت نائمة على السطح ذات ليلة، وكان معها ابنته، ففوجئت به يغشاها. فلما هبت مذعورة مستنكرة ذكر لها أنه إنما جاء ليوقظها لصلاة الفجر. كما اتهمته أمام القضاة الذين كانوا يحاكمونه بأنه أمرها صبيحة ذلك اليوم، وهي نازلة من السطح وكان هو في أسفل الدَّرَج، أن تسجد له فرفضت. وانتهت المحاكمة بأن ضُرِب ألف سوط وقُطِّعَتْ أطرافه وصُلِب وأُحْرِقَتْ جثته وعُرِضَتْ على الناس عدة أيام على الجسر ببغداد، وكان ذلك سنة 309 هـ.
والغريب أن بعض أتباعه قد زعموا أن الذي قُتِل وصُلِب ليس هو الحلاج بل عدوه، أُلْقِيَ عليه شبهه فظنه الناس الحلاج. كما ادعى بعضهم أنهم رأوه بعد القتل راكبًا حمارًا في طريق النهروان، وأنه قال لهم: لعلكم مثل هؤلاء البقر الذين ظنوا أني أنا المقتول والمضروب (انظر في حياة الحلاج وشخصيته "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادى/ دار الكتاب العربي/ بيروت/ 8 / 112-141، و"تكملة تاريخ الطبري" للهمداني/ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم/ دار سويدان/ بيروت/ مجلد 11 من تاريخ الطبري/ 79-89، و"وفيات الأعيان" لابن خَلِّكان/ تحقيق د. إحسان عباس/ دار صادر/ بيروت/ 2/140- 146، و"الفخري في الآداب السلطانية" لابن الطِّقْطِقا/ دار صادر/ بيروت/ 1386هـ- 1966م/ 260- 262، و"دائرة المعارف" للبستاني/ مجلد 7/ مادة "الحلاج"، و"تاريخ الشعوب الإسلامية" لكارل بروكلمان/ ترجمة أبو العلا عفيفي/ لجنة التأليف والترجمة والنشر/ القاهرة/ 1388هـ- 1969م/ 85- 86، و"ظهر الإسلام" للدكتور أحمد أمين/ ط 4/ مكتبة النهضة المصرية/ 1966م / 2/ 69- 76، و"شخصيات قلقة في الإسلام" للدكتور عبد الرحمن بدوي/ ط 2/ وكالة المطبوعات/ الكويت/ 1978م/ 59 – 91 حيث يجد القارئ ترجمة لبحث ماسينيون المسمى: "المنحنى الشخصي لحياة الحلاج شهيد الصوفية في الإسلام"، و"العصر العباسي الثاني" للدكتور شوقي ضيف/ ط 2/ دار المعارف بمصر/ 477 – 482، و"ديوان الحلاج"/ صنعة د. كامل مصطفى الشيبي/ ط2/ دار آفاق عربية/ بغداد / 1404 هـ- 1984م/ 15 – 22).
وقد جمع د. كامل مصطفى الشيبي ديوان الحلاج، ويضم شعرًا مقطوعًا بنسبته إلى الشاعر، ويبلغ نحو خمسمائة بيت، وشعرًا آخر يُنْسَب إليه وإلى غيره، وعدد أبياته مائتنان وأربعة وثلاثون. ومعظم أشعار الحلاج عبارة عن مقطوعات، والقليل منه قصائد، وهي في الغالب ليست بالطويلة. ويدور شعره بوجه عام حول مشاعره تجاه الله سبحانه وعلاقته به عز وجل. وأحيانًا ما يتناول بعض الأفكار الخاصة بالعلاقة بينه سبحانه وبين عباده من البشر. وبعض مقطوعاته عبارة عن ألغاز شعرية. ويقل في شعره الوعظ إلى حد كبير. ومن هذا اللون الأخير قوله:
إلى كم أنت في بحر الخطايا
تبارز من يراك ولا تراهُ
وسَمْتُك سَمْتُ ذي وَرَعٍ ودينٍ
وفِعْلُك فعلُ متَّبِعٍ هواه؟
فيا من بات يخلو بالمعاصي
وعينُ الله شاهدةٌ تراهُ
أتطمع أن تنال العفو ممن
عصيتَ وأنت لم تطلب رضاهُ؟
أتفرح بالذنوب وبالخطايا
وتنساه ولا أحدٌ سواهُ؟
فتب قبل الممات وقبل يومٍ
يلاقي العبدُ ما كسبت يداهُ
وكذلك هذا البيتان:
يا جاهلا مسلك طرق الهدى
فما على الحق له موقفُ
خَلِّ طريق الجهل، واعدل إلى
مولًى له الأعمال تُسْتَأْنَفُ
وهو نظم، كما ترى، لا يستحق من الناحية الفنية أن نقف حياله، وأحسن منه وأدفأ بالمشاعر والصور التشخيصية قوله:
دنيا تخادعني كأنـ
ـي لستُ أعرف حالها
حَظَرَ الإلهُ حرامَها
وأنا اجتنبتُ حلالها
مَدَّتْ إلي يمينَها
فرددتُها وشِمَالَها
ورأيتها محتاجة
فوهبتْ جملتها لها
ومتى عرفتُ وصالها
حتى أخاف مَلالها؟
على أنه مما يلفت النظر أن الحلاج، الذي قال هذا، هو نفسه الذي يقول في موضع آخر:
ما حيلة العبد والأقدار جارية
عليه في كل حال، أيها الرائي؟
ألقاه في اليم مكتوفًا، وقال له:
إياك إياك أن تبتل بالماءِ!
وهو يخالف ما سبق كل المخالفة، إذ إن البيتين الأخيرين يقرران الجبر على نحو لا يحتمل تأويلا، على حين أن البيتين السابقين والمقطوعة التي قبلهما تقرّع المقصرين وتستحثهم على استفراغ كل جهدهم في عمل الطاعات والبعد عن المعاصي والخطايا، مما يفيد إيمان الشاعر بحرية الإرادة الإنسانية واستطاعة العبد الفِعْلَ والتَّرْك.
وينتهي الشاعر أيضًا من طريق أخرى إلى أنه لا معنى لمعاقبة الخاطئ على ما يرتكب من شر، إذ إنه يرى نفسه والله شيئًا واحدًا، وذلك عن طريق عقيدة الحلول، التي عبر عنها في أشعار له كثيرة. ومن ثم فإن الخطيئة التي يرتكبها إنما تقع في ذات الوقت (أستغفر الله) منه سبحانه أيضًا، يقول مستنكرًا:
أنا أنت بلا شكٍّ
فسبحانك سبحاني!
وتوحيدُك توحيدي
وعصيانُك عصياني
وإسخاطك إسخاطي
وغفرانك غفراني
ولم أُجْلَد يا ربِّ
إذا قيل: هو الزاني؟
وأغلب الظن أن هذا التناقض يرجع إلى أن الحلاج قال الشعر الذي يوحي بإيمانه بحرية الإرادة الإنسانية أولا، ثم غامت على عقله غمامة الاعتقاد بالجبر، ثم انتهى به المطاف إلى ادعاء الحلول والاتحاد مع الله سبحانه. وأغلب الظن أن الحلاج لم يجرؤ على هذا الزعم دفعة واحدة، بل وصل إليه على درجات. فقد كان يقف أولا موقف المحب الخاضع المستكين:
إذا دهمتْك خيول البِعَا
د ونادَى الإياسُ بقَطْع الرجا
فخذ في شمالك تُرْس الخضو
ع، وشُدَّ اليمين بسيف البُكَا
ونَفْسَك! نفسك! كن خائفًا
على حذرٍ من كمين الجفا
فإنْ جاءك الهجر في ظلمةٍ
فسِرْ في مشاعل نور الصفا
وقل للحبيب: ترى ذلتي
فجُدْ لي بعفوك قبل اللِّقَا
فوَالْحُبِّ لا تنثني راجعًا
عن الحبِّ إلا بِعَوْض المنى
وهي أبيات تمتلئ، كما ترى، بالصورة الطريفة التي لا ترد عادةً في مثل هذا السياق، إذ تبرز أدوات الحرب وأسلحتها في مواقف التذلل والانكسار، والمفروض أنها للهجوم والاقتحام والعدوان. لكم هي غريبة "خيول البعاد"، و "ترس الخضوع"، و "سيف البكاء"، و"كمين الجفاء"! إن الشاعر هنا يقرن بين المتناقضين. وهو في هذا كمن يجمع بين الماء والنار في إناء واحد. ولعل الأبيات التالية لا تبعد في روحها ومنحاها عن الأبيات السالفة:
الصَّبُّ، رَبِّ، محبُّ
نواله منك عُجْبُ
عذابه فيك عذبٌ
وبُعْده عنك قربُ
وأنت عندي كروحي
بل أنت منها أحبُّ
وأنت للعين عينٌ
وأنت للقلب قلبُ
حسبي من الحب أني
لِـمَا تحبُّ أُحِبُّ
ومثلها قوله:
طلعتْ شمسُ من أحبُّ بليلٍ
فاستنارت، فما لها من غروبْ
إن شمس النهار تغرب بالليـ
ـل، وشمس القلوب ليس تغيبْ
من أحَبَّ الحبيبَ طار إليه
إشتياقًا إلى لقاء الحبيبْ
وقوله وقد صرح فيه باسم "الله" سبحانه على شكل تهجئة لحروفه: الألف فاللام فاللام فالهاء:
أحرفٌ أربعٌ بها هام قلبي
وتلاشت بها همومي وفكري
ألِفٌ تألف الخلائقَ بالصفح،
ولامٌ على الملامة تجري
ثم لامٌ زيادةٌ في المعاني
ثم هاءٌ بها أهيمُ وأدري
وهو في تعبيره عن هذا الحب قد يلجأ إلى عبارات الغزل البشري:
نسماتِ الريح، قولي للرَّشَا:
لم يزدني الوِرْدُ إلا عطشًا
لي حبيبٌ حُبُّه وَسْط الحشا
إن يشأ يمشي على خدي مشى
روحه روحي، وروحي روحه
إن يشأ شئتُ، وإن شئتُ يشا
فالمحبوب "رَشَأ"، والمحب على استعداد أن يفرش له "خده" ليطأه ويمشي عليه. وفي الأبيات التالية نراه يختتمها بالتصريح باستعداده أن يفديه بنفسه من كل سوء، وكأنه يخاطب حبيبًا من البشر يمكن أن يلحقه أذى:
ما زلت أجري في بحار الهوى
يرفعني الهوى وأنحطُّ
فتارة يرفعني مَوْجُها
وتارة أَهْوِى وأنغطُّ
حتى إذا صيرني في الهوى
إلى مكانٍ ما له شطُّ
ناديت: يا من لم أبحْ باسمه
ولم أخنه في الهوى قَطُّ
تقيك نفسي السوءَ من حاكمٍ
ما كان هذا بيننا الشرطُ
وإننا لنتساءل: وأي شرط كان بينهما؟ هل يمكن أن يشترط العبد على مولاه شرطًا؟ ألا إن هذا لعجيب. ويهيج الوجد بالحلاج فيصرخ ألمًا، ويتلوى من تباريح الحبّ:
أنتم ملكتم فؤادي
فهمت في كل وادي
رُدّوا علي فؤادي
فقد عَدِمْتُ رقادي
أنا غريب وحيد
بكم يطول انفرادي
*
* *
وما وجدت لقلبي راحة أبدًا
وكيف ذاك، وقد هُيِّئْتُ للكَدَرِ؟
لقد ركبت على التغرير. وا عجبَا
ممن يريد النَّجَا في المسلك الخطــــــــــرِ
كأنني بين أمواج تقلّبني
مقلّبًا بين إصعادٍ ومنحدرِ
الحزن في مهجتي، والنــــــــــار في كبدي والدمع يشهد لي، فاستشهدوا بصري
*
* *
إذا ذكرتُك كاد الشوق يتلفني
وغفلتي عنك أحزانٌ وأوجاعُ
وصار كُلِّي قلوبًا فيك واعيةً
للسُّقْم فيها وللآلام إسراعُ
فإن نطقتُ فكُلِّي فيك ألسنةٌ
وإن سمعتُ فكلي فيك أسماعُ
*
* *
أنا سقيمٌ عليل
فداوني بدَوَاكْ
أُجْرِي حُشَاشة نفسي
في سُفْن بحر رضاكْ
أنا حبيسٌ، فقل لي:
متى يكون الفَكَاكْ؟
حتى يظاهر روحي
ما مَضَّها من جفاكْ
طُوبَى لعَيْنِ محبٍّ
حَبَوْتها مِنْ رُؤَاكْ
وليس في القلب واللُّـ
ـبِّ موضعٌ لسواكْ
إنه كل شيء في حياته، فهو لا يبصر سواه ولا يسمع إلا إياه. وليس في قلبه، كما قال وكما يعيد في البيتين التاليين، مكان لكائن حاشاه:
مكانك من قلبي هو القلب كُلُّهُ
فليس لشيء فيه غيرك موضعُ
وحَطَّتْكَ روحي بين جـــلدي وأَعْظُمي فكيف تـــراني، إنْ فقدتُك، أصنـــعُ؟
وهو يقول إن الهجر بالنسبة له ولأمثاله هو الموت، والوصال هو البعث. ومع ذلك فهم يموتون من الحب. كيف ذلك؟ لا أدري:
والله لــــو حلف العشـــاق أنهـــــمــــــو موتى من الحب أو قَتْلَى لمـــا حَنَثُوا
قومٌ إذا هُجِروا من بعد ما وُصِلوا
ماتوا، وإن عاد وصلٌ بعده بُعِثوا
ترى المحبين صَرْعَى في ديارهمو
0 كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا
وهو يعلن شوقه وتَوْقه لهذا الحب المميت، الذي يعود فيقول إن روحه قد أَبِقَتْ منه، ليعود ثانية فيؤكد أنه لو نجح في هذا الإِبَاق وفَطَمَ كبده عن هذا الحب لذاب واحترق. ألا إنه لأمرٌ محيرٌ أشد التحيير:
أنا الذي نفسه تشوِّقه
لِحَتْفِه عَنْوَةً وقد عَلِقَتْ
أنا الذي في الهموم مهجتُه
تصيح من وحشة وقد غرِقَتْ
أنا حزينٌ معذَّبٌ قلقٌ
رُوحِيَ من أَسْر حبّها أَبِقَتْ
كيف بقائي، وقد رمى كبدي
بأسهمٍ من لِحَاظه رَشَقَتْ؟
لو لِفَطْمٍ تعرضتْ كبدي
ذابت بِحَرّ الهموم واحترقتْ
باحت بما في الضمير يكتمه
دموعُ بَثٍّ بسِرّه نَطَقَتْ
من هنا فلا عجب أن نجده يؤكد أن ما يلاقيه المحب من عذاب الهوى هو أحلى من النعيم:
قضى عليه الهوى ألا يذوق كَرًى
وبات مكتحلا بالصّاب لم يَنَمِ
يقول للعين: جودي بالدموع، فإن
تبكي بجِدٍّ، وإلا فَلْنَجُدْ بدمِ
فمن شروط الهوى أن المحبّ يرى
بؤسَ الهوى أبدًا أحلى من النِّعَمِ
كذلك لا عجب أن نراه لا يدري بعد الهجر من أمر نفسه شيئًا:
أرسلتَ تسأل عني: كيف كنتُ، ومــا لقيتُ بعدك من هـــــم ومن حَــــــزَنِ
لا كنتُ إن كنتُ أدري كيــف كنت، ولا لا كــنت إن كنـــت أدري كيف لم أَكُنِ
*
* *
لا كنتُ إن كنت أدري
كيف السبيل إليكا
أفنيتَني عن جميعي
فصِرْتُ أبكي عليكا
وثمة بيت يشير فيه إلى أن ما حدث له كان من جَرّاء بَطَرِه في الحب:
قد كنتُ في نعمة الهوى بَطِرًا
فأدركتني عقوبة البَطَرِ
لكنه يعود فيدعي أن الله قد أوحى إليه بأنه أدناه إليه واصطفاه، وخلع عليه خلعة الأمان:
خاطبني الحق من جَنَاني
فكان علمي على لساني
قرَّبَني منه بَعْد بُعْدٍ
وخصني الله واصطفاني
وبعد ذلك صار يظن نفسه كموسى عليه السلام، فالله يتجلى له ليكلمه، وهو يخرّ غائبا عن الوعى:
عَقْدُ النُبُوَّةِ مِصباحٌ مِنَ النورِ
مُعَلَّقُ الوَحْيِ في مِشكاةِ تَامُورِ
بِاللَهِ يَنْفُخُ نَفْخَ الرُّوحِ في خَلَدي
لِخاطِري نَفْخَ إِسرافيلَ في الصُّورِ
إِذا تَجَلّى لرُوحِي أَن يُكَلِّمَني
رَأَيْتُ في غَيبَتي موسى على الطُّورِ
ورغم أن البيت الأول يغشّيه الغموض فالبيتان الثانى والثالث واضحا الدلالة بما فيه الكفاية لما نحن فيه. ولا شك أن القارئ قد تنبه لوصف الشاعر ربه سبحانه وتعالى بـ"روحي"، وهو ما سيفصل القول فيه ويلح عليه ويؤكده في مواضع أخرى من شعره كما سنرى بعد قليل. وقد عاد الحلاج فشبه نفسه ثانية بموسى عليه السلام، ولكن دون أن يشير إلى الصعق والغياب عن الوعي. بالعكس إنه يصور نفسه واقفا على الطُّور في قلب النور:
يا غافِلاً لِجَهالَةٍ عَن شاني
هَلاّ عَرَفْتَ حَقيقَتي وَبَيـــــاني
فَعِبـــادَتي لِلَّهِ سِتَّةُ أَحْـــرُفٍ
مِن بَينِها حَرْفـــانِ مَعْجومـــانِ
حَرفانِ أَصلِيٌّ وَآخَرُ شَكلُهُ
في العُجْــــمِ مَنســـوبٌ إِلى إيمـــــاني
فَإِذا بَــــدا رَأَسُ الحُـــروفِ أَمامَــها حَــــرفٌ يَقـــومُ مَقامَ حَــــرفٍ ثــانِ
أَبْصَرْتَني بِمَكانِ موسى قائِمًا
في النُّورِ فوق الطُّورِ حين تراني
وهو يقصد بهذه الحروف معنى "الاتحاد"، الذى لم يشأ، فيما يبدو، أن يعلنه صريحا واضحا آنذاك. وكانت الخطوة الثانية، فيما يبدو، زعمه الذى تعبر عنه الأبيات التالية من أنه تمر عليه أحوال يظن فيها أنه هو والله شىء واحد:
عَجِبتُ مِنكَ وِمنّي
يـــــــــــــا مُنْيَـــــــــــــةَ المُتَمَــــــــــــــنّي
أَدَنَيتَـــــــــني مِنــــــــــــــكَ حَــــــــــتّى ظَنَنــْــــــــــتُ أَنَّــــــــــــــكَ أَنـِّــــــــــي
وَغِبتُ في الوَجدِ حَتّى
أَفنَيْتَـــــــــــــــني بِــــــــــكَ عَنّـِــــــــــي
على أن هذا الفناء في الله، حسب زعمه، لم يكن دائما، بل كانت تعقبه فترات من الانفصال والافتراق:
قد تَحَقَّقْتُك في سِـ
ـرِّي فَناجَاكَ لِسَاني
فَاجْتَمَعْنا لِمَعَانٍ
وَاِفتَرَقنا لِمَعانِ
إِنْ يَكُنْ غَيَّبَكَ التَّعْـ
ـظيمُ عَن لَحْظِ عِيَاني
فَلَقَدْ صَيَّرَكَ الوَجْـ
ـــــدُ مِـــــــنَ الأَحشـــــاءِ دانـــــــي
وفي المقطوعة التالية نراه يدعوه سبحانه أن يمحو المسافة الفاصلة بينهما حتى يكونا شيئا واحدا على الدوام:
أَأَنتَ أَم أَنا هَذا في إِلَهَينِ؟
حاشاكَ حاشاكَ من إِثْبــاتِ إِثْنَينِ
هُوِيَّةٌ لَكَ في لائِيَّتي أَبَدًا
كُُلّي عَــــــلى الكُلِّ تَلبيسٌ بِوَجهَينِ
فَأَيْنَ ذاتُكَ عَنّي حَيْثُ كُنْتُ أرى؟
فَقَد تَبَيَّـــــنَ ذاتي حَيثُ لا أَيْــــــني
فأَينَ وَجْهُكَ مَقْصودًا بِناظِرَتي
في باطِــــنِ القَلبِ أَم في ناظِرِ العَيْــــــنِ؟
بَيْني وَبَيْنَكَ إِنِِّيٌّ يُنازِعُني
فَارْفَعْ بِلُطْفِكَ إِنِِّيِّي مِنَ البَيْنِ
وإن كنت لا أفهم كيف تواتيه نفسه على أن يقول عن الله، الذي يزعم أنه قد اتحد معه وأصبحا شيئا واحدا، إنه وإياه قد "امتحقا فى العالم الماحق". إن هذه هلوسة، بل أخشى أن تكون ما هو أسوأ من ذلك بكثير. وقد مضى بعد ذلك في ترديد هذا الزعم الخطير:
مُـزِجَتْ روحُـك فى روحى كمـا
فإذا ما شيءٌ مَسَّني
تُمْـــزَج الـخَمرة بالمــــــاء الـــــزُّلالْ
فإذا أنت أنا في كُلّ حالْ
* * *
أنا من أهوى، ومن أهوى أنا
نحن روحان حَلَلْنا بَدَنَا
نحن، مُذْ كنا على عهد الهوى،
تُضْرَب الأمثال للناس بنا
فإذا أبصرتَني أبصرتَه
وإذا أبصرتَه أبصرتنا
أيها السائل عن قصتنا،
لو ترانا لم تفرِّق بيننا
روحه روحي، وروحي روحه
مَنْ رأي روحين حَلَّتْ بدنا؟
وانتهى الأمر بأن قال بكل تبجح وغرور:
أنا أنت بلا شك
فسبحانك سبحاني
وتوحيدك توحيدي
وعصيانك عصياني
وإسخاطك إسخاطي
وغفرانك غفراني
ولم أجلد يارب
إذا قيل، وهو الزاني؟
وأعتقد أن البيت الأخير يكشف عن المراد من كل هذه اللفة الطويلة التي لفها الحلاج. إنه يريد التفلت من قيود الدين، لا بالنسبة للواجبات فقط، بل أيضًا بالنسبة للآثام، التي مَثَّل لها بالزنا. ويسمى الصوفية مثل هذا الكلام "شطحا". وهم يعرفون "الشطح" بأنه "كلام يترجمه اللسان عن وَجْدٍ يفيض عن معدنه مقرون بالدعوى"، وأنه "عبارة مستغرَبة في وصف وَجْدٍ فاض بقوته وهاج بشدة غليانه وغلبته" (السرّاج/ اللُّمَع/ تحقيق ألن نيكلسون/ ليدن/ 1941م / 346، 375). ويشرح د. عبد الرحمن بدوي ذلك قائلا: "الشطح إذن تعبير عما تشعر به النفس حينما تصبح لأول مرة في حضرة الألوهية، فتدرك أن الله هي، وهي هو" (د. عبد الرحمن بدوي/ شطحات الصوفية/ ط3/ وكالة المطبوعات/ الكويت/ 1978م/ 1/ 10). وهذه دعوى خطيرة غير معقولة، وأرى أن الأفضل تعريف "الشطح" بأنه "الزعم الزائف من قِبَل شخص ما بحلول الله فيه. وأساس هذا الادعاء هو الدجل أو الاضطراب الفكري أو النفسي". ولم تكن هذه الشطحات الحلولية الحلاجية مقصورة على الشعر، فقد ذكر تلميذه إبراهيم الحلواني أنه سمعه يدعو بعد الصلاة ذات مرة بكلام جاء فيه: "يا هو أنا، وأنا هو، لا فرق بين إنَّيّتي وهُوِيَّتك إلا الحدوث والقِدَم"، ثم التفت إليه ضاحكًا وقال له: "أما ترى أن ربي ضرب قِدَمه في حدوثي حتى استهلك حدوثي في قِدَمه فلم يبق له إلا صفة القديم ونطقي في تلك الصفة؟ والخلق كلهم أحداث ينطقون عن حدوث. ثم إذا نطقتُ عن القِدَم ينكرون عليَّ ويشهدون بكفري ويَسْعَوْن إلى قتلي" (أخلاق الحلاج/ جمع وتحقيق لويس ماسينيون/ 1957م/ 20). والعجيب أن بروكلمان يرجع رفض علماء الدين لهذه المزاعم الحلاجية السخيفة إلى خطورتها على "النظام الاجتماعي المتهافت" على حد تعبيره (بروكلمان/ تاريخ الشعوب الإسلامية/ 238). ولا أدري، ولست إخال أدري، ما العلاقة بين ادعاءات الحلاج هذه والنظام الاجتماعي للدولة العباسية في عصره.
وأحسب أن هذا النص الشعرى الأخير قد يعضد الاتهام الذي شهدت به زوجة ابنه أمام القضاة حين محاكمة الشاعر، إذ قالت إنها لم تشعر، وهي نائمة فوق سطح البيت، إلا والحلاج قد غَشِيَها، فهبت مذعورة تسأله عما يريد، وكانت نائمة إلى جوار ابنته، فهدّأ روعها قائلا إنه إنما جاء ليوقظها للصلاة (انظر "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادى/ 8/ 135، وأحمد أمين/ ظهر الإسلام/ 2/ 71- 72). ولقد كان الأولى به، لو كان صادقًا، أن يناديها هي وابنته من بعيد، أو أن يوقظ ابنته أولا وتوقظ هي بدورها زوجة الابن. ألم يكن هذا هو التصرف المنطقي السليم؟
ولعله من أجل ذلك قد كرر القول في أشعاره بأنه يقول أشياء لا يعلم بها اللوح والقلم، ويجهلها فلا يسجلها الكرام الكاتبون:
شيءٌ بقلبي، وفيه منك أسماءُ
لا النور يدري به، كلا، ولا الظُّلَمُ
ونور وجهك سرٌّ حين أشهده
هذا هو الجود والإحسان والكرمُ
فخذ حَدِيثِيَ، حِبِّي. أنت تعلمه
لا اللوحُ يعلمه حقًّا ولا القلمُ
* * *
قلوب العاشقين لها عيونٌ
ترى ما لا يراه الناظرونا
وألسنةٌ بأسرار تناجي
تغيب عن الكرام الكاتبينا
وما دام الكرام الكاتبون يفوتهم ما يقول فلا حساب إذن، لأن الحساب إنما يكون على وفق صحائف الأعمال.
ثم أراد الحلاج أن يفلسف زعم "الحلول" فذكر "الناسوت واللاهوت"، ظنًا منه أنه يمكنه أن يبهر العقول بمثل هذه المصطلحات الغريبة على العقل والضمير المسلم. قال يدعى أن الناسوت (أي الصورة الإنسانية) واللاهوت هما وجهان لحقيقة واحدة. أي أن الإنسان والله شيء واحد:
سبحان من أظهر ناسوتُه
سِرَّ سنا لاهوتِه الثاقبِ
ثم بدا في خلقه ظاهرًا
في صورة الآكلِ والشاربِ
حتى لقد عاينه خَلْقُه
كلحظةِ الحاجب بالحاجبِ
وإن كنت لا أفهم كيف "يلحظ الحاجب الحاجب"، فاللحظ إنما يكون بالعين لا بالحاجب. ومما ورد فيه من شعره أيضًا لفظتا "الناسوت" و"اللاهوت" قوله:
دخلت بناسوتي لـــــــديك على الخَلْقِ ولولاك، لاهوتي، خرجتُ من الصدقِ
بيد أن دعوى "الحلول" ليست هي الدعوى الوحيدة المستشنعة في شعر الحلاج. لنسمعه يقول:
كفرتُ بدين الله، والكفرُ واجب
عليّ، وعند المسلمين قبيحُ
وهذا البيت الواضح العبارة والدلالة يحاول البعض أن يلويه عن حقيقة معناه، زاعمًا أن المقصود به شيء آخر، وأن "الكفر" هنا يعني "التغطية". أي أن الحلاج يغطي معتقده القائم على أن حقيقة الأديان كلها واحدة، ولا يبوح به لعلوه على أفهام الناس (انظر تأويل هذا البيت في "ديوان الحلاج"/ صنعة د. مصطفى كامل الشيبي/ 39/ هامش 1). ولقد فات من أول البيت على هذا النحو العجيب أن "كفر" بمعنى "غطى" لا تأخذ "الباء"، إذ يقال: "كفر الفلاح الحب" لا "كفر الفلاح بالحب". إنما الذي يأخذ "الباء" هو "الكفر" الذي يناقض "الإيمان"، أي كفر الإنكار" لا كفر "التغطية". كذلك لو كان "الكفر" في بيت الحلاج المزعج هو "التغطية"، فلماذا خص المسلمين وحدهم، مع أن أهل كل دين لا يقبلون دعوى الحلاج بتساوي الأديان كلها، ويَرَوْنَ أن دينهم وحده هو الدين الصحيح؟
ومن شناعاته أيضًا قوله:
ألا أبلغ أحبّائي بأني
ركبتُ البحر، وانكسر السفينة
على دين الصليب يكون موتي
ولا البَطْحَا أريد ولا المدينة
الذي ينبري لتحريفه عن معناه الخالي من أي لَبْسٍ بعض الصوفية فيدَّعون أن "مراده أنه يموت على دين نفسه، فإنه هو الصليب. وكأنه قال: "أنا أموت على دين الإسلام"، وأشار إلى أنه يموت مصلوبًا". قال بذلك أبو العباس المرسي (ديوان الحلاج/ 85/ هامش 2، ود. عبد الرحمن بدوي/ شخصيات قلقة في الإسلام/ 69/ هامش 1، ود. شوقي ضيف/ العصر العباسي الثاني/ 482). وهو كلام غير مفهوم ولا متماسك، وحتى لو سلمنا جدلا بهذا التأويل الذي يرفضه العقل واللغة، فماذا نفعل بـ"البطحا والمدينة" هاتين، ومغزى ذكرهما هنا واضح تمام الوضوح، إذ الشاعر أيضا يتبرأ من مكة (البطحاء) والمدينة؟
ومن ألغاز الحلاج الشعرية (وهي قائمة على تهجي حروف الكلمة التي يُلْغِز بها) قوله عن "الله" سبحانه وتعالى:
أحرفٌ أربعٌ بها هام قلبي
وتلاشت بها همومي وفكري
أَلِفٌ تألف الخلائقَ بالصَّفْـــ
ـحِ، ولامٌ على الملامة تجري
ثم لامٌ زيادة في المعاني
ثم هاءٌ بها أهيم وأدري
وكذلك هذه الأبيات عن "التوحيد":
ثلاثة أحرف لا عجم فيها
وَمَعْجومــــــــــانِ وَاِنقطـــــــــــع الكلامُ
فمعجمومٌ يشاكل واجديهِ
ومتـــــــــــــــروكٌ يُصَدِّقُهُ الأَنــــــــــــــامُ
وباقي الحرف مرموزٌ مُعَنًّى
فلا سَفَرٌ هناك ولا مُقَامُ
ثم هذه المقطوعة التي يُلْغِز فيها عن "الاتحاد":
يا غافلا لجهالةٍ عن شاني
هلاَّ عرفتَ حقيقتي وبياني؟
فعبادتي لله ستة أحرفٍ
من بينها حرفان معجومانِ:
حرفان: أصليٌّ، وآخرُ شَكْلُهُ
في العُجْم منسوبٌ إلى إيماني
فإذا بدا رأس الحروف أمامها
حرفٌ يقوم مقام حرفٍ ثاني
أبصرتَني بمكان موسى قائمًا
في النور فوق الطُّور حين تراني
فإذا أتينا إلى السمات الفنية لشعر الحلاج فإننا نلاحظ الآتي:
أولا: تكثر في هذا الشعر ألفاظ "الوهم"، و"السر والأسرار"، و"الحق"، و"الوجد"، و"السُّكْر"، و"الـحُبّ"، و"الحبيب"، و"اللقاء"، و"العشق"، و"الشوق" و"النار"، و"الضَّنَى"، و"السقام" و"العذاب"، و"الروح"، و"الكل"، و"البعض والتبعيض"، و"القلب"، و"البحر والبحار"، و"الخوف"، و"القتل"، و"الموت"، و"الهجر"، و"الجفا"، و"مولاي". وكلها، كما ترى، ألفاظ الصوفية، وإن كان بعضها يجري على ألسنة العشاق أيضًا، وأخذها منهم المتصوفة كما هو معروف:
ونفسَك! نفسَك! كن خائفًا
على حذرٍ من كمين الجفا
فإن جاءك الهجر في ظلمةٍ
فسِرْ في مشاعل نور الصفا
وقل للحبيب: ترى ذلتي
فجد لي بعفوك قبل اللِّقا
* * *
العشق في أَزَل الآزال من قِدَمٍ
فيه به منه يبدو فيه إبداءُ
العشق لا حَدَثٌ إذ كان هُو صفةً
من الصفات لـِمَنْ قتلاه أحياءُ
* * *
كذا الحقائق: نار الشوق ملتهب
عن الحقيقة إن باتوا وإن ناؤوا
* * *
لبيك لبيك يا سري ونجوائي
لبيك لبيك يا قصدي ومعنائي
يا كل كلي، ويا سمعي، ويا بصري
...
يا جملتي وتباعيضي وأجزائي
حبي لمــــــــولاي أضنــــــــاني وأسقمــني فكيف أشكو إلى مولايَ مـــولائي؟
كأنني غَــــــــرِقٌ تبــــــــــدو أنامــــــــله
...
تغوُّثًا، وَهْوَ في بحر من الماءِ
إن كنتَ بالغيب عن عيـــنيَّ محتـــــجبًا فالقلب يرعـــــاك في الإبعــاد والنائي
* * *
عذابــــــــــه فيــــــــــــــكَ عـــــــــــــذبٌ
...
وبُعْدُه عنك قُرْبُ
وأنتَ للعَيْن عينٌ
وأنت للقلب قلبُ
حسبي من الحب أني
لِمَا تحبُّ أُحِبُّ
* * *
كتبتُ، ولم أكتب إليك، وإنما
كتبتُ إلى روحي بغير كتابِ
وذلك أن الروح لا فرق بينها
وبين محبيها بفصل خطابِ
* * *
والعلم علمان: مطبوعٌ ومكتَسَبٌ
والبحر بحران: مركوبٌ ومرهوبُ
وخُضْتُ بحــــرًا، ولم ترسبْ به قـــــــدمي خاضتْه روحي، وقلـــبي منه مــرعوبُ
لأن روحي قديمًا فيه قد عطشتْ
والجسم ما مَسَّه مِنْ قَبْلُ تركيبُ
* * *
من أحب الحبيب طار إليه
إشتياقًا إلى لقاء الحبيبِ
* * *
اقتلوني يا ثقاتي
إن في قتلي حياتي
ومماتي في حياتي
وحياتي في مماتي
سئمتْ روحي حياتي
في الرسوم البالياتِ
فاقتلوني واحرقوني
بعظامي الفانياتِ
تجدوا سِرَّ حبيبي
في طوايا الباقياتِ
* * *
لي حبيبٌ أزور في الخلواتِ
حاضرٌ غائبٌ عن اللحظاتِ
هو أدنى من الضمير إلى الوهـ
ـم وأخفي من لائح الخطراتِ
* * *
وغاب عني حفيظ قلبي
عرفتُ سري، فأين أنت؟
أنت حياتي وسر قلبي
فحيثما كنتُ كنتَ أنت
* * *
والله لو حــــــــلف العشــــــاق أنهــــــــمو مَوْتَى من الحـب أو قَتْلَى لما حنثـوا
قوم إذا هُجِــــــروا من بعدما وُصِــــــلوا ماتوا، وإنْ عادَ وَصْلٌ بعده بُعِثـــــوا
* * *
وإني، وإن أُهْجِرْتُ، فالهجـــر صـــاحــبي وكيف يصحّ الهجـر، والحبُّ واحــدُ؟
* * *
قد تصبرتُ، وهل يصـ
ـبر قلبي عن فؤادي؟
مازجتْ روحك روحي
في دُنُوّي وبِعَادي
* * *
لأنوار نور النور في الخلق أنوارُ
وللسر في سر المسرّين أسرارُ
* * *
يا موضع الناظر من ناظري
ويا مكان السر من خاطري
يا جملــــــــــــة الكل التي كلــــــــــــــها
...
أَحَبُّ من بعضي ومن سائري
يَسْرِي وما يدري، وأسراره
تَسْرِي كلمح البارق النائرِ
كسرعة الوهم لمن وَهْمُه
على دقيق الغامض الغائرِ
في لُجّ بحرِ الفكرِ تجري به
لطائفٌ من قدرة القادرِ
إذا سكن الحقُّ السريرةَ ضوعفت
ثلاثة أحوال لأهل البصائرِ:
فحالٌ يُبِيد السِّرَّ عن كُنْه وصفهِ
ويحضره للوجد في حال حائرِ
وحالٌ به زُمَّتْ ذُرَا السرّ فانثنتْ
إلى منظرٍ أفناه عن كل ناظرِ
* * *
وأَطْيَبُ الحبّ ما نَمَّ الحديثُ به
كالنار لا تَأْتِ نفعًا وهْيَ في الحَجَرِ
* * *
فأنت في سرّ غَيْبِ هَمِّي
أخفى من الوهم في ضميري
* * *
لا الوَجْد يدرك غير رسمٍ داثِرٍ
والوجد يَدْثُر حين يبدو المنظرُ
* * *
كفـــــــاك بأن السُّكْــــــــــر أوجــــــــد كـــــــربتي فكيف بحال السُّكْر، والسُّكْرُ أجـــدرُ؟
فحالاك في حالان: صحوٌ وسَكْرَةٌ
فلا زلتُ في حاليَّ: أصحو وأَسْكَرُ
* * *
ســـــرائرُ ســـِرِّي ترجمـــــــانٌ إلى سِـــــــــرِّي إذا ما التقى سـِرِّي وسِــرُّكَ في السِّــــرِّ
وما أَمْرُ سرّ السرّ مني، وإنما
أهيم بسرّ السرّ منه إلى سِرِّي
* * *
لو شــــئتُ كشَّــــفتُ أســـــراري بأســــــراري وبحتُ بالوجـــــد في سري وإضمـــــــاري
لكنْ أغار على مولاي يعرفه
من ليس يعرفه إلا بإنكارِ
...
ما لاح نورك لي يومًا لأُثْبِتَهُ
إلا تنكَّرْت منه أيَّ إنكارِ
* * *
وطينٌ ثم نارٌ ثم نورٌ
وبردٌ ثم ظِلٌّ ثم شمسُ
...
وسُكْرٌ ثم صَحْوٌ ثم شوقٌ
وقربٌ ثم وصلٌ ثم أُنْسُ
......
لأن الخلق خدام الأماني
وحق الحق في التقديس قُدْسُ
* * *
حَوَيْتُ بكُلِّي كُلَّ كُلِّك يا قُدْسِي
تُكاشفني حتى كأنك في نفسي
* * *
هُمُو أهل سرٍّ، وللأسرار قد خُلِقوا
لا يصبرون على من كان فَحّاشَا
* * *
لي حبيبٌ حُبُّه وَسْط الحشا
إن يشأ يمشي على خَدِّي مَشَى
روحه روحي، وروحي روحه
إن يشأْ شئتُ، وإن شئتُ يشا
* * *
عجبــــــتُ لكُلِّي كيف يحملـــــــــــه بعضــــــــي ومن ثقـــــل بعضي ليس تحملـــــني أرضي
* * *
ما زلت أجري في بحار الهوى
يرفعني الموج وأنحطُّ
* * *
وصار كُلِّي قلوبًا فيك واعيةً
للسقم فيها وللآلام إسراعُ
فإن نطقتُ فكُلِّي فيك ألسنةٌ
وإن سمعتُ فكُلِّي فيك أسماعُ
* * *
لما اجتباني وأدناني وشرَّفني
والكلّ بالكلّ أوصاني وعرَّفني
لم يبـــــــــق في القلب والأحشـــــاء جــــــــارحةٌ إلا وأعـــــــــــرفه فيـهـــــــا ويعــــــــرفـــــــــني
* * *
جُبِلَتْ روحك في روحي كما
يُجْبَل العنبر بالمِسْك الفَتِقْ
* * *
فأنا الحق حُقَّ للحَقِّ حَقُّ
لابسٌ ذاتَه، فما ثَمَّ فرقُ
* * *
باحتْ بما في الضمير يكتمه
دموعُ بَثٍّ بسرِّه نطقتْ
* * *
اتحد المعشوق بالعاشق
ابتسم الموموق للوامق
* * *
أنا سقيم عليل
فدَاوِني بدواكْ
أُجْرِي حُشَاشة نفسي
في سُفْن بحر رضاكْ
* * *
أيا مولاي، دعوة مستجير
بقربك في بِعَادك والتسلِّي
* * *
هيكليُّ الجسم، نُورِيّ الصميمْ
صَمَدِيّ الروح ديانٌ عليمْ
عاد بالروح إلى أربابها
فبَقى الهيكل في التُّرْب رميمْ
* * *
أشار لحظي بعين عِلْمِ
بخالصٍ من خفيِّ وَهْمِ
ولائح لاح في ضميري
أدقّ من فَهْمِ وَهْم هَمِّي
فخضتُ في لُجّ بحر فكري
في مركبٍ في رياح عزمي
...
قد وسم الحب منه قلبي
بميسم الشوق أيَّ وَسْمِ
* * *
شيء بقلبي، وفيه منك أسماءٌ
لا النورُ يدري به، كلا، ولا الظُّلَمُ
ونور وجهك سِرٌّ حين أَشْهَدُهُ
هذا هو الجودُ والإحسانُ والكرمُ
* * *
روحه روحي، وروحي روحه
مَنْ رأي روحين حَلَّتْ بدنا؟
* * *
مالي بغيرك أنسُ
إذ كنتَ خوفي وأمني
* * *
لم يبق بيني وبين الحق تبياني
ولا دليلٌ بآياتٍ وبرهانِ
* * *
هذا تجلِّي طلوعِ الحق: نائرة
قد أزهرتْ في تلاليها بسلطانِ
لا يعرف الحقَّ إلا من يعرِّفه
لا يعرف القِدَميَّ المُحْدَثُ الفاني
* * *
قد تحققتُك في سـ
ـري فناجاك لساني
...
فلقد صيَّرك الوجـ
ـد من الأحشاء داني
* * *
إذا كان نعت الحق للحق بَيِّنًا
فما باله في الناس يخفى مكانُهُ؟
* * *
خاطبني الحق من جَنَاني
فكان علمي على لساني
* * *
ألا أبلغ أحبّائي بأني
ركبتُ البحر، وانكسر السفينهْ
* * *
إنّ كتابي يا أنا
عن فَرْط سُقْمٍ وضَنَى
وعن فؤادٍ هائمٍ
وعن سَقامٍ وعَنَا
...
أتلفتُ فيه مهجتي
وصار شوقي دَيْدَنَا
...
مالي رُمِيتُ بالضنى
وبالصدود والوَنَا؟
* * *
نورك المبصر حقًّا
لعياني لعياني
...
أنا في الحب قتيلٌ
ومع الأحباب فاني</st